ملخص
يهيمن مفهوم يصفه الأطباء وعلماء النفس والاجتماع والحقوقيون من غير المتأثرين بالقيود الثقافية والعادات المتوارثة بـ"الخاطئ"، ويتمثل في أن قدرات النساء والفتيات، سواء الجسدية أو العاطفية، تضعف بسبب الدورة الشهرية. هذا المفهوم يؤثر سلباً في الفرص المتاحة للنساء والفتيات، وأحياناً يحرمهن منها تماماً.
في رمضان تتظاهر فتيات ونساء بأنهن صائمات، حتى في داخل بيوتهن، على رغم أنهن لسن كذلك. وفي المدارس التي "تفرض" الصلاة جماعة على طالباتها، هناك من تتوجه إلى المسجد وتتظاهر بأنها تصلي. وبين المراهقات من يخفين عن أمهاتهن بلوغهن حرجاً وخجلاً وخوفاً.
توليفة الحرج والخجل والخوف نفسها هي التي تدفع بعضهن إلى الوقوف عند باب الصيدلية انتظاراً لخلوها من العملاء تماماً، قبل أن تدخل لتشتري ما تحتاج إليه. أما الصيدلي فيحرص على الإبقاء على بضع صحف قديمة أو أكياس بلاستيكية سوداء تحسباً لبيع هذه المنتجات. تتسلّم الفتاة أو السيدة "المنتجات"، وتهرع إلى الخارج، وهي تتلفّت حولها خوفاً من أن يلمحها أحد معارفها أو أقاربها وهي متلبسة بـ"الدورة الشهرية".
عادة لا نجاسة
الدورة الشهرية، على رغم ما يبدو من اسمها أنها مرتبطة بمواعيد محددة تجعل منها "عادة شهرية" لا فرار منها، فإنها تتعرّض لمحاولات التمويه والتضليل والتدليس، إذ غاية الإخفاء والتجهيل تبرر الكذب والخداع والادعاء بأن "النجاسة" لا تلازمها، و"الاتساخ" ليس سمتها، وأنها "طاهرة".
اقترنت مسميات ومفردات تدور في حلقة النجاسة والاتساخ والتدنيس بالدورة الشهرية التي هي بحسب العلم والطب، وفي ضوء الخليقة منذ أصبح هناك ذكر وأنثى، جزء طبيعي وصحي من حياة كل فتاة وامرأة. هذا الجزء الطبيعي هو ما ينتج منه ولادة "الجزء غير الطبيعي" ممن يعدون دورة الإناث الشهرية نجاسة وقذارة ووساخة، وأقرانهم ممن يسألون إن كان كل ما تمسّه المرأة في أثناء دورتها الشهرية نجساً أم نصف نجس أم قذراً فقط!
هذا الجزء أيضاً هو من يمطر رجال الدين أسئلة مثل، "كيف أستمتع بزوجتي وهي حائض؟"، و"هل أكون آثماً إن جامعت زوجتي أثناء الدورة الشهرية؟"، و"ما بدائل الجماع في أثناء حيض زوجتي؟"، و"هل يحق لي الزواج عرفياً بأخرى في أثناء دورة زوجتي الشهرية؟ وماذا لو حاضت الثانية في الوقت نفسه؟".
بالطبع، لا تتطرق الأسئلة إلى رغبة الزوجة أو قدرتها على العلاقة من الأصل، لكن تبقى أسئلة الدورة الشهرية ضمن أكثر الأسئلة الموجهة لـ "رجال" الدين الذين يحددون مدة الدورة الطبيعية وحدود الاستمتاع وقيود التصرفات وسبل الانتقال الشهري من مرحلة "النجاسة" إلى "الطهارة".
وقعت الملاكمة المصرية المتأهلة للألعاب الأوليمبية باريس 2024 يمنى عياد، التي لم يسمح لها بالمشاركة لتُحرَم من المشاركة النسائية المصرية والعربية الأولى في الملاكمة، ضحية لوصمة تاريخية وثقافية اسمها "وصمة الدورة الشهرية".
كل تفصيل من تفاصيل الواقعة لا يعكس إلا تمكناً تاماً للوصمة من الجميع. خبر استبعاد عياد من المنافسات بسبب زيادة وزنها 700 غرام قوبل بسيل فياض من السخرية والتنكيت تارة، والغضب والمطالبة بالتحقيق معها، وطردها من اللعبة تارة أخرى، وذلك على أثيري الصحافة "الرصينة" والـ "سوشيال ميديا".
