Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الدياسبورا" الجزائرية ثروة مشتتة وصوت ضائع

لم تتمكن الأنظمة المتعاقبة من الاستثمار في عبقرية هذه القوة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية

تعاني "الدياسبورا" الجزائرية حملة إعلامية يقودها اليمين المتطرف العنصري (أ ف ب)

ملخص

إن عدد "الدياسبورا" الجزائرية المقيمة بفرنسا وحدها قد بلغ خمسة ملايين نسمة، وربما ثمانية ملايين بحسب بعض الإحصاءات غير الرسمية. لقد كانت هذه "الدياسبورا" ذات الحضور العددي والنوعي الوازن مؤثرة وفاعلة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في بلد الاستقبال، بلد الضيافة.

تعد الجزائر واحدة من أكبر الدول الأفريقية التي تملك خزاناً بشرياً وثقافياً وعلمياً في الخارج، إنها "الدياسبورا" التي تعدّ بالفعل كنزاً وطنياً لا يقدّر بثمن، لكن للأسف، لم يؤخذ في الاعتبار عينه من قبل الأنظمة السياسية المتعاقبة على البلد منذ الاستقلال عام 1962، بل الأدهى والأمر من ذلك هو النظر إلى هذه القوة البشرية والاقتصادية بعين الريبة والخوف والتشكيك في وطنيتها، لا لشيء إلا لأنها تعيش على أرض المستعمر القديم، أي فرنسا، من هنا فـ "الدياسبورا" الجزائرية تعاني أحكاماً مسبقة وهي في غالب الأحيان مشيطنة سياسياً وثقافياً في الداخل.

لم تتمكن الأنظمة الجزائرية السياسية المتعاقبة من الاستثمار في عبقرية هذه القوة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وقد ضيّعت البلاد الكثير، ولأن "الدياسبورا" وجدت نفسها مهمشة قابلت هذا الوضع بالمثل، فأدارت هي الأخرى ظهرها لبلدها الأصلي. وظل الوضع يتراكم مع تراكم الخلافات والصراعات بين فرنسا والجزائر، وكلما تأزمت العلاقة بين البلدين كانت "الدياسبورا" أول من يدفع ثمن ذلك.

لكنني أعتقد بأن كل شيء ممكن وكل أمر مستدرك، فقط يكفي وجود إرادة سياسية جديدة وثابتة حتى تعود المياه إلى مجاريها.

إن عدد "الدياسبورا" الجزائرية المقيمة في فرنسا وحدها بلغ خمسة ملايين نسمة، وربما ثمانية ملايين بحسب بعض الإحصاءاات غير الرسمية. لقد كانت هذه "الدياسبورا" ذات الحضور العددي والنوعي الوازن مؤثرة وفاعلة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في بلد الاستقبال، بلد الضيافة. لقد بنيت فرنسا بعد الحربين العالميتين على أكتاف الجزائريين خصوصاً، فهم من حرّكوا عجلة الصناعة والفلاحة والعمران والخدمات الصغيرة التي تشكل روح الحياة اليومية.

وتعاني هذه "الدياسبورا" الجزائرية حملة إعلامية يقودها اليمين المتطرف العنصري الذي لم يبلع بعد هزيمة فرنسا في الحرب التحريرية الجزائرية 1954-1962، لتشويه صورتها بالتركيز على صورة بعض الشباب والمراهقين من ذوي الأصول الجزائرية أو المغاربية الذين يقومون بأعمال تخريبية وسلوكيات عنيفة وتعاطي المخدرات، ويقدم الإعلام اليميني الموجه هذه الصور بديلاً عن الوجه الإيجابي لما تنتجه هذه "الدياسبورا" في عمومها من خيرات لمصلحة البلد المستضيف أو البلد الأصلي أو الإنسانية.

لقد ولدت الأفكار الوطنية وفكرة الاستقلال نفسها داخل أوساط "الدياسبورا" التي كانت تتعاطى بصورة إيجابية مع النقابات العمالية اليسارية الفرنسية وكانت منتظمة ونشطة فيها، وهي التي شكلت بحق المدرسة الحقيقية لولادة حركة التحرر الوطني الجزائرية بمفهومها الحديث والمعاصر.

على المستوى الثقافي، ومنذ منتصف القرن الماضي، حتى والجزائر لا تزال تحت السلطة الاستعمارية، شرع المثقفون، وبالأساس، الأدباء والإعلاميون في فرض نصوصهم على القارئ سواء في "المتروبول" أو في المستعمرة، من أمثال محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد وجون عمروش وطاوس عمروش ومولود معمري ومولود فرعون وآسيا جبار ونبيل فارس ومراد بوربون وغيرهم، وبقدر ما كانت تشكّل هذه النخب من خلال كتاباتها مفخرة الاستقلاليين كانت مثار غضب القوى الاستعمارية.

