ملخص
في الجزء الثاني من ملف خطف مساعد الطيار الإسرائيلي رون أراد وارتباط مصيره بمصير الإيرانيين المفقودين في لبنان وعملية خطف مصطفى الديراني، تدخل "اندبندنت عربية" في تفاصيل رسائل بريطانية سرية تتطرق إلى صحة المزاعم الإسرائيلية لاختطاف الديراني، تفاصيل عن عملية الاختطاف، وكذلك جهود لبنان أممياً المعترضة على ما قامت به إسرائيل حينها في لبنان.
ما بين عامي 1986 و1994، عملت إسرائيل جاهدة على معرفة مصير مساعد الطيار الإسرائيلي رون أراد، بمساعدة غربية تحديداً من بريطانيا، على معرفة مصيره بعدما سقطت طائرته فوق لبنان، وربطت محاولات الوصول إليه بمصير أربعة دبلوماسيين إيرانيين اختفوا أيضاً في لبنان عام 1982، قبل أن تعلن إيران رسمياً مقتلهم عام 2023.
في الجزء الأول من ملف "خطف رون أراد وارتباط مصيره بمصير الإيرانيين المفقودين"، سلطت "اندبندنت عربية" الضوء على رحلة البحث عن مصير الإيرانيين والاتهامات المتبادلة بين لبنانيين بقتلهم، ضمن الوثائق البريطانية التي تعود إلى عام 1994 وتحمل رقم التصنيف FCO 93/7761، والتي تضمنت عدداً من الرسائل والتقارير السرية المتعلقة بالجهود التي بذلت لمعرفة مصير الإيرانيين وكذلك عملية القيادي في حركة "أمل" مصطفى الديراني صبيحة الـ21 من مايو (أيار) 1994 حيث اختطفته إسرائيل من منزله في قرية قصرنبا بالبقاع اللبناني.
في الجزء الثاني من هذه السلسلة، تدخل "اندبندنت عربية" في تفاصيل رسائل بريطانية سرية تتطرق إلى صحة المزاعم الإسرائيلية لاختطاف الديراني، تفاصيل عن عملية الاختطاف، وكذلك جهود لبنان أممياً المعترضة على ما قامت به إسرائيل حينها في لبنان.
الديراني "باع" أراد لإيران بمبلغ 500 ألف دولار
بعد أعوام على انتهاء الحرب الأهلية في لبنان (1975 – 1990) ضج لبنان عام 1994 بخبر تنفيذ مجموعة إسرائيلية خاصة عملية عسكرية في البقاع، شرق البلاد، ليتبين بعد ساعات أنها هدفت لخطف شخصية قيادية في حركة "أمل" ومعها معرفة تفاصيل عن مكان مساعد الطيار الإسرائيلي رون أراد. لكن السلطات الإسرائيلية لم تذكر حينها الأساس القانوني لاعتقال مصطفى الديراني ونقله إلى إسرائيل.
واختطاف الديراني لم يكن عملية منفردة في الزمان والمكان، كما تكشف الوثائق البريطانية، بل تحدثت مصادر حقوقية حينها عن اختطاف إسرائيل حوالى 20 مواطناً لبنانياً بين عامي 1986 و1989 ومن بينهم الشيخ عبدالكريم عبيد، وهو قيادي شيعي آخر خطف عام 1989، وستة شيعيين لبنانيين آخرين خطفتهم القوات اللبنانية في لبنان عام 1987 ونقلوا سراً إلى إسرائيل عام 1990.
في برقية سرية مرسلة من السفارة البريطانية في تل أبيب إلى وزارة الخارجية البريطانية في الـ23 من مايو (أيار) 1994، طرح سؤال وصف بالجوهري عن صحة المزاعم الإسرائيلية لاختطاف مصطفى الديراني، ومما أتى في نص البرقية "يقول الإسرائيليون علناً إنهم يعرفون أن الديراني كان يحتجز أراد منذ وقت أسره عام 1986 حتى عام 1988. وخلال تلك الفترة كان الديراني رئيساً للجناح العسكري لحركة "أمل". وعندما انفصل الديراني عن الحركة عام 1988 وشكل مجموعته الخاصة، "أمل المؤمنة"، يعتقد الإسرائيليون أنه باع أراد لإيران بمبلغ يقارب 500 ألف دولار. ومنذ ذلك الحين لم تتلق إسرائيل أية معلومات مؤكدة عن مكان وجود أراد، ولكن كانت هناك مؤشرات على أنه على قيد الحياة وبصحة جيدة".