مرّت الساعات ثقيلة بطيئة عقب خبر الاستبعاد، وذلك قبل أن تبدأ أخبار اللف والدوران في التواتر. تصريحات اتحاد الملاكمة المصري دارت حول أن اللاعبة شربت الماء صباحاً فزاد وزنها وتمرنت لتخفض الوزن لكن لم تنجح، وظروف السفر والطيران تسببت في زيادة وزن اللاعبة، ثم إعلان خضوع اللاعبة للتحقيق، في حين دارت دوائر الـ "سوشيال ميديا" حول "حلة المحشي التي ضربتها (أكلتها) اللاعبة حتماً"، أو "الشطة الحارة الزائدة في الباذنجان المخلل" وغيرها من دعابات التنمر، وذلك قبل أن يخرج بيان رسمي بـ "الخبر اليقين".
"عانت اللاعبة عند وصولها إلى باريس زيادة في الوزن ناتجة من ظروف وملابسات يوم السفر والطيران، ثمّ استطاعت تحقيق الوزن الخاص بعد اتباعها برنامجاً خاصاً في الأيام السابقة للمنافسة، وبعد وصولها إلى باريس. فُوجئت اللاعبة بتغيرات فسيولوجية وهرمونية مفهومة لكل السيدات والآنسات والأطباء، ونتحفظ على ذكر التفاصيل طبقاً لأعرافنا وتقاليدنا المصرية، وحفاظاً على حقوق ونفسية اللاعبة".
الوصمة والخلل
"التحفظ عن ذكر التفاصيل طبقاً للأعراف والتقاليد" أو "الوصمة" أو "العار" أو "العيب" أو الأسماء الحركية مثل "إكس" و"خالتي" و"عمتي" و"العادة" جميعها أعاد تسليط الضوء على الدورة الشهرية، "فضيحة" و"عار" كل أنثى، إلا لو كانت تعاني خللاً هرمونياً أو حالاً مرضية ما، تحول دون حدوث الدورة الشهرية، أو بلغت سن توقفها. إنها الضوء الذي تخشاه مجتمعات، ويثير ضحك الفتية وقهقهات الشباب وتلسينات الرجال وحرج وخوف وذعر وخجل الإناث، ولمَ لا؟ وهو "دم فاسد" حيناً، ويجعل صاحبته مفتقدة الطهارة ومشاراً إليها بالتلسين أو السخرية، بل ويصل الأمر إلى درجة رشقها بتعليقات ذات طابع جنسي للتمتع برؤية تصبب عرق الخجل أو دموع الحرج، وحبذا كلاهما.
ليس هذا فقط، بل إن محاولات مواجهة وصمة الدورة تقابل في بعض المجتمعات، لا سيما الشرقية والعربية، بعداء وتوليفة اتهامات تراوح ما بين التشبه بالغرب والتحرر الزائد وإفساد أخلاق الإناث وجعل وجوههن مكشوفة إذ لا حياء أو خجل.
يشار إلى أن نصوصاً وتفسيرات في الديانة اليهودية تعد المرأة والفتاة "ملوّثة" أو "غير نقية"، وتجبر على الابتعاد عن زوجها، والنوم في فراش منفصل. كما تحول الثقافة الدينية لدى بعض من الطوائف اليهودية دون الحديث عن الدورة الشهرية باعتبارها من المسائل الشائنة التي يجب عدم التطرق إليها.
الطريف واللافت أن كل هؤلاء الساخرين والرافضين والواصمين والمعتبرين الدورة الشهرية مناقضة للعادات ومضادة للتقاليد أتوا إلى الدنيا لأسباب تتعلق بالدورة الشهرية في الـ 28 من مايو (أيار) من كل عام، يحتفي العالم بـ "اليوم العالمي للنظافة الصحية أثناء الدورة الشهرية". قلما تلقى المناسبة اهتماماً من قبل المجتمعات الواصمة للدورة. يمكن الحديث عن الحمل، والتوعية في شأن صحة الجنين، ورفع كفاءة عيادات الأسرة وتنظيمها، لكن الدورة الشهرية تظل "إكس".
حار المهتمون بالمسميات في تفسير الاسم الكودي "إكس" الذي يطلقه البعض على الدورة، لكن الاجتهاد يشير إلى ارتباط الحرف بكل ما هو ممنوع أو مجهول أو غامض. الحرف مرتبط في أذهان الجميع، في الشرق والغرب، بالنفي والرقابة والأفلام والمحتوى الخارج عن الآداب أو غير المناسب لمن هم دون سن معينة. حتى أن المحيطين بالبليونير الأميركي إيلون ماسك نصحوه بعدم اختيار اسم "إكس" لمنصة "تويتر" بعد استحواذه عليها، لما للحرف من إيحاءات وتلميحات جنسية، لكنه تمسك به.
الأنثى لا تتمسك بالدورة أو تتخلى عنها. هي جزء من تكوينها. وبحسب "صندوق الأمم المتحدة للسكان"، فإن أية امرأة على وجه الأرض تمضي بين ثلاثة وثمانية أعوام من عمرها في الحيض (الدورة الشهرية). وعلى رغم ذلك، فإن المفاهيم الخطأ، وسوء إدارة الدورة الشهرية من أبرز المعوقات التي تحول دون قدرة النساء على ممارسة حياتهن الطبيعية، وبالطبع التمتع بحقوقهن الإنسانية الأساسية.
الربط بين القيود وهالات العيب والخجل المفروضة على الدورة الشهرية من جهة وخرق حقوق الإنسان من جهة أخرى يرسم ابتسامات ساخرة أو منددة أو مسفهة على كثير من الوجوه. ما علاقة حقوق الإنسان بالامتناع عن الحديث أو النقاش حول الدورة الشهرية للنساء؟ صندوق الأمم المتحدة للسكان يحذّر أن التقاليد الضارة والعادات غير المنطقية يمكن أن تحول الدورة الشهرية إلى فترة دورة حرمان ووصم. وحين تضاف عوامل مثل عدم المساواة بين الجنسين والفقر الشديد والأزمات الإنسانية، "يصبح الحيض قضية من قضايا حقوق الإنسان"، أو بالأحرى ضرب عرض الحائط بحقوق الإنسان.
التصوّر بأن الحيض قذر أو مخجل يُسهم في تعقيد القيود التي تواجهها النساء والفتيات أثناء فترة "النزف المهبلي". إنه تصور موجود في كثير من البلدان، إن لم يكن في معظمها. يمنع عليهن تناول بعض الأطعمة، ويحظرن في الأماكن الدينية، بل ويطلب منهن في بعض المجتمعات عزل أنفسهن بعيداً لحين انتهاء الدورة. وبين النساء والفتيات من يفرضن عزلة اختيارية على أنفسهن. فلا مشاركة في أنشطة مدرسية أو فعاليات اجتماعية أو ألعاب رياضية خوفاً من بقعة أو ما يشي بأنهن في فترة الدورة الشهرية.
تنتهي الدورة هذا الشهر بكل ما تفرضه من قيود وعزلة وحرج وخوف، لتبدأ الشهر المقبل، وهكذا. وهذا يعني أن حياة النساء والفتيات في كثير من البلدان هي عبارة عن خروج من حلقة خوف وحرج، وانتظار الحلقة المقبلة، وذلك لحين بلوغها سن انقطاعها.
ويهيمن مفهوم يصفه الأطباء وعلماء النفس والاجتماع والحقوقيون من غير المتأثرين بالقيود الثقافية والعادات المتوارثة بـ"الخاطئ"، ويتمثل في أن قدرات النساء والفتيات، سواء الجسدية أو العاطفية، تضعف بسبب الدورة الشهرية. هذا المفهوم يؤثر سلباً في الفرص المتاحة للنساء والفتيات، وأحياناً يحرمهن منها تماماً.
يشار إلى أن الأطباء ظلوا حتى القرن الـ 19 يشككون في قدرات المرأة، ويعتقدون أنها كائن غير مسؤول بسبب الدورة الشهرية. تقلصت هذه الأفكار، لكنها لم تختف، ولا تزال تهيمن في دول وثقافات عدة، بعضها عربية. وكثيراً ما تواجه النساء، بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، تعليقات مهينة حول الدورة الشهرية، وتأثيرها في حالتهن الجسدية أو العاطفية. كما يستبعدن من مناصب قيادية عدة بسبب تلك الأفكار، التي لا تتم المجاهرة بها بالضرورة.