إن جيلاً جديداً من الكتاب باللغة الفرنسية يواصل ما قام به العمداء في الخمسينيات والستينيات من خلال نصوص روائية وشعرية مميزة بعضها مرتبط بالتاريخ وبعضها يسائل الواقع الجزائري الجديد، ومرات بنقد حاد، من أمثال بوعلام صنصال وياسمينة خضرا وكمال داود وأنور بن مالك وكوثر عظيمي ومليكة مقدم وعبدالقادر جمعي وغيرهم.

لكن لم تتمكن الجزائر، وللأسف، من مصالحة هذه الأقلام التي لها صدى في الأوساط الأوروبية مع بلدها الأصلي، وهناك توتر ما يتصاعد ويخمد، لقد حان الوقت لكي تتوحد وتتجمع هذه "الدياسبورا" الإبداعية الأدبية بعد أن ظلت طويلاً مشتتة، لكن لن يكون ذلك ممكناً إلا في ظل مناخ ديمقراطي حرّ، بعيداً من أية وصاية سياسية أو أيديولوجية، إن "الدياسبورا" الأدبية الجزائرية يمكنها أن تكون أحسن سفير وأقوى سفارة للبلد الأصلي إذا ما حافظنا على حريتها واحترمنا حقها في التنوع والاختلاف والنقد.

لا تتوقف عبقرية "الدياسبورا" الجزائرية عند الإنتاج الأدبي الجيد والمقروء بصورة مميزة في أوروبا والعالم الفرنكفوني، بل هناك نخب إبداعية في مجالات أخرى تصعد يومياً وتحقق حضوراً لافتاً جيلاً بعد جيل ومع كل موسم، ويتأكد ذلك في السينما من خلال تجارب مميزة لمرزاق علواش وعبدالكريم بهلول وسعيد ولد خليفة ومالك بن إسماعيل ورشيد بوشارب ولياس سالم ومحمود زموري وغيرهم، كما يعرف المسرح والفن التشكيلي والموسيقى حضور أسماء جزائرية كثيرة ومبدعة.

إن "الدياسبورا" الجزائرية ولّادة ومبدعة في جميع الميادين، فهناك أسماء لمشاهير كثر في العلوم والتكنولوجيا، وبفخر كبير تسجل الجزائر آلاف الأسماء لأساتذة في الطب وباحثين في أكبر المخابر العالمية المرجعية، والمؤسسات الاستشفائية الفرنسية جميعها لا تخلو من خبرات جزائرية، هي أسماء من ذهب تشكل فخر البلد الأصلي والبلد الحاضن.

لكن ها هنا أيضاً، لا يوجد تنظيم واحد كفيل بتجميع هذه القوى العلمية، بطبيعة الحال بعيداً من كل استثمار سياسي موسمي أو أيديولوجي، ووضعها في مصلحة ترقية البلاد الأصلي اقتصادياً وعلمياً وصحياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إنهم كثر الأساتذة الجزائريون الذين يشغلون مناصب علمية عالية في الجامعات الفرنسية الكبرى ويشرفون على فرق بحوث متعددة وفي ميادين مختلفة تابعة لمراكز بحوث معترف بها دولياً، لكن، وللأسف، الجامعات الجزائرية لا تستفيد من هذه الطاقات الاستثنائية، بل في كثير من المرات تعمل وبقصد على غلق الباب في وجهها ورفض كل تعاون معها.

وعلينا أن نسجل تغييراً جوهرياً حدث في بنية عقلية "الدياسبورا" الجزائرية، بخاصة الجيل الجديد منها، فبعد أن كان الجزائري يكتفي بالمغامرة في الأدب والثقافة والفنون والعلوم والإدارة والتجارة، فها هو يقتحم ميدان السياسة، فخلال العشريتين الأخريين، وبالأساس مع مطلع الألفية الثالثة، لاحظنا الاهتمام الذي بدأ يوليه الجزائري للانتخابات المحلية والأوروبية والمشاركة فيها بقوة وأيضاً الانضمام إلى مختلف الأحزاب السياسية الناشطة من اليسار واليمين والوسط على حد سواء.

أمام هذه اللوحة الثرية، على الجزائر أن تقوم بوضع سجل إحصائي لكل هذه الطاقات الخلاقة التي تعيش في المهجر، والعمل على فتح حوار شفاف ديمقراطي وحرّ معها، بعيداً من كل استثمار مناسباتي، بل برؤية تاريخية مستقبلية يكون المستفيد منها هي الجزائر والجزائري.

إن الجزائر المتعددة، الجزائر التي حلم بها الشهداء، هي بحاجة وبسرعة إلى جميع أبنائها، أولئك الذين بالداخل كما الذين في المهجر.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء