ملخص
في كتابه الجديد "الجهل والنعيم: حول الرغبة في عدم المعرفة" يستكشف أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا مارك ليلا الدوافع النفسية وراء الرغبة في تجنب المعرفة، والميل الدائم إلى مراوغة الحقيقة عبر تاريخ الفكر الإنساني المثقل بالأوهام والنوستالجيا والأفكار الساذجة عن البراءة والطفولة.
عندما يصطدم الإنسان ببعض الحقائق المزلزلة التي تقلب حياته رأساً على عقب تخرج من بين شفتيه عبارات تلقائية، تنم عن بالغ الندم وعدم القدرة على الاحتمال من قبيل "ليتني لم أعرف" أو حتى "ليتني مت قبل أن أعرف". وهو ما يعني ببساطة الإدراك المفاجئ لمغبة المعرفة وما يتبعه من إعادة الاعتبار إلى الجهل بصفته نعمة، ما دام يجنبنا تلك الأحاسيس الممضة ويبقينا في منطقة الراحة. ولا غضاضة في ذلك، كثيراً ما ينصحنا الطبيب بغض الطرف عن أية أمور مزعجة مهما بلغت أهميتها، بل ويساعدنا على تحقيق الهدف بأدوية توهمنا بالسعادة. ولكن ماذا لو تحول الجهل إلى حال جماعية أو سياسية؟ لا مجرد آلية دفاع لحماية الذات من شواظ الحقيقة؟!
في كتاب "الجهل والنعيم: حول الرغبة في عدم المعرفة" الصادر حديثاً عن دار فارار، شتراوس وجيرو، يسعى مارك ليلا إلى اكتشاف الدوافع النفسية الكامنة وراء الرغبة في تجنب المعرفة، والميل الدائم إلى مراوغة الحقيقة عبر تاريخ الفكر الإنساني المثقل بالأوهام والنوستالجيا والأفكار الساذجة عن البراءة والطفولة، مستعيناً في أطروحته برصيد من النصوص المشبعة بحكايات وأمثلة عن الطرق الملتوية حتى لا نقف أمام الحقيقة وجهاً لوجه، بدءاً من الأساطير الكلاسيكية والكتب الدينية مثل سفر التكوين وأقوال المتصوفة، مروراً بسقراط وحوارات أفلاطون إلى الفهم الفرويدي للتوهم الذاتي.
"أشباح جرحتها الإضاءة"
ينطلق الكتاب في رحلته من تلك المقولة لجورج إليوت في روايته الأخيرة "دانيال ديروندا" 1876 "من نافلة القول إن المعرفة قوة ولكن من الذي فكر في قوة الجهل أو فسرها على النحو اللائق؟". من هنا يقرر أن يخوض التجربة بتأمل ما لم يفكر به غيره، ألا وهو قوة الجهل وسر تشبثنا به إلى هذا الحد، ممهداً الطريق بحكاية من كهف أفلاطون التي لا تظهر على جدرانه سوى ظلال الحقيقة، ليطوعها لغايته. ذات يوم يقرر رجل أن يصطحب غلاماً وينطلق معه صوب النور، وفي الطريق يعتري الصبي خوف مفاجئ لا يدفعه إلى التوسل فحسب، إنما أيضاً إلى ذرف الدموع كي يسمح له الرجل بالعودة إلى عالمه السعيد حتى لو كان وهماً، مبرراً خوفه "أفتقد زملائي في اللعب، حتى ولو كانوا مجرد بكسلات على شاشة".
إننا جميعاً نشعر بخوف غامض ما إن يطرأ أي تغيير في المشهد الثابت المتكرر، كأن نقرر بعد طول شد وجذب تبديل مسارنا المهني أو نضطر إلى الانتقال من مسكن إلى غيره، بل وأحياناً أمام أمر تافه كأن يتسبب الزحام في انعطافنا إلى طريق لا نألفه.
وينتقل مارك إلى الملك أوديب "النموذج الأكثر شهرة لإرادة الجهل". لكن أوديب الأمس كان مهووساً بالنبوءة المشئومة وراح يتتبعها حتى أدركته شناعة الحقيقة، أما أوديب اليوم في تصوره "أقل اهتماماً بالنبوءة من اهتمامه بالمشكلة المزعجة المتمثلة في معرفة الذات". وعلى الوتيرة نفسها يتساءل كيف أشاحت الأم التي عاشرته معاشرة الزوج بوجهها عن العلامات. ويمتد السؤال ليشمل كل سكان طيبة، الذين كانوا "محاصرين بين إرادة المعرفة وإرادة عدم المعرفة".
