Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموظف متاح دائماً... هل من حق المدير الاتصال بعد العمل؟

يعتبر بعضهم أن التواصل مع الموظفين هاتفياً بعد الأوقات الرسمية مكتسب أصيل لا يمكن التخلي عنه

تقوم علاقة المدير بالموظف على الشد والجذب (رويترز)

ملخص

أحياناً يعتبر المدير الموظف ملكية خاصة به أو عامة لجهة العمل، أو كياناً غير مستقل، أو شخصاً بلا حياة خارج أسوار العمل، فيعتبر الاتصال به بعد أوقات العمل الرسمية حقاً أصيلاً.

كم الأسئلة التي يوجهها "مجهولون" على منصات السوشيال ميديا، والمواقع التي تستقبل أسئلة ويجيب عنها اختصاصيون أو هواة حول التصرف الأمثل لـ"أزمة"، وفي أقوال أخرى "ظاهرة"، وفي ثالثة "سخافة" اتصال المدير بعد انتهاء أوقات العمل تاريخية.

هم "مجهولون" خوفاً من أن يكون المدير موجوداً على هذه المنصة أو متابعاً لذلك الموقع، ولأن الاتصال بالموظف خارج أوقات العمل توليفة معقدة يختلط فيها الحرج بالخوف بالجرأة بضبابية الحدود الفاصلة بكلاسيكية مبدأ "المدير دائماً على حق إلى أن يحال إلى المعاش أو ينتقل إلى قسم آخر"، باقتصار باب "حقوق العمال" في كثير من الأحيان على أرشيف قوانين العمل المحلية ومواثيق العمل الدولية والعقود التي قلما يتعمق في نصوصها أحد، فإن رنين الهاتف بعد الرابعة أو الخامسة أو السابعة أو الساعة التي تنتهي فيها ساعات العمل وظهور اسم المدير الحقيقي أو الرمزي يمثل معضلة كبرى لملايين الموظفين حول العالم.

الحق في قطع الاتصال

"روح قلبي يتصل"، إنه الكابوس المتكرر بما لا يقل عن أربع أو خمس مرات يومياً. وفي كل مرة، لا يرد هشام من المرة الأولى يدع "روح قلبه" يتصل ثانية أو ثالثة قبل أن يرد. مرة يتظاهر بأنه استيقظ على رنين الهاتف، وأخرى يركض إلى الشرفة حيث فوضى الشارع وأوركسترا آلات التنبيه الفلهارموني، موحياً له أنه يصارع طوفان السيارات بينما يتحدث، وثالثة يتظاهر بأنه يمضغ الطعام وهلم جرا. وفي كل مرة، يظن أن "روح قلبه" سيعتذر أنه اتصل في وقت غير مناسب، ويؤجل موضوع المكالمة للغد. وفي كل مرة لا يعتذر، ولا يؤجل المسألة للغد، على رغم أنها في 99 في المئة تكون قابلة للتأجيل، بل والإلغاء.

"روح قلبي" و"بابا" و"ثعلب الصحراء" و"أسد المنوفية" و"زومبي" و"عبقرينو" و"حكمدار العاصمة" وغيرها، أسماء رمزية يطلقها موظفون في مصر على سبيل المثال على مديريهم في العمل على هواتفهم المحمولة. هي دعابات معروفة وأثر عرضي متكرر لهيراركية قوى السلطة والعمل في الكوكب. هي جزء من علاقات متناقضة، لكنها لم تعد تلفت نظر أحد، بسبب شيوعها قائمة على حب / كراهية، أو ود / عداء، أو احترام في العلن / وانعدامه في الخفاء أحياناً.

أحياناً أيضاً يعتبر المدير الموظف ملكية خاصة به أو عامة لجهة العمل، أو كياناً غير مستقل، أو شخصاً بلا حياة خارج أسوار العمل، فيعتبر الاتصال به بعد أوقات العمل الرسمية حقاً أصيلاً. إنه الحق الذي لا تجرؤ الغالبية على دراسته أو مناقشته، فما بالك بدحضه في بلدان عدة، لا سيما العربية حيث فرصة العمل ولو بلا حقوق خير من البطالة، أو غضب المدير على الموظف واضطهاده له بالقول أو الفعل أو حتى النظرات.

 

قبل أيام، ألب موظفو أستراليا أقرانهم خارجها على مديريهم من محبي الاتصال بهم بعد مواعيد العمل، القانون الجديد الذي دخل حيز التنفيذ يحمل عنوان "الحق في قطع الاتصال". وبحسب نصوصه التي جرى إقرارها، بات في إمكان الموظف الأسترالي رسمياً عدم الرد على المكالمات الهاتفية أو رسائل البريد الإلكتروني أو غيرها من وسائل الاتصال به عبر تطبيقات ومنصات أخرى خارج ساعات العمل الرسمية، حال لم يكن يرغب في ذلك، مع ضمان عدم تعرضه للأذى أو العقاب.

القانون الجديد لا يمنع المدير أو صاحب العمل أو غيرهما من الاتصال بالموظفين في العطلات أو بعد انتهاء مواعيد العمل، لكن يعطي الحق للموظف بعدم الرد أو الرد متأخراً، باستثناء الحالات التي يكون فيها الامتناع عن الرد أو تأخيره عملاً يفتقد العقل والمنطق.

