Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بطل بارغاس يوسا من خلف الكاميرا إلى أمامها

رواية الكاتب البيروفي "حرب نهاية العالم" القديمة تفتح سجالات حول سياسات العالم لم تهدأ منذ قرن وأكثر

الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا (غيتي)

ملخص

على أية حال إننا هنا لسنا أمام سجال جديد. بل أمام سجال لا يزال حياً وليس في البرازيل وحدها. لقد كان من فضائل كتاب دا كونيا منذ صدوره أن أحياه من جديد بعد مجزرة الرعاع في "الأراضي العالية".

على رغم أن الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا غاص في السياسة ما لا يقل عن مرتين في حياته، أولاهما في توجه يساري قربه باكراً من فيديل كاسترو، وثانيتهما في توجه ليبرالي يميني جعله يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية في بلده مندون أن يحقق نجاحاً، على رغم ذلك عرف في المرتين ولا يزال يعرف حتى اليوم بنزاهته الأخلاقية.

وهي النزاهة نفسها التي تجعله حين يسأل عما يمنعه من اعتبار روايته الكبرى، حجماً وموضوعاً وأسلوباً، "حرب نهاية العالم"، واحدة من أقوى الروايات التاريخية التي صدرت في أي بلد من بلدان أميركا اللاتينية وليس في بلده البيرو وحدها، يبتسم ويصمت لا سيما إن كان من يسأله من غير مواطني تلك القارة المدهشة.

والحقيقة التي تختفي وراء تلك الابتسامة يدركها أهل القارة، ويصعب على غيرهم فهمها. الحقيقة هي أن رواية "حرب نهاية العالم" ليست تماماً من "تأليف" بارغاس يوسا حتى وإن كانت ذكرت أكثر من نتاجات هذا الكاتب الكبير الأخرى جميعها في حيثيات منحه جائزة نوبل الأدبية قبل سنوات.

إعادة لكتابة التاريخ

"حرب نهاية العالم" هي عصرنة وإعادة كتابة وبأسلوب هذا الكاتب الشيق الذي يقتضي منه شغلاً متعباً بتأكيد كتاب قديم يصح اعتباره "إنجيل التاريخ البرازيلي". صحيح أن صاحب "حفلة التيس" و"الجنة أو أبعد قليلاً" و"حلم السلتي" وغيرها من الأعمال الأدبية الكبرى، قد جهد على كتابة الـ800 صفحة التي تتكون منها "حرب نهاية العالم"، لكنه لم يزعم أبداً ومنذ صدورها ما يؤكده البعض من أنها روايته الكبرى.

فالحقيقة التي يعرفها البرازيليون وجيرانهم هي أن رواية بارغاس يوسا هذه، وبأكثر مما هي مبنية على فصل تاريخي حقيقي من فصول تاريخ البرازيل، تعيد كتابة ذلك الفصل انطلاقاً من ذلك "الإنجيل" الذي نشير إليه.

بل إن الكاتب جعل للصحافي الذي ألف ذلك السفر التاريخي الضخم واسمه إقليدس دا كونيا مكانة أساسية في الرواية ناقلاً إياه، كما يقال في المصطلحات السينمائية من خلف "الكاميرا" إلى أمامها، أي جاعلاً منه في "حرب نهاية العالم" شخصية أساسية من شخصيات النص المعصرن بعدما كان في السرد التاريخي الأصلي مجرد راو لتاريخ عاشه بل حتى عايشه كصحافي بعثت به صحيفته "الليبرالية" ليغطي تلك الأحداث التي تحولت بقلم بارغاس يوسا إلى حرب نهاية العالم باعتبارها واحدة من "الثورات" الأكثر رجعية وأصولية وكآبة في تاريخ تلك القارة.

 وهو ما سبق أن أشرنا إليه في تناولنا رواية بارغاس يوسا، مشيرين ولو بصورة مقتضبة إلى الكتاب التاريخي الأصلي الذي لم تكن حينها قد ذاعت شهرته خارج بلد منشئه، البرازيل. وهو عرف وأعيد إصداره وترجمته إلى لغات عديدة منها الفرنسية والإنجليزية منذ ذلك الحين، وبعد أن عرف كثر من هواة الأدب والتاريخ أنه كان المصدر الذي منه استقى صاحب نوبل موضوعه.

شخصية مركزية

والحقيقة أن الدور الذي كان بارغاس يوسا قد كرسه لإقليدس في الرواية دور كبير ومهم. ونحن لئن كنا قد استعنا بالمصطلحات السينمائية لوصف تحوله بين الكتاب والرواية فما هذا إلا لملاحظتنا أن بارغاس يوسا قد جعل إقليدس أكثر من مجرد مراسل حربي، بل جعله شخصية من لحم ودم يفعل في الأحداث من خلال حديثه عنها ووصفه لها بحيث بدا وكأنه الشخصية الأساسية في رواية "سليبي هالو" للأميركي الشمالي واشنطون إيرفنغ (لعب دوره جوني ديب في الفيلم الرائع الذي اقتبسه تيم بورتون عن الرواية) حين يتحول المحقق إلى الشخصية المركزية في الفيلم.

المهم أن بارغاس يوسا "استسلم" تماماً أمام عمق شخصية الصحافي وتفاعله مع الأحداث هو الذي يمثل في النص قيم التقدم والليبرالية على الضد من "الثوار" المشردين من أبناء الحثالة الآتين من أصقاع البرازيل، متحلقين من حول من يبدو كالراهب المتخلف في العصور النهضوية الإيطالية سافونا رولا، الذي انتفض ضد ضروب التقدم التي كانت تسير فيها الجمهورية البرازيلية الشابة وقد تخلصت من حقبة رجعية في تاريخها.

