ملخص
يضاعف من تعقيد مشهد الصراع في السودان أمران هما البعدان التاريخي والقبلي، لأن مؤسسة الدولة السودانية في دولة الاستقلال الوطني موصومة بالانحياز على أسس عرقية وقبلية.
وسط أنباء المعارك والصراعات المسلحة في الشرق الأوسط وأفريقيا تتوارى الحرب السودانية عن الساحات الإعلامية الإقليمية والدولية من جهة الأولوية والمساحة منتقلة إلى ذيل الأخبار. والمساحات الزمنية المرصودة تقلصت، على رغم أن الحرب السودانية الشاملة كانت الحرب الأسبق في توقيت الاندلاع، بل والأعمق تأثيراً في دول مهمة في النطاقين العربي والأفريقي كمصر والسعودية وإثيوبيا وإريتريا وتشاد وأفريقيا الوسطى.
المشهد الإعلامي الشامل يقول لنا إنه منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 توارت معارك السودان جزئياً عن المتابعة الإعلامية. ومع اندلاع حرب لبنان والصراع المسلح في سوريا نستطيع ملاحظة أن التفاعلات السودانية على المستويين العسكري والسياسي تبدو حالياً متوارية على نحو كبير، إذ يطلق عليها الحرب المنسية في غالبية الأدبيات المهتمة بها، على رغم تحركات دبلوماسية عدة على الصعيدين الدولي والإقليمي في شأن محاولة وقف الحرب في هذا البلد كان آخرها اجتماع روما الذي جمع الولايات المتحدة مع كل من السعودية ومصر والإمارات على هامش قمة السبع.
اهتمام إعلامي متراجع على رغم تضخم حجم الضحايا من المدنيين السودانيين، وتفاقم الأوضاع الإنسانية للنازحين واللاجئين إلى حد المجاعة في أعلى مستوياتها الحرجة أي الجوع المفضي إلى الموت وكذلك اتساع النطاق ليشمل الملايين من البشر.
في تقديري أن المسألة الأولى في ضعف التغطية الإعلامية للحرب السودانية متصلة بعدم وضوح العدو منذ اللحظة الأولى للحرب كالحالة في الحروب الإسرائيلية على كل من غزة ولبنان، إذ إن العدو هنا واضح وهو عدو تاريخي للشعوب العربية وبات كذلك أيضاً للمسلمين حول العالم، بسبب استباحة الصهاينة قدسية المسجد الأقصى وضم القدس للكيان الإسرائيلي.
المسألة الثانية هي الالتباس وعدم وضوح الموقف في شأن تفاعلات المشهد السوداني قبيل الحرب المندلعة منذ أبريل (نيسان) 2023، ذلك أن الأطراف المتحاربة كانت حليفة لبعضها بعضاً حتى وقت قريب منذ بداية الحرب، وتبادلت المهام والمواقع على الصعيد العسكري، بل إن تضخم قوة وقدرات قوات "الدعم السريع" تقع مسؤوليتها على صانع القرار في الجيش السوداني الذي سمح بهذا الأمر خلال الفترة الانتقالية التالية لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018.
وطبقاً لهذا الواقع فإن شيطنة الأطراف المتصارعة لبعضها بعضاً تظل مجروحة، وإن كانت قوات "الدعم السريع" فقدت كل مشروعية سياسية لدى الجمهور السوداني العادي بسبب ممارستها غير الإنسانية في المناطق التي تجتاحها، وهو ما انعكس إعلامياً على الصعيد الداخلي ولكنه لم ينعكس خارجياً.
أما المسألة الثالثة فهي حالتا التعقيد والتركيب على أكثر من صعيد، ذلك أن هذه الحرب تمتد بجذورها لصراع سياسي مترتب على ثورة 2018 بين قوى سياسية واجتماعية ممثلة لنظام استبدادي له طابع عسكري وثيوقراطي وبين قوى سياسية واجتماعية لها طابع مدني ساعية نحو الحداثة والتحول الديمقراطي منذ ثلاثة أرباع قرن من الزمان.
ويضاعف من تعقيد مشهد الصراع في السودان أمران هما البعدان التاريخي والقبلي، لأن مؤسسة الدولة السودانية في دولة الاستقلال الوطني موصومة بالانحياز على أسس عرقية وقبلية، كذلك فإن الجيش القومي موصوم بتمكين قوى سياسية من السلطة يساراً ويميناً وهو ما نزع عنه تمثيله المصالح الجامعة للشعب السوداني في فترات ليست بالقليلة في تاريخ البلاد الحديث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما البعد القبلي فهو حاضر في هذه الحرب تأسيساً على المكونات العرقية في الجيش السوداني وطبيعة حواضنه الاجتماعية، وأيضاً الحواضن الاجتماعية والقبلية لخصمه من قوات "الدعم السريع"، إذ إن هذه الحواضن تعادي على الصعيدين العرقي والثقافي بعضها بعضاً قبل الحرب السودانية، وأُسست مقولات وإبداعات الغابة والصحراء الثقافية في أطروحات منقسمة الوجدان بين مركز وهامش، وكثر بينهما الجدل غير السلمي، وهو أمر يفسر لنا أن في السودان فصائل مسلحة وأراضي محررة قبل الحرب الأخيرة سواء في جبال النوبة أو في دارفور، كذلك فإن مشاهد الصراع المسلح هناك هي غير جديدة بل تاريخية على صعيد شامل كالحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه، التي اندلعت عام 1955 أي قبل تاريخ الاستقلال الوطني، أو الصراعات الجزئية في أقاليم جبال النوبة والنيل الأزرق وأجزاء من دارفور.
هذا التعقيد للتفاعلات السودانية المفضية إلى حرب أبريل 2023 جعل المعالجات الإعلامية الخارجية للصراع تقصر أحياناً عن إدراك عمق التعقيد في المشهد الصراعي السوداني، وتجنح ربما إلى التسطيح أحياناً، انطلاقاً من قصور أدوات المتابعة وضغط الوقت، أما إذا امتلكت المعرفة والإدراك فربما تخضع لتوجهات وسياسات دولة البث الإعلامي خصوصاً في منطقتنا العربية أو الانحيازات القيمية المبدئية على الصعيد الدولي، فيسهم كلا الأمرين في تعقيد المشهد السياسي الداخلي وتعويق خلق بيئة واقعية إعلامياً مناصرة لمطلب وقف الحرب مثلاً.
وبطبيعة الحال ينتج من المشهد الانقسامي السوداني على أكثر من مستوى استقطاب كبير بين الأطراف المتحاربة والمتصارعة انعكس بالضرورة على الإعلام السوداني ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ يندر وجود المنصات الإعلامية المستقلة على صعيد الإعلام الواقعي على رغم بعض المحاولات خصوصاً الشبابية، بينما تخضع وسائل التواصل الاجتماعي لأهواء أفراد أو مجموعات لها مصالح متناقضة، ولكن بالإجمال يخضع الجميع لمطلب ما يسمى "التريند والترافيك" أي حجم الانتشار وسرعته، مما يعمق الاستقطاب السوداني المفضي إلى الصراع والحرب ولا ينهيه أو يقلل من أثره السلبي.
إجمالاً يبدو لنا أن مجهودات وقف إطلاق النار أو الوصول إلى محطة السلام السوداني والحفاظ على الدولة ضد التهديدات الوجودية لا تتطلب فقط جهداً إقليمياً ودولياً على الصعيد الدبلوماسي، أو جهداً سياسياً داخلياً وقدرة على إنجاز هدف التوافق الوطني من الفواعل الداخلية السودانية، ولكنها تتطلب قبل كل ذلك خلق اهتمام إعلامي بالمشكل السوداني وطبيعته، شرط أن تكون هذه المنصة مستقلة ومحايدة قدر الطاقة والظروف، ممتلكة الأدوات المهنية الصحيحة بعيداً من الأجندات بجميع أنواعها، وأيضاً أن يكون الهدف المتفق عليه من دون أو مراوغة أو توظيف هو الإنسان السوداني لا غير، بعيداً من أية مصالح إقليمية أو دولية على الصعيد الخارجي أو حالة الانقسام الداخلي.
وظني أن هذا الطرح لا ينتمي إلى عوالم يوتوبيا ولكن إلى المصالح قبل أي شيء آخر، ذلك أن انهيار السودان هو خسائر بالجملة للجميع، ومن بين هؤلاء قطاع الأعمال الخاص في هذا البلد، الذي أتصور أن عليه أن يقوم بهذه المهمة في هذه المرحلة الحرجة، عبر تحالف متعدد الأطراف من رجال الأعمال السودانيين الكبار، وقد يكون من المقترح أن يكون ممثلاً للمكونات السودانية على الصعيدين الديموغرافي والقبلي. ويضاف إلى ذلك وربما الأهم من كل ذلك هو بلورة خطاب هذه المنصة ومشروعها الإعلامي والاجتماعي قبل السياسي، وإذا امتلكت هذه المنصة وعياً شاملاً بمتطلبات استقرار الدولة السودانية، واستمرارها. من هنا يمكن بلورة طريق تاهت معالمه لفترة طويلة ومطلوب استعادة ملامحه.