يبدو القانون الأسترالي الوليد بمثابة حلم لملايين الموظفين حول العالم، لكنه في حقيقة الأمر تأخر في الصدور بمعيار 20 دولة حول العالم لديها قوانين مشابهة. القائمة تبدو شبه متوقعة: فرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا وبلجيكا وإيرلندا والبرتغال وإسبانيا والنمسا وغيرها من الدول الأوروبية، لكن القائمة تحوي كذلك دولاً في أميركا اللاتينية، أبرزها الأرجنتين وتشيلي.

القانون الأسترالي الجديد، الذي أسعد قلوب غالب قوة العمل في أستراليا، وقوامها نحو 14.5 مليون شخص، بينهم نحو 2.35 مليون موظف في جهات وهيئات حكومية، ستشرف على تطبيقه، أو بالأحرى تبت في الخلافات التي قد تنشأ عنه، "لجنة العمل العادل".

مهمة اللجنة ستكون بت شكوى المدير من عدم رد الموظف، وتحديد إن كان طلب الرد يبدو عاجلاً لا يحتمل الانتظار، أو أن التأخر في الرد أو عدمه نجم عنهما ضرر بالغ، مع البحث في ملابسات عدم الرد بالنظر إلى طبيعة عمل الموظف، وحياته الشخصية، والطرق والوسائل التي اتبعت للاتصال به.

معاناة تاريخية كبيرة

إيمان أحمد (32 سنة) مهندسة في شركة كبرى بالقاهرة، ترأس قطاعاً يضمن نحو 10 موظفين و40 عاملاً، ولها بدلاً من المدير الواحد ثلاثة، بينهما اثنان في دولتين مختلفتين، مما يعني حتمية مراعاة فروق التوقيت، التي تنعتها بـ"اللعنة".

ضحكت كثيراً حين اطلعت على ما جرى في أستراليا، والصورة الأولى التي تبادرت إلى ذهنها حال جرى تطبيق قانون مماثل في مصر هي انهيار الشركة وإفلاسها في خلال أيام. تقول: "كثقافة عمل، هناك معاناة تاريخية كبيرة، حيث علاقة المدير بالموظف قائمة على الشد والجذب. الموظف أو العامل غالباً ما يجد بدلاً من الحجة 10، لا لعدم الرد على المراسلات أو الاتصالات خارج أوقات العمل، بل ليتغيب عن العمل في أيام العمل الرسمية. خالتي في المستشفى، والدي مريض، زوج ابنة خالتي توفي، خالي الأكبر مسافر، عمي مفقود، زوجتي في حالة ولادة، ابني دخل الحضانة، تماس كهربائي في الشقة، مياه الأمطار حبست أمي في البيت، والقائمة لا تنتهي. لذلك مثل هذه القوانين تناسب فقط الدول ذات عقيدة العمل المختلفة، القائمة على مبدأ الحقوق والواجبات. أما الثقافات التي يعمد فيها كل طرف على الحصول على حقوق فقط وتجاهل الواجبات، فتسير فيها الأمور بقوة الدفع والتراضي، ومبدأ شد وارخي أفضل بكثير من القوانين".

 

وتستطرد قائلة إنها نفسها تعاني الاتصال شبه المستمر بها خارج أوقات العمل، فعطلة نهاية الأسبوع في مصر تختلف عن مقر عمل اثنين من مديريها. كما أن طبيعة العمل، واتصاله الوثيق بمصانع إنتاج تعمل 24/7 تجعل من غالب الاتصالات ضرورة قصوى. تقول: "لكن هذا لا يمنع من أنني أرفع راية التمرد بين الحين والآخر، فأنا أتعرض للاحتراق الوظيفي بصورة شبه كاملة جراء الاتصال من المديرين طوال الوقت".

بحسب المسح، الذي أجرته جهات بحثية أسترالية العام الماضي، عمل الأستراليون 281 ساعة غير مدفوعة الأجر على مدار العام، قيمة هذه الساعات "بلا أجر" نحو 88 مليار دولار أميركي.

وفي كاليفورنيا بذلت محاولة شبيهة في أبريل (نيسان) الماضي، حين سعى مشرعون إلى إصدار قانون يجعل اتصال المديرين بالموظفين بعد ساعات العمل الرسمية، باستثناء حالات بعينها، أمراً غير قانوني.

لاقى مشروع القانون في حينها ترحيباً من أعداد كبيرة من الموظفين، لكن جماعات الدفاع عن الأعمال التجارية ومصالحها جاهرت بقلقها من الفكرة، واصفة إياها بأنها ستسبب صداعاً يفوق الراحة التي يتصور بعضهم إنه سيحققها. الحق في التجاهل، بحسب هذه الجماعات، قد يساء استخدامه، وتضيع فرص كبرى على الشركات والمكاتب، وتتعطل أعمال، وتتحول المكاسب إلى خسائر، وهو ما سينعكس سلباً، لا على المدير المتصل فقط، لكن على الموظف الممتنع أيضاً حين يجد نفسه عمالة زائدة أو "مسرحاً من العمل" بعد الإفلاس.

