ملخص
تأثير الاحتكار في الأعوام الأخيرة انعكس جزء منه في غلاء الأسعار، مما أسهم بصورة غير مباشرة في ارتفاع التضخم، خصوصاً تضخم أسعار المواد الغذائية حتى وصل إلى رقمين عند 10 في المئة خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي
تشن تونس منذ أشهر عدة، حرباً ضروساً ضد عدو بات مزعجاً ومقلقاً لها، لم تقتلعه الحكومة من جذوره حتى الآن، ألا وهو الاحتكار الذي صار ينخر الاقتصاد التونسي ويتسبب له في خسائر طاولت جيوب التونسيين أيضاً.
إلى ذلك، يكابد التونسيون في الفترة الأخيرة صعوبات لافتة اتسمت بشح كبير في عدد من المواد الغذائية الأساسية وصلت إلى المواد الفلاحية (الزراعية) الطازجة الضرورية في مكونات الوجبات الأساسية لملايين الأسر التونسية.
فالشعور العام في البلاد يؤكد تغول الاحتكار والمحتكرين، بعد أن اعتلوا موقعاً مهماً في المشهد الاقتصادي التونسي، وهو ما يعده المواطنون عجزاً تواجهه الحكومات المتعاقبة في تخليص اقتصاد البلاد من ظاهرة أضحت متجذرة في كل دواليب المعاملات التجارية.
أسعار مستعرة
تأثير الاحتكار في الأعوام الأخيرة انعكس جزء منه في غلاء الأسعار، مما أسهم بصورة غير مباشرة في ارتفاع التضخم، خصوصاً تضخم أسعار المواد الغذائية حتى وصل إلى رقمين عند 10 في المئة خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
في غضون ذلك، تزيد مهمة كبح غلاء المواد الغذائية في تونس صعوبة، رغم المحاولات المتكررة لتشديد القبضة على الأسواق عبر أجهزة الرقابة واعتماد سياسة تحديد أسعار عدد من المنتجات (البطاطا واللحوم الحمراء والبيضاء وغيرها)، إذ سجلت الأسواق مستويات قياسية لأسعار المواد الأساسية في سلة غذاء التونسيين.
وأظهرت البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء الحكومي في الشهر الماضي، أن أسعار الغذاء زادت 9.3 في المئة نتيجة ارتفاع أسعار لحم الضأن 21.4 في المئة، وأسعار الفواكه الجافة 15.2 في المئة، وأسعار الدواجن 14.1 في المئة.
وفي الوقت الذي تعتقد وزارة التجارة التونسية أن عملية تحديد الأسعار ستوقف نزيف زيادة الأسعار، فإنها في الواقع "غذت" الاحتكار وأعطت مساحة أوسع للمحتكرين للتحرك بأريحية للتلاعب بالأسعار وبقوت التونسيين.
اهتمام من أعلى هرم السلطة
أمام تواصل تسجيل احتكار كبير في عدد من المواد وتذمر التونسيين من الندرة المسجلة مما جعل الوضع المعيشي يتأزم أكثر، نزل الرئيس قيس سعيد بثقله في المسألة من خلال تعدد أنشطته واستقباله عدداً من أعضاء الحكومة المعنيين بالملف في خطوة لحلحة الوضع.
ويترجم هذا الانشغال من أعلى هرم السلطة في البلاد على تغول حجم الاحتكار وتحكم المحتكرين في مركز صنع القرار، ومن ثم التحكم في السوق والتمركز في المشهد الاقتصادي والتجاري في البلاد.
رقمنة مسارات السلع
ويعتقد رئيس منظمة إرشاد المستهلك (مستقلة) لطفي الرياحي، أن القرارات المتتالية للسلطات مهمة في المساعدة على كبح جماح الأسعار وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين"، مستدركاً "غير أنها تظل غير كافية في غياب استراتيجية ناجعة لمراقبة مسالك التوزيع".