ملف الجنود الإسرائيليين المفقودين
لاقت عملية خطف الديراني ونجاحها عسكرياً، وارتباطها بمحاولة معرفة مصير أراد، استحساناً كبيراً لدى الرأي العام الإسرائيلي، وبخاصة أن جنوداً إسرائيليين كانوا خطفوا في أحداث الحرب الأهلية اللبنانية ومعاركها وحتى في الأراضي الفلسطينية. وتكشف المراسلات البريطانية كيف أن أحزاب المعارضة في إسرائيل أيدت هذه العملية، وإن كانت تزعم أن دافع رئيس الوزراء حينها إسحاق رابين كان تحسين مكانته بين الجمهور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أتت عملية خطف الديراني في وقت ساد القلق في شأن الجوانب الأمنية لصفقة مع منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب مقتل جنديين من الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.
وتكشف البرقية البريطانية "لقد أنفق الإسرائيليون كثيراً من الوقت والجهد في محاولة الحصول على معلومات عن أراد من خلال مطالبة دول أخرى بالتدخل نيابة عنهم. ولكن كل ذلك لم يسفر عن شيء. ربما يكون الجزء من الإجابة هو حساسية رابين للانتقادات المتجددة أخيراً من عائلات المفقودين بسبب فشل الحكومة في تحقيق أي تقدم في قضيتهم. وباعتباره جندياً، يشعر رابين بمثل هذه الانتقادات بقوة".
مخاطرة بالعلاقة مع السوريين واللبنانيين
على رغم الصدى الإيجابي الذي لاقته هذه العملية في الداخل الإسرائيلي، لكن برقية السفارة البريطانية في تل أبيب طرحت تساؤلات في خلفية الحادثة وتوقيتها والسبب الذي دفع لإتمامها، وما إذا كان الإسرائيليون متأكدين حقاً من أن الديراني سلم أراد للإيرانيين قبل خمسة أو ستة أعوام.
وأتى في نص البرقية "اعتقدوا أنه من المرجح أن يكون (الديراني) قادراً على إرشادهم على مكان وجود أراد إلى الحد الذي يجعلهم يخاطرون بإلحاق الضرر بالعلاقات مع السوريين واللبنانيين في هذه المرحلة من جولة كريستوفر".
وحينها قام وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر بجولات "مكوكية" في الشرق الأوسط في مسعى إلى دفع السلام الإسرائيلي-العربي قدماً وتحديداً مع سوريا في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، بعدما كان رابين تعهد عام 1993 بالانسحاب الكامل من الجولان في مقابل تطبيع العلاقات وترتيبات أمنية.
وبالعودة إلى الوثائق، تكشف البرقية السرية أن الإسرائيليين تلقوا حينها معلومات استخباراتية تفيد بأن أراد كان محتجزاً في جوار منزل الديراني، ولكن اختطاف الديراني كان خطة بديلة تم الاتفاق عليها عندما اكتشفوا أن أراد لم يكن هناك في الواقع.
"لم يخطفوه
"لم يأخذوه بل تم تسليمه"
في سياق متصل، عبرت السفارة البريطانية في بيروت في برقيتها المرسلة في الـ24 من مايو (أيار) 1994 إلى مرجعيتها في لندن، عن قلقها إزاء التصعيد الأمني الذي قد يشهده جنوب لبنان نتيجة اختطاف الديراني، كما تشير لتحرك شعبي والتخطيط لقيام مظاهرة في هذا الإطار.
وتذكر "يفسر غالب المعلقين السياسيين هنا (في لبنان) عملية اختطاف الديراني على أنها تمت في المقام الأول لأسباب إسرائيلية داخلية، فإنهم ينظرون إليها أيضاً على أنها رسالة سياسية إلى السوريين واللبنانيين بأن الذراع الطويلة للجيش الإسرائيلي يمكنه الوصول متى ما شاء إلى سهل البقاع".
وفي ردات الفعل اللبنانية على اختطاف الديراني، اتهم الشيخ صبحي الطفيلي (أول أمين عام لـ"حزب الله") الدولة اللبنانية بصورة مباشرة بالتواطؤ في عملية الاختطاف، وتنقل البرقية البريطانية قوله "لم يأخذوه، بل تم تسليمه للصهاينة".
بدوره، قال حسين الموسوي، زعيم حركة "أمل" المنشقة (المرتبطة بالديراني) إن هناك "حرباً مفتوحة بيننا والإسرائيليين".
ونتيجة لهذه التصريحات، نقلت السفارة البريطانية في لبنان مخاوف عن تداعيات عملية خطف الديراني، وقالت "إن المقاومة تخطط لتنظيم مظاهرة في الضاحية الجنوبية لبيروت... التي سترغب الحكومة (اللبنانية) في السيطرة عليها أو حظرها. كان رد فعل الحكومة خافتاً إلى حد ما، وركز على انتهاك السيادة والأراضي والأخطار التي تهدد عملية السلام. وقد دارت بعض المحادثات حول الإشارة إلى مجلس الأمن، ولكنني أعتقد أن هذا غير مرجح، لأن اللبنانيين يفترضون أن الدعم من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا لن يكون كافياً بسبب الشكوك حول تورط الديراني في اختطاف وقتل المقدم هيغينز ورهائن آخرين".