حاضت؟ فلتتزوج!
"حاضت؟ فلتتزوج إذاً!" متلازمة لا تكشف إلا عن العوار المتصل بمكانة الأنثى وربط جسدها وتطوراته بشؤون النكاح والتكاثر. التقارير الأممية تؤكد أن حدوث الدورة الشهرية للمرة الأولى يرتبط في مجتمعات عدة باستعداد الفتاة للزواج أو النشاط الجنسي.
زواج الأطفال، والعنف الجنسي الموجه للطفلة والمراهقة، والإكراه على النشاط الجنسي، والحمل المبكر جميعها ذات صلة وثيقة بالمفاهيم المرتبطة بالدورة الشهرية. صحيح أن حدوث الدورة الشهرية هو ضمن مؤشرات الخصوبة البيولوجية، غير أنها لا تعني أن الفتاة وصلت درجة النضج العقلي أو العاطفي أو النفسي أو البدني المطلوبة في الزواج، ناهيك برغبتها في ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهة أخرى، وكأنّ كل ما سبق من ارتباط شرطي في أدمغة البعض بين الدورة الشهرية وضرورة تزويج الفتاة أو إقامة علاقة جنسية معها لا يكفي، فإن حدوث الدورة الشهرية في بعض الأحوال لدى طفلات لا تتعدى أعمارهن السابعة أو الثامنة يزج بهن في بعض المجتمعات في خانة الزواج، وبينهم من يلتحف بالدين وبعض التفسيرات التي تتيح زواج الطفلة، حتى لو تم تكن قد بلغت بعد!
يشار إلى أن الزواج والعلاقة الجنسية والحمل والولادة المبكرة تمثل أسباباً رئيسة في وفاة اليافعات في الفئة العمرية بين 15 و19 سنة.
وبعيداً من ارتباط الدورة الشهرية بالشعور الملح في الزواج في بعض المجتمعات، فإن للفقر والأزمات الإنسانية صلات وثيقة بجعل الدورة الشهرية لملايين الفتيات والنساء كابوساً إضافياً، مع استمرار كابوس الوصمة.
الفقر المادي يحول دون حصول كثيرات على اللوازم الصحية للدورة الشهرية. ويصل الأمر بالبعض إلى "النضال" من أجل الوصول إلى مرافق نظيفة وآمنة، إضافة إلى "نضال" الحصول على المنتجات الصحية لذوات الدخل المنخفض.
وهناك آلاف الحالات لطالبات يتوقفن عن الذهاب للمدرسة طيلة أيام الدورة الشهرية، وذلك لانخفاض دخل الأسرة مما يحول دون حصولهن على لوازم طبية تقيهن الحرج. كما تواجه الإناث في ملاجئ المشردين والأيتام والسجون مشكلة توفير هذه اللوازم أيضاً.
الدورة في الصراعات
وبالطبع، تتحمل الفتاة والمرأة في أوضاع الحروب والصراعات واللجوء والنزوح ضعف المعاناة في أيام الدورة الشهرية، وهي معاناة كثيراً ما يجري تجاوزها أو تجاهلها من قبل التغطيات الإعلامية، سواء باعتبارها أموراً هامشية أو تافهة مقارنة بالوفيات والإصابات والدمار، أو لأنها مسائل محرجة لا يصح لمراسل حربي أن يتطرق لها!
على سبيل المثال لا الحصر، وبحسب تقرير صادر عن "هيئة الأمم المتحدة للمرأة" في أبريل (نيسان) الماضي، فإن بديهية المياه النظيفة اللازمة لتمكن الإناث في غزة من إدارة نظافتهن الشخصية أثناء الدورة الشهرية غير مضمونة. والحاجة إلى نحو 10 ملايين فوطة صحية، أو 4 ملايين فوطة صحية يعاد استخدامها شهرياً لتغطية حاجات نحو 690 ألف فتاة وامرأة غير ملبى غالبها.