 

جرح في جسد التاريخ

والحقيقة أن هذه الحكاية التي يعرفها كل برازيلي وتدرس في المدارس والجامعات في هذا البلد، تعد جرحاً في جسد تاريخه وإقليدس كرس منذ عام 1902، وبعدما انتهت الحرب بمجزرة مروعة تعرض لها الثوار من الرعاع وهم مؤمنون بأنهم إما سينتصرون فيقيمون حكماً على شاكلة ما وعدهم به زعيمهم أنطونيو كونسلييرو (المستشار) وإما سيصلون إلى الفردوس الأعلى نكاية بالفاسقين.

والحقيقة أن تلك الحكاية التي أسبغ عليها بارغاس يوسا في "حرب نهاية العالم" أبعاداً روائية بالغة القوة، يتحدث عنها إقليدس دا كونيا في كتابه الذي أصدره عند بدايات القرن الـ20 وحمل عنوان "الأراضي العالية، حرب كونودوس" بلغة شاهد العيان ولكن كذلك بلغة المفكر الأيديولوجي، التي مكنت الكتاب من أن يحوز شعبية كبيرة ويضحى معتمداً في رواية تاريخ تلك الحقبة ومجزرتها.

فهو يروي في النهاية تلك الأحداث التي عاشها الشمال الشرقي البرازيلي (نورديستي) في عام 1896 حين تحلقت مجموعات من اللصوص والمشردين والشحاذين والزهاد والمتصوفين من حول "المستشار" وغايتهم قلب نظام الحكم الجمهوري، الذي اعتبره واعتبروه كافراً يريد أن يفصل بين الكنيسة والدولة ويفرض الضرائب ويوطد الزواج المدني ويتخلص من الاستعمار البرتغالي، معتبرين كل تلك المشاريع رجساً من صنيعة الشيطان. وقد رأوا أن انتصار تلك الجمهورية سيعني نهاية العالم. أما الإنقاذ فسيكون على يد الدون سيباستيان ملك البرتغال المخفي الذي سيأتي ليقيم الحق والعدل.

في خط الفلسفة الوضعية

و"المستشار" بعد أن نشر تلك الأفكار بين كل تلك المجموعات الغريبة البائسة توجه بها إلى منطقة كانودو الواقعة في ما يسمى مثلث الجفاف، حيث اجتمع منهم نحو 30 ألفاً من الرعاع، وراحوا يعيثون فساداً وقتلاً وتعذيباً لكل من لا يرى رأيهم.

 ولقد احتاجت الجمهورية إلى شن سلسلة من الهجمات عليهم قبل أن تتمكن من القضاء على حلمهم المجنون. وهذه الأحداث هي بالطبع تلك التي اندفع إقليدس ليغطيها لحساب صحيفته عبر عشرات المقالات واللقاءات أولاً، ثم عبر تجميع المقالات في كتاب لم يأت على أية حال محايداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ففي الحقيقة أن إقليدس لم يكن مجرد صحافي يقوم بعمله بكل موضوعية وإخلاص، بل هو، وكما سيقدمه لنا بارغاس يوسا في "حرب نهاية العالم" بطريقة أخاذة، مفكر ينتمي إلى النظرية الوضعية التي كانت في ذلك الحين تعد منافسة للماركسية بل أكثر تقدماً منها. وهو انطلاقاً من تلك النظرية جعل من كتابه ليس فقط سرداً تاريخياً، بل أكثر من ذلك، منشوراً دعائياً وعميقاً من أجل نشر الفكر التقدمي والوضعي تحديداً.

ولعل في إمكاننا القول إن السجالات لا تزال قائمة حول الكتاب وتوجهه الفكري هذا، حتى اليوم حيث نرى عدداً من المعلقين اليساريين بل المتطرفين في يساريتهم، ينتهزون فرصة عودة الكتاب إلى الظهور وربما إلى حد كبير بفضل ظهور رواية بارغاس يوسا الرائعة، ليوجهوا إلى إقليدس وكتابه تهمة العنصرية باعتبارها كانت في زمن إصدار الصحافي، المؤرخ كتابه مترابطاً مع النظرية الوضعية.

عالم منغلق؟

ولقد رأى عدد من المعلقين اليوم أن من "مساوئ كتاب إقليدس كونه وجد نفسه وهو يخوض تلك الحرب كصحافي مؤدلج، ثم وهو يشتغل على كتابه، أمام عالم منغلق عليه، يمثله في رأيهم ’المستشار‘ وجماعته، يختلف عن العالم ’الأبيض‘ الذي أتى هو منه: عالم ريو دا جانيرو وساو باولو، بينما تستبد به رغبة حاسمة في إضفاء المشروعية على نمط من الحكم الجمهوري هو الوحيد في نظره القادر على إدخال الحداثة والتقدم إلى تلك المناطق النائية والفقيرة من البرازيل".

ونعرف على أية حال أننا هنا لسنا أمام سجال جديد. بل أمام سجال لا يزال حياً وليس في البرازيل وحدها. لقد كان من فضائل كتاب دا كونيا منذ صدوره أن أحياه من جديد بعد مجزرة الرعاع في "الأراضي العالية"، تماماً كما أن من فضائل كتاب بارغاس يوسا أن أعاده إلى الحياة في زمن يستعيد العالم مع دخوله الألفية الثالثة تلك السجالات نفسها وليس في البرازيل أو في أميركا اللاتينية وحدهما.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة