ملخص
هناك استثناء في "نظام روما الأساس" يتيح للدول غير الأعضاء في المحكمة مثل إسرائيل أن تطلب عدم توقيف مسؤوليها، وقد استخدمت الحكومة الفرنسية هذا الاستثناء لتبرير حصانة رئيس الوزراء الإسرائيلي طالما أنه يشغل منصبه.
بعد تصريح الخارجية الفرنسية حول الحصانة، تمكن الرئيس الفرنسي من إعلان وقف إطلاق النار في لبنان بالاشتراك مع الرئيس الأميركي جو بايدن.
أعلنت الحكومة الفرنسية بصورة غير متوقعة عبر وزارة خارجيتها أنها تحترم قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، لكنها لن تنفذ القرار بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يتمتع بالحصانة طالما هو في منصبه، والمفاجأة سببها أن المعنيين ومتتبعي هذا الملف توقعوا أن تكون فرنسا أول من يلتزم بقرارات المحكمة الجنائية الدولية، أولاً لما تمثّله كأمة ديموقراطية كانت ثوراتها الشهيرة ومفكروها السبيل للوصول إلى وضع القوانين الدولية وحماية المجتمعين الدولي والإنساني من أي تعسف في استخدام القوة، ولأن العلاقات بين الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية كانت تمر بمرحلة دقيقة نتيجة "حرب الإبادة الجماعية على غزة" كما وصفتها المحكمة، ثم ازدادت تعقيداً بسبب بدء الحرب المدمرة على لبنان والتي قد تعود في أية لحظة بسبب اتفاق وقف إطلاق النار الهش، بحسب بعضهم، مع لبنان ومدته شهرين.
وتبادل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي كلاماً من خارج المجاملات السياسية المتبعة، ولهذا كان من الطبيعي اعتبار فرنسا أول من سيبادر إلى تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية، لكن القضية لم تسر كما اشتهى الراغبون في توقيف نتنياهو، مع العلم أن دولاً أوروبية أخرى أعلنت بأنها ستقوم بتوقيفه في حال قام بزيارتها، مثل هولندا وإسبانيا وغيرهما من دول أقل اهتماماً من فرنسا بنزاعات الشرق الأوسط، والتي لا تزال تعامل لبنان كـ "ابن مدلل" من عائلة الدول التي استعمرتها فرنسا خلال القرن الماضي.
واستندت الحكومة الفرنسية إلى المادة (27) من نظام روما الأساس التي تساوي بين جميع الأفراد أمام المحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسهم رؤساء الدول والحكومات، وكانت المادة واضحة بأنه لا يمكن أن تمنع الحصانات الوطنية ممارسة المحكمة اختصاصها، إلا أن استثناء واحداً يتيح للدول غير الأعضاء في المحكمة مثل إسرائيل أن تطلب عدم توقيف مسؤوليها.
وعلى رغم هذا الاستثناء الذي استخدمته فرنسا كحجة للالتفاف على واجبها القانوني، خرجت سلسلة من المواقف الرسمية من قادة أوروبيين قرروا احترام قرار المحكمة عبر تنفيذه بتوقيف القيادات الإسرائيلية التي صدرت وستنفذ بحقهم هذه المذكرات إذا وطأوا أراضيها، ووحدها هنغاريا من بين الدول الأوروبية التي قامت بدعوة نتنياهو إلى زيارتها لتأكيد عدم التزامها بالقرار، وأعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو أن كندا ستلتزم بجميع اللوائح والأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية على رغم أنه الحليف الأقرب للولايات المتحدة، وعلق مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن "قرار المحكمة يجب أن يحترم وينفذ"، وأعلنت هولندا نيتها تطبيق نظام روما الأساس واعتقال نتنياهو وغالانت.