التوازن بين العمل والحياة اليومية

التلويح بـ"بعبع" الإفلاس ووحش التسريح كنتائج محتملة لتطبيق "الحق في التجاهل" أمور لم يشتمل عليها استطلاع أجرته "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (منظمة حكومية دولية تضم في عضويتها 38 دولة)، عنوانه "التوازن بين الحياة والعمل" قبل عامين.

تطرق الاستطلاع إلى كلام جميل ومعقول حول ضرورة التوازن بين العمل والحياة اليومية، وتأثر العائلات سلباً بانعدام هذا التوازن، وكيف أن القدرة على العمل وفي الوقت نفسه تخصيص الوقت والاهتمام والجهد للحياة الشخصية أمور حتمية لسعادة كل أفراد الأسرة، وأن الحكومات يمكنها المساعدة للوصول إلى هذا التوازن، وذلك عبر تشجيع ممارسات العمل الداعمة والمرنة، وغيرها من الأفكار الإيجابية. وحذر الاستطلاع كذلك من أن العمل ساعات طويلة يضر الصحة الشخصية، ويعرض سلامة الأفراد الجسدية والنفسية للخطر، ويزيد من احتمالات إصابة الفرد بالتوتر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أحمد وهيثم شابان يعملان في مجال الصيانة الفندقية في إحدى قرى مدينة رأس سدر (جنوب سيناء) الشاطئية، يضحكان بشدة ويقولان في نفس واحد: "هذا التوتر يصاب به الضعفاء والبلداء، أما نحن فأقل ما نصاب به الانهيار العصبي أو السكتة القلبية وأحياناً كليهما".

ظروف عمل الشابين تحتم عليهما الإقامة في القرية 25 يوماً متصلة في الشهر، طوال هذه الأيام، وعلى مدار ساعات النهار والليل، يكونان على أهبة الاستعداد لإصلاح كابل كهربائي هنا، أو توصيل تكييف هواء هناك. عقود العمل تنص على ثماني ساعات، وهذه حقيقة، إذ يبدأ العمل في التاسعة صباحاً وحتى الخامسة بعد الظهر، ثم يبدأ الاتصال بالفنيين من مدير الصيانة من الخامسة وحتى صباح اليوم التالي.

استطلاع "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" أشار إلى أن الموظف في هذه الدول يعمل 63 في المئة من يومه، والباقي موزع بين الراحة والأسرة والترفيه وغيرها، وأنه يجب أن يكون هناك قدر أفضل من التوازن.

كورونا ومتاح دائماً

وبين المثالين المتناقضين، حيث انعدام حق الموظف في عدم الرد على المدير من جهة، وتحركات قانونية وحكومية وفردية للدفاع عن حق تجاهل المدير بعد ساعات العمل من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى تغيرات كبرى طرأت على ثقافة العمل ومنظومة الاتصال بين أطرافه في السنوات القليلة الماضية.

التطور التقني الرهيب، وتغول ثقافة الهاتف المحمول وتطبيقاته التي جعلت من مليارات البشر في حالة "اتصال" 24/7، وضياع الخطوط الفاصلة بين العام والخاص جعلت المدير يؤنب الموظف أنه لم يرد على رسالته على رغم أنه كان "أون لاين" أو على رغم تعليقه على تدوينة لصديق على "فيسبوك"!

 

وكأن وضعية "أون لاين" المزمنة لم تكن كافية لطمس الخط الفاصل بين ساعات العمل وساعات ما بعد العمل، جاءت القيود التي فرضها وباء كورونا، وإغلاق كثير من أماكن العمل، وتحول ملايين الموظفين للعمل من البيت عبر الـ"أون لاين" لتدق مسماراً إضافياً في نعش الحياة بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية.

وعلى رغم عودة كثيرين للعمل من مقار عملهم بعد رفع القيود، فإن ثقافة الخطوط المطموسة وامتداد ساعات العمل بلا بداية أو نهاية محددتين أمور ساعدت في إبقاء الموظف في دائرة الرد على اتصالات المدير على مدار ساعات النهار والليل.

وتبقى هناك ثقافة أخرى لا يفهمها سوى أبنائها، إنها ثقافة تجمع توليفة من المشاعر والأحاسيس المرتبطة بمنظومة العمل وثقافته اللتين تختلفان من دولة أو منطقة إلى أخرى. فإذا كان هناك في مغارب الأرض من يعتبر اتصال المدير في غير أوقات العمل خرقاً للقواعد وتعدياً للحدود وإساءة للسلطة، فهناك في مشارقها من يعتبر الاتصال نفسه سبباً للفخر بين الزملاء وانعكاساً لثقة المدير، ولا تطرأ فكرة الإساءة أو احترامها من الأصل، لأن من يملك السلطة كمن ملك الشركة أو المصنع أو المؤسسة ومن فيها، هنا الحديث عن الحق في التجاهل أو حق قطع الاتصال أقرب ما يكون إلى المستحيل الرابع بعد الغول والعنقاء والخل الوفي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات