ملخص
رغم ما وضعته تونس من آليات اقتصادية واجتماعية للحد من ظاهرة العنف المسلط على المرأة إلا أن الظاهرة في تزايد لافت، فما هي الأسباب وهل تكفي القوانين ومراكز الإيواء وحدها لمعالجة الظاهرة؟
كثيراً ما تفاخرت تونس بترسانة القوانين الضامنة لحقوق المرأة، تحديداً مجلة الأحوال الشخصية التي تعود لخمسينيات القرن الماضي، إلا أن هذا الواقع لا يخفي تعرّض المرأة لأنواع العنف شتى على رغم تجريمه بمقتضى القوانين.
وتجرّم القوانين في تونس مختلف أنواع العنف المسلط على المرأة، كما يعتبر القانون العنف السياسي شكلاً من أشكال التمييز الذي يطاول النساء ويحول دون مشاركتهن في الحياة السياسية والعامة.
وعلى رغم كل هذه النصوص تنامت ظاهرة العنف المسلط على المرأة ومن بينه العنف الزوجي والعنف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مما يستبطن نظرة دونية إلى المرأة علاوة على ضعف تمكينها اقتصادياً وبقائها رهينة إرادة مجتمع ذكوري.
وكشف التقرير السنوي الصادر عن وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن لعام 2022 عن أن "50 في المئة من نساء تونس معنفات"، وأحصت الجهات المختصة 25 حالة قتل لنساء على يد أزواجهن أو أحد أفراد العائلة عام 2023، بينما وصل العدد خلال الأشهر الستة الأولى من السنة الحالية (2024) إلى ثماني حالات.
وأكدت مراكز التوجيه والاستماع في كل من العاصمة تونس وسوسة والقيروان وصفاقس أنها استقبلت أكثر من 800 امرأة ضحية عنف خلال عام 2023، ويحتل العنف الزوجي صدارة التجاوزات بحق المرأة بنسبة 52 في المئة، إضافة إلى العنف الأسري بنسبة ثمانية في المئة وأربعة في المئة تعرضن للتحرّش وثلاثة في المئة للعنف الجنسي و10 في المئة كن ضحايا العنف الاقتصادي وستة في المئة وقعن ضحية العنف السياسي.
عقلية مجتمعية ذكورية
فضيلة حسناوي، امرأة تونسية، متحدرة من إحدى المناطق الريفية في شمال العاصمة، عانت كثيراً العنف الزوجي وكانت ضحية عقلية مجتمعية في بيئة محافظة تعطي للزوج سلطة أدبية ومادية لا متناهية على المرأة، خصوصاً إذا كانت غير متعلمة وبلا عمل.
وأكدت فضيلة أنها تعرضت للعنف والضرب الذي بلغ حدّ التنكيل، ووصل الأمر بزوجها وقتها إلى محاولة قتلها عبر خنقها بعد أن عنفها عنفاً شديداً. وفضيلة اليوم مطلقة وتحضن ابنيها (13 سنة وتسع سنوات)، وتقول" تمرّدت على عائلتي وتقدّمت بشكوى إلى المحكمة فتم توقيفه ثم محاكمته ورفضت إسقاط الدعوى، ثم طالبت بالطلاق، وعلى رغم ضغوط العائلة تمسكت بقراري".
وأحالت الجهات الأمنية المختصة، فضيلة إلى مركز إيواء مع ابنيها، حيث تلقت العلاج النفسي والمتابعة القضائية، وتمكنت من الحصول على حقوقها بالنفقة ومعين الكراء، ثم تلقت تكويناً وهي الآن صاحبة مورد رزق يضمن لها ولابنيها حياة كريمة.
وتقول "أرعى ولداي بعيداً من بيئة العنف التي كانا يعيشانها، أوفّـر لهما حاجاتهما من خلال مشروع صغير يتمثل في إعداد المرطبات بأنواعها، كما أعمل خلال موسم الصيف بالطهي في المناسبات والأفراح لعدد من العائلات في المنطقة حيث أقيم".
تستحضر فضيلة اللحظات الصعبة التي مرّت بها عندما كانت تعيش مع زوجها، فتوضح أنه مدمن على شرب الخمر، وأرجعت سبب انتشار العنف المسلط على المرأة إلى "العقلية المجتمعية السائدة" التي تقول إن "المرأة لا بد من أن تعيش في ظل رجل"، داعية كل من تتعرض للعنف إلى "الإبلاغ والى عدم الإذعان للزوج والمجتمع".
وتُعتبر حالة فضيلة واحدة من مئات الحالات في تونس، وعلى رغم جهود الدولة والمجتمع المدني للحدّ من تلك الظاهرة إلا أنها في تنامٍ مطّرد.
توسيع خريطة مراكز الإيواء
من جهة أخرى، شرح المتخصص في علم الاجتماع السياسي بالعيد أولاد عبدالله أن "العنف ضد النساء استشرى بصورة لافتة في تونس على رغم البرامج الوقائية التي وضعتها المؤسسات الرسمية على مستوى التوعية والتثقيف مثل برنامج التمكين الاجتماعي للأسر الذي يركز على الحوار داخل الأسرة والتنشئة السليمة للأطفال والتربية، علاوة على الخط المجاني للإشعار بالعنف المسلط على النساء".