وكانت غرفة المحكمة أصدرت مذكرات في جرائم ارتكبت بين الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحتى الـ 20 من مايو (أيار) 2024، تاريخ تقديم الادعاء العام طلبات إصدار مذكرات توقيف، مع العلم أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية اشتدت وتصاعدت في قطاع غزة ولبنان بعد الـ 20 من مايو 2024، واعتبرت المحكمة أن جريمة الحرب تمثلت أولاً في "التجويع المقصود ضد المدنيين والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد والتهجير والتدمير وغيرها من الأعمال غير الإنسانية"، والتي يحظرها القانون الدولي ويجرم مرتكبيها، ويبلغ عدد الدول الموقعة على نظام روما 124 دولة ملزمة بالامتثال لقرارات المحكمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منع التوقيف في مقابل وقف إطلاق النار
وتساءل معلقون فرنسيون ودوليون حول مدى قانونية الحصانة التي استندت إليها الحكومة الفرنسية، خصوصاً وأن نظام روما الذي أسس المحكمة كان واضحاً بأن قرارات المحكمة تنطبق على جميع الأشخاص من دون تمييز بسبب الصفة الرسمية، ولا تعفي أي شخص من المسؤولية الجنائية.
واعتبر قانونيون فرنسيون وأوروبيون أن الالتفاف الفرنسي دليل على "ازدواجية المعايير" بعدما رحبت فرنسا بمذكرة توقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهم جرائم حرب في أوكرانيا قبل أعوام قليلة، ولم توقع الولايات المتحدة على قانون المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها، وقد رفضت بوضوح القرارات الأخيرة الصادرة عنها ولم تكتف بهذا الرفض العلني، بل ناقش مجلس النواب الأميركي تشريعاً لمعاقبة المحكمة، ولكن هذا الموقف بقي في إطار النقاشات والمداولات ولم يتحول إلى قانون.
وعلى رغم أن واشنطن كانت الأكثر حماسة لمذكرة اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب إطلاقه الحرب على أوكرانيا، مما يحول قرارات المحاكم الدولية إلى "وجهات نظر" أيضاً، كما كل القرارات التي تصدر عن هيئات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحاكم الدولية، فالقرار الذي يحقق مصلحة هذا الفريق أو ذاك يعتبره صاحب المصلحة قراراً تاريخياً لا بد منه، والقرار الآخر الذي يشبهه تماماً ويستند إلى المواد القانونية نفسها يمكن تصنيفه في خانة "معاداة السامية" مثلاً، وهي تهمة جاهزة توجهها إسرائيل لكل من يتجرأ على توجيه انتقادات لهذه الدولة أو لمسؤوليها.
وبات الطرف الأقوى هو الذي يحدد القرارات التي يجب تطبيقها والتي يجب وضعها في الدرج في حال لم يتمكن الطرف المتهم من منع صدور القرار أساساً، وهذا ما حاولت أن تفعله إسرائيل مع مدعي المحكمة خان حين جرى تهديده بصورة مباشرة بفضح معلومات خاصة وشخصية عنه لدفعه إلى عدم إصدار المذكرات أو التنحي كلياً عن القضية.
فرنسا تبدل رأيها في يومين
القرار الفرنسي الذي منح نتنياهو الحصانة طالما أنه في منصبه الرسمي، بدا لكثيرين وكأنه تقويض مباشر لقرار المحكمة مما أثار غضب المدافعين عن حقوق الإنسان والقانونيين والمثقفين الفرنسيين، ووجه هؤلاء تساؤلاتهم إلى سلطاتهم عن سبب هذا الالتفاف المفاجئ على قرار المحكمة، فجرى تسريب معلومات من مصادر متطابقة بأن القرار الفرنسي كان يهدف إلى عدم خلق جو من العداء قد يؤدي إلى قطع العلاقات بين فرنسا وإسرائيل، خصوصاً وأن الرد الإسرائيلي المسبق كان في رفض الدور الفرنسي الوسيط في الحرب التي طاولت لبنان، ولكن بعد تصريح الخارجية الفرنسية حول الحصانة تمكن الرئيس الفرنسي من إعلان وقف إطلاق النار في لبنان بالاشتراك مع الرئيس الأميركي جو بايدن، وهكذا بدت واضحة صفقة التنازلات بين إسرائيل وفرنسا.
كتبت دانا وولف في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أن "إصدار أمر اعتقال جنائي بحق رئيس وزراء دولة ديمقراطية يعكس فقدان المجتمع الدولي الثقة بالديمقراطية الإسرائيلية وقدرتها أو رغبتها في التحقيق مع نفسها، مثلما فعلت في الماضي"، وبرأي وولف فإن النتيجة المباشرة لهذه الأوامر هي أن رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق لن يتمكنا من زيارة الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية من دون المخاطرة بالاعتقال والمثول أمام القضاء، وهذا ما سيحدث ضرراً سياسياً فورياً، ولا سيما مع دول أوروبا وكندا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.