وقال إلى "اندبندنت عربية"، إن "خفض الأسعار وخصوصاً التحكم في مسالك التوزيع، يتطلب رقمنة شاملة لمسارات السلع، بما يساعد على كبح سيطرة المضاربين على الأسواق ويحد من تحكمهم في بورصة الأسعار".
وأضاف أن تحكم المضاربين في الأسواق يسبب ضرراً كبيراً للمنتجين والمستهلكين بينما تتراكم الأرباح في جيوب الوسطاء، موضحاً أن كل الخطط التي تنفذها وزارة التجارة تبقى منقوصة ما لم تتوصل السلطات إلى حلول حديثة ومرقمنة تمكن من التخطيط المسبق للإنتاج ومتابعة مسارات السلع من مرحلة الزراعة أو التصنيع إلى حين وصولها إلى المستهلك.
وقبل نحو سنة، أطلقت وزارة التجارة برنامجاً خاصاً للمراقبة الاقتصادية يشمل متابعة حركة السلع على الطرقات لمنع تهريب المواد الغذائية ومكافحة التخزين الاحتكاري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن يبدو أن المضاربين عرفوا كيف يراوغون مخططات الوزارة بدليل تنامي العمليات الاحتكارية، التي زادت في متاعب التونسيين وإفراغ جيوبهم بأسعار ملتهبة، في بلد يعرف إنتاجاً كبيراً لعدد من المنتجات الفلاحية.
وتابع الرياحي، "يستغل المضاربون عنصر الندرة وارتفاع الطلب مقابل تراجع العرض للنزول بثقلهم في الميدان، بالسيطرة على مسالك التوزيع وتحويل وجهة المنتجات إلى مخازنهم، بقصد استغلالها لاحقاً في عملية رفع الأسعار".
أمر غير مقبول
من جانب آخر أقر الرياحي أن "ما يحدث الآن في تونس من غلاء فاحش للأسعار أمر غير مقبول بالمرة، وأن وزارة التجارة التونسية تتصارع يومياً مع لوبيات الاحتكار والمتاجرين بالقدرة الشرائية لعموم التونسيين".
وأكد أن هناك حرباً مستعرة بين مصالح المراقبة الاقتصادية بوزارة التجارة وعدد من المضاربين والمتلاعبين بالأسعار في مناطق عدة من البلاد، مما أعطى شعوراً لدى عديد من المواطنين أن الوزارة عجزت عن التصدي للممارسات الاحتكارية التي أخذت في التصاعد خلال الأعوام الأخيرة، وتعمق من أزمة ارتفاع الأسعار واختفاء السلع.
وأشار إلى أن هناك تواطؤاً بين معظم حلقات الإنتاج عندما يقع تحديد أسعار عدد من المنتجات من خلال تعمد إخفاء البضاعة من السوق، مع التعلل بأن المواد الأولية وأعلاف الحيوانات أضحت مرتفعة جداً.
ضعف أجهزة الدولة
من جانبه، اعترف أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية معز السوسي، صراحة بوجود ندرة حقيقية في مواد أساسية غذائية عدة، الأمر الذي أسهم في ارتفاع نسبة تضخم المواد الغذائية بأكثر من 15 في المئة.
وقال إلى "اندبندنت عربية"، إن "تونس تبدو ضعيفة في محاربتها لتنامي الاحتكار الآخذ في الصمود بسبب ثقل هياكلها وعدم اشتغالها"، مشدداً على أن التجارب السابقة أظهرت بوضوح أن التصدي للاحتكار بواسطة الحلول الأمنية لم يعط نتيجة، بدليل مواصلة تعاظم الاحتكار في عديد من المجالات والقطاعات، معتبراً أن الدولة صارت اليوم تسبح ضد تيار الاحتكار الجارف.