العماء الإرادي
يناقش الكتاب فكرة الوقوع في قبضة الوهم كما الحال مع المكفوفين المصابين بمتلازمة أنطون ومدى اقتناعهم بقدرتهم على الرؤية، وكذلك المصابين بمتلازمة كورساكوف وخطرها في تزودهم بذكريات كاذبة ترتدي ثوب الواقع عن أشياء حدثت بالفعل. ويؤكد أن أكثر هذه الحالات رعباً هي متلازمة كابجراس، فهي تمنح الشخص قناعة بأن أحد أحبائه حل محله محتال. ولكن ماذا عن بقية البشر؟ يجيبنا مارك "إننا جميعاً نعاني الأوهام، وجميعنا مثل أوديب نستخدم حيل خداع الذات لمنع أنفسنا من الاعتراف بالحقائق المتعلقة بحياتنا. ومع ذلك فإن فهم هذه التجربة اليومية أو حتى وصفها قد يبدو وكأنه مهمة حمقاء. إن بعض الأوهام لا تعكس أكثر من جهل حميد بالذات. وإن أولئك الذين لا يستطيعون ضبط لحن ما يغنون بصوت مرتفع في الجوقة، ويغفر لهم الله براءتهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويدلل مارك على شيوع هذه الظاهرة بعدة أمثلة منها شفط بطوننا لا إرادياً عندما نمر بواجهة متجر ما أو عندما نمشط شعرنا بطريقة تخفي الصلع المتزايد. "ونحن نفعل هذا تلقائياً، ولكننا نتعرض بين الحين والآخر لصدمة خفيفة عندما نتفاجأ بأنفسنا نفعل ذلك. ويبدو أن حيلنا الصغيرة تنبثق من مساحة بين الوعي واللا وعي، بين المعرفة وعدم المعرفة. فلو لم نكن نعتقد على مستوى ما أننا نعاني زيادة الوزن لما طورنا عادة شد عضلات البطن، ولو لم يكن جزء منا يدرك انحسار خط الشعر لما قضينا كل هذا الوقت أمام المرآة. إن قدراتنا العقلية لا تغفو أثناء حدوث ذلك، ولكنها لا تعطي كامل انتباهها أيضاً. وتفشل اللغة في اللحظة التي نحاول فيها وضع الكلمات لوصف ما يجري".
الهرب من الذات
يتناول الكتاب موضوعات مثل الخرافة والبروباغندا والتصورات الرومانسية عن زمن مفقود، وذلك تحت عناوين التهرب والمحرمات والفراغ والبراءة والحنين إلى الماضي. ويرى الكاتب أن التهرب من الذات مهارة ينبغي لنا جميعاً أن نتعلمها. وإذا كان بوسعنا أن نتجاهل الأمور المتعلقة بأنفسنا والتي تمنعنا من أن نكون سعداء أو من "تحقيق إمكاناتنا"، فقد يكون هذا أمراً طيباً. ويسوق من التوراة قصة الملك داوود وأحد جنوده، المدعو أوريا. وفي إحدى الأمسيات، بينما كانت قوات داوود تحاصر إحدى المدن رأى داوود من فوق سطح بيته امرأة جميلة تغتسل. فغلبه الهوى وأرسل في طلبها، وعندما حملت منه استدعى زوجها أوريا وأمره بالعودة إلى بيته وقضاء الليل مع زوجته، حتى يعتقد أوريا أن الطفل القادم هو ابنه. ولكن ما أفسد الخطة المحكمة هو إصرار أوريا على النوم في العراء، لا في فراشه مع زوجته تضامناً مع زملائه في ساحة المعركة. هنا لم يجد داوود بداً من تعريض الزوج المخدوع للخطر على أمل أن يقتل، وعندما قتل بالفعل، تزوج أرملته ليتجنب الفضيحة.
في أحد الفصول، يعزو بداية الشعبوية إلى القديس بولس قائلاً "ليس من المبالغة أن نقول إن تاريخ الشعبوية الغربية -الروحية والسياسية- بدأ مع القديس بولس". فهو من وجهة نظره "المثقف الذي احتقر الثقافة" و"رفع الأطفال الأبرياء والعمال غير المتعلمين والحملان ذات العيون الفارغة، باعتبارهم نماذج روحية...".
ويحلل مارك كثيراً من الأوهام مثل وهم براءة الأطفال والاعتقاد أن نشوة الأنبياء والمتصوفين توفر وصولاً إلى حقائق باطنية، أو الحنين إلى استعادة أمجاد ماضية، ليخلص إلى أن الرغبة في عدم المعرفة ليست ظاهرة حديثة، كثيراً ما أدرك الإنسان فضيلة التغافي كما أنها ليست عيباً بشرياً، فهي نتيجة طبيعية لـ"عدم توحدنا مع أنفسنا" في عالم مشبع بالتناقضات. وهو ما يجعلنا نتأرجح في رأيه بين حالين "إننا نريد أن نعرف، ونريد ألا نعرف. إننا نقبل الحقيقة ونقاومها". وهكذا ينتقل العقل ذهاباً وإياباً مثل بندول ساعة، أو كمن يلعب كرة المضرب مع نفسه، "لكن الأمر لا يبدو وكأنه لعبة، بل يبدو وكأن حياتنا على المحك. وهي كذلك بالفعل".