ملخص
قال الشاب العراقي ماريو سعد في شهادته عن ذلك اليوم "أطفأ الإرهابيون الكهرباء في عموم الكنيسة، كانوا يقتلون كل من يتحرك أو يحاول التنفس. أرى ظلالهم ولا أعلم ما الذي يحصل خارج الغرفة، كان صوت الصراخ المفاجئ يجعل بعض الآباء يقدمون على أفعال انتحارية".
"أصلي وأدعو لكم، أتمنى أن تكونوا بخير"...
هذه الكلمات للشاب العراقي ماريو سعد (30 سنة)، الذي كان في عام 2010 انضم حديثاً للجوقة الموسيقية في كنيسة سيدة النجاة بحي الكرادة (شرق بغداد)، وكان متحمساً لتأدية التراتيل بإشراف القس وسيم، لكنه لم يكن يعلم أنه في يوم الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول) 2010 سيخرج من المكان بدماء الكهنة منثورة على جسده، وأنه سيعود في اليوم التالي من أجل تشييعهم.
لم يكن يعلم ماريو أن مرض أخته الرضيعة في ذلك الأحد سينقذ عائلته من قتل وشيك، لم يستطع أحد مرافقته إلى القداس، قرروا أخذها إلى المستشفى. لكنه كان في الجوقة الموسيقية، مرتلاً جديداً، وأحد الناجين القلائل من مجزرة كنيسة سيدة النجاة.
بدأ يومها مسيحيو بغداد من السريان الكاثوليك عند الخامسة عصراً بالتوجه نحو كنيسة سيدة النجاة، للاحتفال بالقداس الإلهي عشية عيد جميع القديسين. قبل أن يقرر خمسة إرهابيون اقتحام المكان برمانات يدوية وسيارة مفخخة، تاركين وراءهم جثث 47 شخصاً على أرض الكنيسة، بينهم طفل عمره أقل من شهر، وأكثر من 60 جريحاً، فيما كان عدد المصلين أكثر من 120 شخصاً، فيما قتل 11 شخصاً من القوات الأمنية والمارة.
كيف بدأ الكابوس؟
عند الساعة الخامسة و20 دقيقة، كان ماريو يرتل مع الجوقة كما يوضح لـ"اندبندنت عربية"، فصدر صوت إطلاق نار سريع خارج الكنيسة لكنه قريب جداً، سكتت جموع المصلين قليلاً، توقف صوت الرصاص، عادوا للقداس بصورة طبيعية، لأن ذلك الصوت تحديداً كان جميع العراقيين اعتادوه، وكانت البلاد ما تزال تحاول التخلص من بقايا الحرب الطائفية بالدعوات إلى السلام. لكن صوت الرصاص تجدد وأصبح أقرب، فأراد الأب ثائر طمأنة المصلين، فقال: "لنصلي من أجل العراق والعراقيين، أن يمد الرب هذه الأرض بالسلام". ولم يكد ينه جملته حتى انفجرت سيارة مفخخة أسهمت بفتح بوابة الكنيسة الضخمة، ودخل إرهابيون يحملون سلاحاً ورمانات يدوية. بدأوا بالرمي العشوائي، وأغلقوا البوابة من الداخل، بقوا لوحدهم مع المحتجزين، كما المتعطشين للدماء في أفلام الرعب. واقترب المسلحون من المصلين وهم يتدافعون، يتراكضون في مكان صغير وضيق، يحاولون الاختباء تحت المصاطب وخلف المذبح، وبدأت المجزرة والرمي العشوائي، ثم تركوا بعضاً منهم ناجياً ليعيش ساعات طويلة من الرعب.
وكانت المجموعة الإرهابية سيطرت على كل مداخل الكنيسة واحتجزت المصلين رهائن، فجرى الشاب ماريو وحاول الاختباء في الغرفة المجاورة الأقرب له، وكانت غرفة تبديل ثياب الكهنة. وقال "أراد الكاهن ثائر حمايتنا، تحدث بصوت عال وسط الدماء المتناثرة وبكاء النساء والأطفال حيث تحول المكان بلحظة إلى حمام دم وأراد التشاور معهم: دعوهم واقتلوني. فأجابه أحد المسلحين: ’انطق الشهادة يا كافر فأنت هالك لا محالة‘، وأطلقوا عليه رصاصة خرجت من رأسه، سقط على المذبح، وكان يرتدي زياً أبيض".