ووضعت تونس كذلك آليات أخرى في البعد العلاجي لظاهرة العنف ضد النساء من خلال مراكز الإيواء البالغ عددها 15 مركزاً التي تستوعب مئات النساء سنوياً وتحيط بهن نفسياً واجتماعياً وقضائياً.
ويضيف أن "الإيواء يكون ظرفياً لحماية الأم والطفل وتتم وقتها الوساطة العائلية مع الزوج الذي غالباً ما يكون هو الطرف الرئيس في ممارسة العنف ضد الزوجة. ويوفر مركز الإيواء اختصاصيين اجتماعيين ونفسيين علاوة على التمكين الاقتصادي، من خلال المساعدة على بعث مشاريع صغيرة تحمي المرأة من الهشاشة الاقتصادية".
ويؤكد أن "مراكز الإيواء وحدها غير كافية لأن الخريطة الجغرافية للعنف المسلط على المرأة ممتدة من الشمال إلى الجنوب، وإمكانات الدولة لا تسمح بمراكز عدة لأن ذلك يرتب كلفة مادية كبيرة"، داعياً إلى "مقاربة مختلفة تقوم على توعية الرجل الذي يمارس العنف على المرأة وأيضاً توعية المرأة بألا تصمت إزاء العنف ضدها".
ولا يخفي بالعيد أولاد عبدالله أن "الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس تسهم في تفشي ظاهرة العنف بصورة عامة، وخصوصاً العنف ضد المرأة والطفل في الوسط العائلي"، داعياً إلى "تحسين القدرة الشرائية للتونسيين كآلية من آليات الوقاية من العنف، علاوة على برنامج إعداد الشباب للحياة الزوجية وتدريبهم على تحمّل المسؤولية وطريقة معاملة أبنائهم وزوجاتهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القوانين ومراكز الإيواء وحدها لا تكفي
وتخضع مراكز الإيواء لإجراءات أمنية صارمة، حيث تُمنع زيارتها أو الكشف عن أماكن وجودها، حماية للنساء ضحايا العنف، علاوة على تعاملها المباشر مع الجهات الأمنية والقضائية.
ويعتبر مركز الإيواء في محافظة جندوبة (شمال غربي) أحد هذه المراكز الرائدة في الجهة، إذ يقدم خدمات لعدد من رواده من النساء ضحايا العنف. وصرحت رئيسة الاتحاد الجهوي للمرأة في جندوبة ليلى النموشي، المشرفة على تسيير المركز، بأن "طاقة استيعاب المركز (مركز الأمان بجندوبة) هي 30 سريراً"، مضيفة أن "المركز يقدم خدمات صحية ونفسية واقتصادية مجانية للنساء ضحايا العنف، بما فيها أحياناً الإيواء في مصحات خاصة أو عمومية إلى جانب ختان الأطفال والمتابعة القضائية".
وتردف أن "النساء ضحايا العنف يتمتعن بتكوين يساعدهن في الاعتماد على أنفسهن والعمل لحسابهن الخاص، من خلال بعث مشاريع صغرى"، داعية إلى "تعزيز هذه الشبكة من المراكز بمراكز إضافية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من ضحايا العنف من النساء".
وتشير النموشي إلى أن "الإيواء ظرفي مدته القصوى ثلاثة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة"، معتبرة أن "القوانين وحدها غير كافية لأن تطبيق تلك القوانين على أرض الواقع يتطلب إرادة سياسية قوية تجعل منها قوانين إلزامية لا يجوز تجاوزها".
الحوار داخل الأسرة والمجتمع
وتطالب منظمات المجتمع المدني بتوفير الحماية للنساء المعنفات وتستنكر التمييز والعنف المبني على النوع الاجتماعي، وتشدد رئيسة جمعية "نساء من أجل التنمية والمساواة" مباركة بن منصور في تصريح خاص على أن "القوانين وحدها لا تكفي"، وتعوّل على الحوار ونبذ العنف في الأسرة والمجتمع، داعية إلى "ترسيخ ثقافة التسامح والحوار في مختلف المناهج التربوية والبرامج الإعلامية وتفعيل النقاش في الفضاءات العامة حول مسألة العنف، علاوة على تفعيل دور المتخصصين الاجتماعيين والنفسيين في المؤسسات التربوية".
وتنوي وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، توفير مركز إيواء في كل ولاية بسبب ارتفاع منسوب العنف المسلط على المرأة، وقد تم أخيراً افتتاح مركز "الأمان" بولاية سليانة (شمال غربي تونس) ليكون المركز رقم 15 في البلاد.
وأكدت وزيرة الأسرة والمرأة التونسية أسماء الجابري على "أهمية تضافر جهود كل المتدخلين لحسن استثمار الآليات التي توفرها الدولة للتمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء ضحايا العنف والأطفال المرافقين لهن وضمان سلامتهم وتوازنهم وتحقيق مصلحتهم الفضلى".