النسبة الأكبر من الفتيات والنساء في غزة يلجأن إلى استخدام قطع القماش المقطوعة من ملابس قديمة أو قطع إسفنج في أثناء الدورة الشهرية، وتلجأ بعضهن إلى تناول حبوب منع الحمل لمنع الدورة لعدم توفير مستلزماتها الصحية التي تقيهن الحرج. وعلى رغم ذلك، لا يزال هناك من يرى أن التغطيات الإعلامية والحديث العلني عن مثل تلك المآسي أمر غير لائق.
الأمر غير اللائق حقاً هو مضاعفات عدم توافر هذه المستلزمات، سواء بسبب ظروف الصراع أو لحرج الحديث عنها أو الشعور بأنها ليست أولويات. في أحد مجتمعات اللاجئين السوريين في المخيمات، أفاد عاملون صحيون قبل نحو عامين بارتفاع معدلات الالتهابات المهبلية، وذلك بسبب قلة النظافة الشخصية في أثناء الدورة الشهرية، لعدم توافر اللوازم والمياه النظيفة.
لحسن الحظ أن النساء والفتيات في دول ومجتمعات أخرى يحظين باللوازم والمياه النظيفة، لكن تظل الدورة الشهرية وصمة تطاردهن وعيباً يأبى أن يخفف قبضته عليهن إلى أن تتوقف الدورة بحكم السن.
في السن الصغيرة في بعض المجتمعات والثقافات وبعضها في المنطقة العربية، يحظر حتى الحديث عن الدورة الشهرية، وتجهيز الفتيات لها قبل حدوثها. فالحديث عيب والشرح محرج والتفسير مذموم والنطق باسمها قد يستدعي العقاب.
"جاءتني"، "خالة وردة"، "الجيش الأحمر" وغيرها كثير من المسميات التي تستخدمها نساء المجتمعات الواصمة للدورة، وذلك للالتفاف على ذكر اسمها. هكذا استهلت "منظمة العفو الدولية" تقرير ورقتها المعنونة "دعونا نتحدث عن الدورة الشهرية وعن النساء اللواتي يكسرن المحرمات المحيطة بها" (2019) في محاولة لكسر تابو التلفظ باسم الدورة الشهرية.
في مصر، لاقت إحدى محاولات كسر التابو قبولاً وترحيباً من قبل من كسروه بالفعل، وصدمة متراوحة بين التفكير في المستحيل ورفض الفكرة من ألفها إلى يائها. أنجزت مجلة "هوات ويمن وانت" (ما تريده النساء) المصرية التي تصدر بالإنجليزية مقطعاً على "تيك توك" عنوانه "تعرفون أن البيريود أو الدورة الشهرية ليس لها أسماء أخرى؟!" تحدثت فيه عدة شابات ونساء ملهمات، وملخص ما جاء هو، "البيريود مش ظروف. أنا عندي البيريود، ما عنديش ظروف".
أقصى ما يمكن أن تحققه المرأة أو الفتاة في مصر مثلاً إن امتلكت الشجاعة لتجاهر بسبب عدم الصلاة أو الصيام أو غيرهما، فتقول "عندي ظروف". أما قول: "عندي البيريود"، وعلى رغم أن الكلمات الإنجليزية تخفف أحياناً وطأة الشتيمة أو الكلمة الخارجة أو الدورة الشهرية، فإن مسمى "بيريود" بات معروفاً، ولذلك لحق بأقرانه من المحظورات. "دعونا نتكلم عن البيريود" Let’s talk about the period عنوان ووسم يستخدمه كثير في دول غربية لكسر ما تبقى من وصمة مرتبطة بالدورة الشهرية أو حرج متصل بها.
العادات والتقاليد والهرمونات
ويبقى البحث مستمراً في الأسباب التي تدفع اتحاداً رياضياً إلى تأكيد فكرة الوصمة والعيب المرتبطين بالدورة الشهرية، وهو ما ظهر جلياً في إشارة اتحاد الملاكمة المصري في بيانه حول اللاعبة يمنى عياد وتفسير زيادة وزنها بعد حجج شرب الماء وظروف السفر بـ"تغيرات فسيولوجية وهرمونية تحول العادات والتقاليد المصرية دون ذكرها".