وكان القس ثائر أول من قتل في مكانه، ثم أطلق المسلحون وابلاً من الرصاص داخل الكنيسة بصورة عشوائية، فتعرض ماريو سعد لإصابة في كتفه، فيما أصيب صديقه إصابة خطرة. وحاول ماريو وسط الموت خلع ثيابه لوقف النزف من جسد صديقه. وأضاف أن "صراخ الأطفال ملأ المكان، بينما كان الآباء يحاولون ضم رؤوس أطفالهم لدرجة أن أحد الأطفال قتل لأن والده بقي نائماً فوقه محاولاً أن يوهم الجماعة المسلحة بأن ابنه غير موجود".
غرفة للبحث عن حياة
"أردت أن أختبئ في مكان ولم يكن هنالك سوى غرفة صغيرة ضيقة، ركض الجميع نحوها، امتلأت وحاولنا إغلاقها بالمكتبة التي تحتويها، بدأوا بمحاولة كسر الباب، كان المشهد مرعباً وأنا أرى الباب يندفع نحونا ويعود، كان يقاوم"، بحسب ما قال ماريو.
وبعد ساعات من الاحتجاز وقتل بعض الرهائن، اتصل المسلحون بقناة "البغدادية"، وأعلنوا احتجاز جميع المصلين، وهددوا بقتلهم في حال عدم الإفراج عن عدد من المتهمين بالإرهاب في السجون العراقية والمصرية. وطالبوا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالإفراج عمن وصفوهن بـ"المسلمات المحتجزات في الأديرة والكنائس المصرية" في خلال 48 ساعة، ورفضت الحكومة المصرية أن يرتبط اسم الكنيسة القبطية أو مصر بتلك المجزرة. وأغلق مقر قناة "البغدادية" على إثر ما حدث، بعد اعتقال بعض من كادرها في اليوم التالي.
ونشر على الإنترنت بيان وصف تنظيم "داعش" فيه الكنيسة بأنها "وكر الأصنام القذر"، وهدد بتصعيد الهجمات ضد المسيحيين في العراق، معلناً أن "المراكز والمنظمات والمؤسسات والقادة والأتباع المسيحيين كافة سيكونون أهدافاً مشروعة".
محاولات هشة
وتابع الشاب العراقي سعد شهادته عن ذلك اليوم، فقال "أطفأ الإرهابيون الكهرباء في عموم الكنيسة، كانوا يقتلون كل من يتحرك أو يحاول التنفس. أرى ظلالهم ولا أعلم ما الذي يحصل خارج الغرفة، كان صوت الصراخ المفاجئ يجعل بعض الآباء يقدمون على أفعال انتحارية. أحدهم كان محبوساً معي في الغرفة، أراد إنقاذ عائلته المحتجزة خارجها. فقال إنه يسمع صوت ابنته، على رغم أن وقتاً طويلاً كان يمر من دون أن يسمع صوت لأحد سوى الإرهابيين وهم يتحدثون في ما بينهم ويصفون المصلين بالكفرة، إلا أن الوالد قرر فتح الباب وكسره، والخروج لعائلته، فرماه أحدهم برصاصة في وجهه وأسقطه، وتطايرت دماؤه علينا". وأضاف أن "الغرفة كانت مزدحمة بأعداد المحتجزين، لم يستطع أحد التحرك، ومن كان يحاول الهرب من خلال الشبابيك، فمصيره واضح. وشعرت بعد مرور ساعات طويلة، أن لا أحد سيأتي لإنقاذنا، وأننا لوحدنا في هذا العالم، ولا يعلم أحد بمصيرنا، لكن لماذا؟" يتساءل ماريو، فيما تنهمر دموعه طوال الحوار، إذ لم تجف بعد مرور هذه السنين كلها.
استمر احتجاز الرهائن لأكثر من سبع ساعات، كانت خلالها قوات الجيش العراقي عاجزة عن اختراق الكنيسة خشية قتل مزيد من المصلين، وقال ماريو إن "أحد الاطفال وكان اسمه آدم، يبلغ ثلاث سنوات من العمر، قتل والده أمامه، وهو يضع يده على رأسه تحت إحدى المصاطب لحماية نفسه، لكنه سأم صوت البكاء والصراخ والرصاص، قام من مكانه وهو يردد "كافي، كافي" فأردوه قتيلاً بعد ثوان".
مسيحيو العراق بالأرقام
ووفق تقرير مفوضية حقوق الإنسان العراقية في مارس (آذار) 2021، وهو أحدث إحصاء، فإن 250 ألف مسيحي فحسب لا يزالوا يقطنون العراق من أصل مليون ونصف مليون كانوا موجودين قبل عام 2003، وكان الاعتداء على كنيسة سيدة النجاة فعلاً مفصلياً في تاريخ المسيحيين في العراق وأسهم بهجرة مئات من العائلات. بعد الحادثة أعلن تنظيم "داعش" حملته ضد المسيحيين وهدد بمداهمة عدد من الكنائس وقتل من فيها، وأغلق عدد من الكنائس أبوابها وعلقت احتفالاتها بالسنة الميلادية بسبب ذلك.
وأشار التقرير آنذاك إلى أن "1315 مسيحياً قتلوا في العراق بين عامي 2003 و2014، على أساس ديني وطائفي، إضافة إلى نزوح 130 ألفاً واختطاف 161 آخرين خلال فترة سيطرة تنظيم ’داعش‘ على مدينة الموصل بين عامي 2014 و2017".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"علي وعلى أعدائي"
وبالعودة للاعتداء الإرهابي وقبل أن يمشط المكان من الجيش العراقي الذي قرر الدخول عملاً بمبدأ "علي وعلى أعدائي" لإنقاذ ما تبقى من الرهائن في الأقل، قام المسلحون بتفجير أنفسهم وسط المكان لنفاد الذخيرة. وكانت الساعة الـ12 من صباح الأول من نوفبمر (تشرين الثاني)، حينما بدأ ماريو السير بين الجثث والأجساد المقطعة بفعل انتحار المسلحين. يقول إنه أراد البحث عن معارفه، فوجد زوج مدرسته قتل، وبعض من كهنة الكنيسة وزملاء المدرسة. "كانت الكنيسة مدمرة وأجساد استنزفت دماءها لساعات، صرخات بعيدة لعائلات تريد الدخول. ونظرت إلى مكان الجوقة حيث كنت أحلم قبل ساعات، أن أرتل وأصلي للعراق".
أصبحت الكنيسة عبارة عن أشلاء وعلب رصاص فارغة، كانت المقاعد مبعثرة في أرجاء الكنيسة الواسعة، التي امتلأت في جدرانها مئات الثقوب من ضربات الرصاص والأضرار والدماء المتطايرة.
تبين في ما بعد، أن أربعة من المسلحين، كانوا من دول عربية مختلفة، وخامسهم عراقي الجنسية. وفي أواخر نوفمبر 2010، ألقت القوات العراقية القبض على "حذيفة البطاوي" وبثت القناة الرسمية اعترافاته بالقرب من الكنيسة، وهو المتهم الرئيس بتدبير مجزرة كنيسة سيدة النجاة، إلى جانب 11 آخرين يشتبه في ارتباطهم بالاعتداء. وحكم على ثلاثة منهم بالإعدام، فيما صدر حكم بالسجن 20 سنة على آخر. وفي مايو (أيار) 2011، قتل البطاوي على يد القوات العراقية الخاصة أثناء محاولته الهرب من السجن مع 10 من قياديي تنظيم "القاعدة".
في اليوم التالي استيقظ ماريو وهو غير مستوعب بعد لما حصل، وقال لـ"اندبندنت عربية"، "اتجهت نحو الكنيسة، انفصل عقلي عما حدث، فقط وكأني أريد أن أرتل، لكني تذكرت وجود التشييع". وأضاف "ما زلت أعيش تلك الواقعة كل يوم، كوابيسي تحمل بصورة دورية وجوه الذين أحبهم وشاهدتهم للمرة الأخيرة وهم ممزقون، حاولت العيش بسلام، أو في الأقل حاولت التعايش مع ما حصل، لكني غير قادر، كل مرة أستيقظ، أشعر أنهم دخلوا يصرخون ويوجهون سلاحهم نحونا".
ما زال ماريو يعيش في العراق، يحبه، ولا يفكر بالهجرة منه.
قصص من روح الكنيسة
من جهته يقول كاهن كنيسة سيدة النجاة بطرس بهنام، الذي تولى مهماته فيها بعد مرور سبعة أعوام على المجزرة، إن "من أكثر القصص إيلاماً، هي حكاية رضيع لم يتعد عمره شهراً، الذي كان يصرخ طوال الوقت، قال أحد المسلحين بلغة فصيحة لأمه أن تسكته، فأجابت الأم: إنه رضيع، كيف أسكته؟ فرد عليها: سأخرسه أنا بنفسي، وقتله برصاصة في رأسه". وأضاف "كانوا يرتدون ثياباً مدنية، لم يلثموا وجوههم، ملامحهم بدت واضحة للجميع وأسلحتهم كذلك، استمروا بمراقبة وقتل الرهائن بدم بارد. على الأرض كلهم متجمدون، الأحياء وأحبتهم الذين قضوا. إحدى النساء قتل زوجها وكانت ممدة قربه، ولم تستطع أن تفعل شيء سوى ادعاء موتها".
وأوضح الكاهن بطرس بهنام أن وضع مسيحيي العراق لم يكن مثالياً حين عرض عليه الإمساك بمهمات الكاتدرائية، وكان نزح من قضاء قرقوش في محافظة نينوى، مع عائلته إلى أحد مخيمات أربيل بعد دخول "داعش قريته". "وكأن التأريخ يعيد نفسه، شعرت بالخوف في بادئ الأمر، أنا نازح، وأذهب إلى كنيسة تعرض مصلوها لمذبحة. إحدى الضحايا، تدعى غادة، كان القس ثائر أتم زواجها، وأرادت في يوم الحادثة إخباره بحملها، لكن بعد ساعات حملتها عائلتها في نعش كان يضم أيضاً جنينها الذي لم يولد بعد.
عند رؤيته لصورتي الكاهنين وهما مبتسمان، شعرت بأن رسالة ما يجب أن أحملها إلى ذلك المكان: أن نبقى في بلادنا، ونحاول من أجلها". وأكد أن "كثيرين من أصحاب المحال في حي الكرادة من المسلمين ما زالوا يعلقون صور الأبوين ثائر ووسيم ويبكون رحيلهما مع حشد من الجيران، وتحاول الكنيسة الإبقاء على ذكراهم بوضع إشارات بالممر الأرضي في أماكن سقوطهم ضحايا".
تقول إحدى السيدات الناجيات إن دماء الكاهن ثائر أنقذت حياتها، وما تطاير من دماء رأسه نحو جسدها أوهم المسلحين بأنها ميتة. أحدهم يسحب شعرها بقوة لدرجة وقعت خصلات كبيرة منه، وذلك للتأكد إن كانت هذه دمائها؟ فعصرت الألم وقاومت النجاة، ضغط على يدها بحذائه، محاولاً كسرها، لكنها لم تتحرك.
هل كانت حدثاً مفصلياً؟
جذبت مأساة سيدة النجاة الأضواء إلى وجود مسيحي معرض للزوال في تلك البقعة من العالم، إذ كانت حدثاً مفصلياً على أكثر من صعيد بالنسبة إلى وعي المجتمع العراقي الأوسع، كما للمجتمع الدولي الذي كان يركز على أولويات أخرى. وقال الباحث في شؤون التنوع الديني الدكتور سعد سلوم إن "الجريمة كشفت عن واقع مرير، فقد غذت قناعة بدأت تنمو بأن مصير المسيحيين في البلاد إلى زوال، وأن هذه الهجرة ستكون الأخيرة، فهي هجرة اللاعودة".
وأضاف مؤلف كتاب "المسيحيون في العراق: التاريخ الشامل والتحديات الراهن" الدكتور سعد سلوم أن "مجزرة سيدة النجاة أبلغت العالم أن الاضطهاد وصل إلى نقطة عنف بالغة، على نحو أصبح فيه وجود المسيحية ذاتها مهدداً في المنطقة التي كانت ذات يوم موطنها الأصلي. وإن عشرات الآلاف من هؤلاء المسيحيين الذين بدأول بالنزوح إلى سهل نينوى أو إلى عينكاوه في إقليم كردستان أو هاجروا إلى خارج البلاد لا يملكون سوى قليل من الأمل في العودة لديارهم، بالتالي ضاعت فكرة أن يشكل المسيحيون مفتاحاً لكسر دائرة العنف في البلاد، وأن من بقي صامداً سيكون آخر دليل على تلاشي مسيحيي بلاد ما بين النهرين، والمسيحية المشرقية التي تعود للقرن الأول الميلادي".
وتابع سلوم أن ما "حصل داخل الكاتدرائية أبرز وللمرة الأولى وعياً عاماً بأهمية الوجود المسيحي في العراق، إذ بدأ الفضائيات والصحافيون يكرسون برامج حوارية عن مستقبل الأقليات والمسيحيين بصورة خاصة في العراق. وبدأ العراقيون يحصون الخسارات بحجم المجتمعات المنسية وليس بعدد الضحايا الأفراد في جحيم القتل اليومي"، وزاد "كما اندفع المانحون الدوليون بعد الكارثة للتركيز على مواضيع هجرة الأقليات وحقوقهم في الدستور وتعزيز مشاركتهم السياسية، ونتيجة لذلك بدأت منظمات المجتمع المدني تغير أولوياتها وتركز في مشاريعها على حقوق الأقليات، استجابة لقلق من نهاية التنوع الديني بسبب دوامات العنف الطائش والعشوائي. وعلى صعيد مواز سعت الحكومة العراقية آنذاك إلى إظهار اهتمامها بمصير المسيحيين وتخصيص مساعدات عاجلة".
وبحسب منظمة العفو الدولية سجل نحو 65 هجوماً مباشراً ضد الكنائس المسيحية في العراق في الفترة من أواسط عام 2004 وحتى نهاية عام 2009.