وتابع، أن "الدولة على مر الأعوام الماضية لم تضع خطة ذكية في مقاربتها لمكافحة الاحتكار وردع المضاربين، بل على العكس اتخذت خيارات أظهرت محدوديتها ولم تتماشَ مع الواقع".
تعزيزات لجهاز المراقبة
الحرب المستعرة ما بين أجهزة وزارتي الداخلية والتجارة في محاربة المضاربين، انتقلت إلى البرلمان التونسي مع مناقشة موازنة وزارة التجارة العام المقبل، إذ أبدى نواب الشعب استياء كبيراً من تواصل عمليات المضاربة وتزايد احتكار عدد من المنتجات الغذائية مستفسرين عن خطة وزارة التجارة لمكافحة الاحتكار.
وقالت وزيرة التجارة وتنمية الصادرات في تونس سمير عبيد، إنه رغم الصعوبات ومحدودية الموارد البشرية واللوجيستية حرصت وزارته على تحسين أداء الأجهزة الرقابية وإنفاذ القوانين المتعلقة بالمضاربة والاحتكار وتأمين التزويد بالمواد الأساسية.
وأعلن عن تدعيم جهاز الرقابة الاقتصادية بانتدابات جديدة (نحو 200 خطة) مقراً بالنقص المسجل على مستوى هذا الجهاز، الذي يعد حالياً 757 عوناً مراقبة في مشهد تجاري يضم نحو 500 ألف نقطة بيع.
في الأثناء، اقترح معز السوسي وجوب إقرار ما وصفه بالأسلحة الاقتصادية الناجعة والقادرة على قلب الموازين، حتى تتمكن الدولة من أن تكون في موضع القوة في علاقة بالاحتكار والمحتكرين.
وأوضح، "من الضروري إدخال تغييرات جذرية على سياسة أسعار بعض المنتجات حتى تكون قريبة من سعر الكلفة، وكذلك قريبة من الواقع ومعقولة، إذ إنه من غير المقبول بالمرة أن تكون أسعار الأعلاف أعلى مرتين من أسعار الخبز".
وأضاف، أنه "بالإمكان إقرار اتفاق بين تونس والجزائر وليبيا لتقريب أسعار بيع المحروقات حتى لا تتجاوز أسعارها في هذه الدول حدود الـ20 في المئة.
وخلص إلى أنه بهذه الطريقة بالإمكان القضاء على مهربي المحروقات والقطع نهائياً مع محتكري بيع المواد البترولية.
معادلة لا تستقيم
ويعتقد أحد كبار مسؤولي جهاز المراقبة الاقتصادية، رفض ذكر اسمه، أن المعادلة لا تستقيم بين عدد محدود جداً من أعوان المراقبة يفتقرون إلى وسائل عمل عصرية عدة ومسالك توزيع مختلفة ومتعددة مما يجعل المهمة تكاد شبه مستحيلة.
وأوضح في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن حجم العمل تضاعف بصورة كبيرة في الأعوام الأخيرة، واصفاً المحاولة بالشجاعة لتقليم أظافر المحتكرين المتسلحين بالمال والوسائل اللوجيستية.
وكشف أنه منذ بداية العام الحالي حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي نفذت نحو 588 ألف عملية رقابية أسفرت عن رفع 82438 مخالفة اقتصادية، منها 27847 مخالفة في التجاوزات السعرية والاحتكارية، و42773 مخالفة في شفافية المعاملات، و1041 مخالفة في التلاعب بالدعم، وتم رفع 35487 مخالفة في المنتجات الفلاحية والبحرية الطازجة، و29268 مخالفة في المواد الغذائية العامة و7052 مخالفة في المخابز والمطاعم والمقاهي و10631 مخالفة في المواد الصناعية المختلفة.
وأضاف أنه تم حجز أكثر من 9200 طن من الخضر والغلال واللحوم البيضاء والحمراء ومن مشتقات الحبوب المدعمة والسكر ومواد غذائية مختلفة ومواد علفية.