المحامية والناشطة في حقوق النساء المصرية نهاد أبو القمصان أبدت تعجبها وغضبها من نهج الاتحاد على صفحتها على "فيسبوك". تساءلت: "ما الذي تعنيه لا مؤاخذة تغيرات فسيولوجية وهرمونية؟! البيان وتصريحات المسؤولين تعد سلسلة من الجرائم في حق لاعبة بطلة، وجريمة استخفاف بعقول المصريين. هي لا مؤاخذة الدورة الشهرية أصبح اسمها تغييرات؟ أليست هذه هي الدورة التي تحدث لأمهات حضراتكم، وسبب وجودكم في هذه الحياة؟ أليست هذه الدورة الشهرية سبب استمرار الكون وسر الوجود؟ وهي الدورة الشهرية تأتي فجأة أم كل أربعة أعوام أم كل شهر؟ وهل هذه أول رياضية؟ وماذا عن لاعبات السباحة الإيقاعية وكله فتيات؟".
وقالت أبو القمصان إن بيان الاتحاد لا يعكس إلا غياب احترافية، وعدم علم. مضيفة أن "الدولة التي يغيب فيها القانون والمحاسبة، يحدث فيها ما هو أكثر من ذلك". ووجهت حديثها إلى البطلة الرياضية يمنى عياد، وكتبت: "نحن آسفون يا يمنى عياد يا بطلة. المشكلة ليست لديك، بل لدى من يفترض أنهم كبار. وأقول لمن أعد البيان أن الدورة الشهرية عند البنات والسيدات فخر وشرف كرمنا الله به، وحملنا أمانة استمرار الكون. ولولاها لما ولد أي من بكوات عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا".
الناقد الرياضي ياسر أيوب رأى في "عاداتنا وتقاليدنا" التي تحول دون ذكر سبب زيادة وزن الرياضية ومن ثم منعها من المشاركة في حلم الأولمبياد رغبة من الاتحاد في إنهاء المسألة وعدم مناقشتها وإغلاق الباب أمام طرح الأسئلة، "لأن الأمر يتعارض مع الأعراف والتقاليد المصرية"، أي إنه أسلوب ترويع وتخويف إذ وصمة الحديث عن الدورة الشهرية من شأنها أن تردع كل من تسول له نفسه الحديث عما جرى.
يقول أيوب في مقال عنوانه "يمنى عياد ضحية من؟"، "المؤكد أن أي حديث رياضي عن اللاعبات والدورة الشهرية لا يمس أخلاق المجتمع أو ينتقص منها، لذا يمكن بهدوء واحترام الجميع مناقشة تفاصيل كثيرة".
يطرح أيوب، وهو طبيب في الأصل، تفاصيل عدة، منها أن الاستعانة بطبيبة ترافق يمنى كان أهم وأجدى من معسكرات الإعداد في الخارج قبل المنافسات، لا سيما أن الدراسات الحديثة عن رياضيات العالم تؤكد عدم وجود قواعد ثابتة يمكن تطبيقها على كل اللاعبات، فهناك من تتأثر بأوجاع الدورة الشهرية وأعراضها، ومعظم اللاعبات يتناولن أقراص منع الحمل قبل البطولات حتى لا تفاجئهن الدورة الشهرية أثناء اللعب.
وأشار أيوب إلى عامل التغيرات الحادة في الحال النفسية لدى بعض الإناث، وتساءل: "هل لم ينتبه أحد في بعثة الملاكمة لأي من هذه التغيرات؟ أم أن الاهتمام فقط كان بالميزان، وليس الحال الصحية والنفسية ليمنى؟!".
يشار إلى أن اللجنة الدولية المنظمة لأولمبياد باريس 2024 تطرقت إلى الدورة الشهرية لدى اللاعبات، وفتحت باب النقاش قبل أشهر لمن تريد المشاركة من اللاعبات. وكانت بطلة السباحة الصينية فو يوانهوي التي مثلت بلادها في أولمبياد ريو دو جانيرو عام 2016 كسرت تابو الحديث عن الدورة الشهرية وأثرها في أداء اللاعبات، وذلك بعدما أخفقت في تحقيق ميدالية كانت متوقعة لها. وظهرت يوانهوي في حديث تلفزيوني، وهي تقول إن الدورة الشهرية جاءتها في الليلة السابقة للبطولة، وأصابتها بحال من الضعف والتعب الشديدين، لكنها أضافت: "هذا ليس عذراً، فأنا لم أسبح بصورة جيدة".