ويليام هيغينر هو عقيد في مشاة البحرية الأميركية، وكان جزءاً من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، تم اختطافه عام 1988، وتعرض للتعذيب ثم قتل، فيما تتهم أميركا والغرب "حزب الله" بالوقوف وراء خطفه وقتله.
رسالة لبنانية إلى الأمم المتحدة
في اعتراض على قيام إسرائيل بخطف الديراني، وجه سفير لبنان الدائم لدى مجلس الأمن، خليل مكاوي في الـ24 من مايو 1994 رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، واصفاً عملية الاختطاف بالعدوان والانتهاك الصارخ للسيادة الوطنية اللبنانية الذي يتنافى مع أبسط مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية لحقوق الإنسان، مؤكداً على أن الحكومة اللبنانية تحث الأمم المتحدة، لا سيما أعضاء مجلس الأمن، على اتخاذ إجراءات سريعة للإفراج الفوري عن الديراني.
وفي رسالة الاحتجاج التي وجهها مكاوي كشف تفاصيل عن عملية الخطف، وقال "اختطفت وحدة كوماندوز إسرائيلية المواطن اللبناني مصطفى الديراني من منزله في قرية قصر النبع، قضاء بعلبك... استخدمت الوحدة طائرتين هليكوبتر عسكريتين متقدمتين للغاية، قامتا بالتشويش على أنظمة الرادار العسكرية اللبنانية ودخلتا المجال الجوي اللبناني من اتجاه البحر إلى الشرق من بلدة جبيل"، ويضيف "قامت الوحدة بإنزال أربع مركبات عسكرية على بعد أميال قليلة من منزل ديراني ثم انطلقت من هناك إلى نقطة قريبة من المنزل. واقتحم الجنود الإسرائيليون المنزل وقيدوا زوجته وشقيقه ووضعوا مخدرات على مصطفى ديراني واقتادوه إلى إسرائيل".
كذلك طلب مكاوي في رسالة أخرى أتت بعد أيام من عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للنظر في عملية خطف الديراني وقال في رسالته "بناء على تعليمات من حكومتي، يشرفني أن أطلب منكم عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن للنظر في اختطاف الديراني، وهو مواطن لبناني، على يد قوات كوماندوز إسرائيلية. وقد ارتُكب هذا العمل العدواني الخطر والمتعمد في انتهاك لسلامة أراضي لبنان ومبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية لحقوق الإنسان. كما يشكل تهديداً مباشراً لعملية السلام الجارية في الشرق الأوسط."
وفي السياق نفسه، استدعى أمين عام وزارة الخارجية اللبنانية ظافر الحسن، سفراء دول مجلس الأمن الخمسة إذ طالبهم بحث دولهم إصدار قرار في مجلس الأمن يدين إسرائيل في عملية اختطاف الديراني.
وقال الحسن، بحسب البرقية البريطانية، إن الإسرائيليين كانوا يأملون بوضوح في إظهار الذراع الطويلة لإسرائيل. وزعموا أنهم يأملون في الحصول على معلومات من الديراني في شأن رون أراد. لكن عدداً من الدول الأوروبية والأميركية قامت باستفسارات لدى الحكومة اللبنانية في الأشهر الأخيرة حول أراد. ولسوء الحظ، لم يكن لدى الحكومة اللبنانية والقوى الأمنية أية معلومات حول هذا الموضوع وكانوا سيكشفون عنها لو كان لديهم.
رد فعل دولي "غير ملتزم"
لكن على رغم محاولات لبنان الحثيثة لإدانة إسرائيل وحثها على إطلاق سراح الديراني، تقول الوثائق السرية إن الحكومة اللبنانية فوجئت بالتعليق غير الملتزم والمعتدل و "المنخفض" بصورة عامة من المجتمع الدولي وعدم إدانة إسرائيل بالصورة التي أرادتها بيروت.
وجاء في نص الوثائق "أشار السفير الروسي (العميد المحلي للرؤساء الخمسة) بلطف إلى أن تعليقات الحسن لنا كانت أول رد فعل رسمي تلقيناه من الحكومة اللبنانية. وقال السفير الصيني إن حكومته تدعم وحدة أراضي لبنان وسيادته. فيما لم يعلق السفير الأميركي".
ويختم معدو هذه البرقية "من الصحيح أن اللبنانيين فوجئوا برد الفعل الدولي المنخفض على عملية اختطاف الديراني، وهم تحركوا في مجلس الأمن بسبب اتهامات "حزب الله" بأن الدولة اللبنانية كانت كذلك بطريقة أو بأخرى ضالعة في التواطؤ مع إسرائيل".