ملخص
شهد اليوم الأول للمهرجان قيام مساعدي "الكجور"، وهو روحاني في مقام رجل الدين، بالتطواف على مناطق الزراعة للتأكد من نضج المحاصيل، ومن ثم الإعلان عن بداية موسم الحصاد، وفي الفترة المسائية بارك السكان خروج "الكجور" من "كوخه" الذي اعتكف فيه أعلى الجبل لأربعة أشهر تمثل موسم الخريف.
لم تمنع قتامة المشهد ومآسي الحرب السودانيين من تنظيم الفعاليات الثقافية والاحتفال بطقوس المهرجانات، إذ لا تزال أصوات الفن وأصداء الموسيقى ترن بين حين وآخر لتذكر بما تكتنزه ربوع هذا البلد من تراث وفولكلور شعبي كمقاومة إنسانية لتداعيات الصراع المسلح والظروف الصعبة، مما تجلى في منطقة جبال النوبة غرب الخرطوم التي تحتضن على مدى أسبوع احتفالات أعياد موسم الحصاد.
ويهدف مهرجان الحصاد إلى تعزيز التعايش بين المكونات الثقافية المتعددة عن طريق الفنون الشعبية، فضلاً عن الدعوة إلى السلام وإيقاف القتال في السودان عبر رقصات "النقارة" و"كرنق" و"كمبلا"، وكذلك الإيقاعات الطروبة ومنافسات "الصراع" أشهر رياضات مجتمعات جبال النوبة.
معتقدات خاصة
يمتد الحصاد بين منتصف سبتمبر (أيلول) وحتى ديسمبر (كانون الأول)، وخلالها يشرع الشباب "التربالة" بحصاد ثمار الموسم، ويبدأ بطقوس تعرف بـ"سبر اللوبيا" أو "سبر النتل".
وشهد اليوم الأول للمهرجان قيام مساعدي "الكجور"، وهو روحاني في مقام رجل الدين، بالتطواف على مناطق الزراعة للتأكد من نضج المحاصيل، ومن ثم الإعلان عن بداية موسم الحصاد، وفي الفترة المسائية بارك السكان خروج "الكجور" من "كوخه" الذي اعتكف فيه أعلى الجبل لأربعة أشهر تمثل موسم الخريف.
ويتزامن خروج "الكجور" من معقله الخريفي مع اختيار الشباب من الجنسين أزواجاً وزوجات عند قمة الجبل التي يصعدون إليها، ويُعدّ الحصاد في جبال النوبة موسماً للتكافل على طريقة السكان المحليين، إذ تم توزيع الذرة والدخن للنازحين والفارين من ويلات الحرب، بخاصة بعد معاناة سكان ولاية جنوب كردفان شبح المجاعة نتيجة الحصار المفروض على الإقليم من قبل قوات "الدعم السريع" والحركة الشعبية - شمال.
رسائل السلام
على الصعيد نفسه، اعتبر الباحث في تراث النوبة خميس كوكو أن "مهرجان أعياد موسم الحصاد أسهم في توجيه رسائل مهمة تدعو إلى السلام ووقف القتال في أقاليم السودان كافة، كما أن ألوان الفنون المختلفة تقوم بدور مهم في تخفيف الاحتقانات وإعلاء صوت أنغام الأوتار والرقصات على السلاح، وهي رسائل تمنح السودانيين الثقة والأمل في أن بلادهم ستخرج من هذا النفق المظلم".
وأضاف أن "الغناء والاحتفال في ظل الأوضاع الحالية يعتبره بعضهم فعل حياة وتحدٍّ لآلة الموت، وهروباً من حال الحزن والظروف الاقتصادية المتردية".
وأوضح كوكو أن "سكان جبال النوبة قدموا أجمل طقوس فنون الأداء التعبيري، وشارك المواطنون جميعاً في طوابير بحسب الأعمار، يقف فيها الرجال بعيداً من النساء، ثم يبدأ الرقص على إيقاع ’الإرشاد‘ وهو إيقاع موسيقي اشتهرت به المنطقة ويتسم بأنه بطيء، راسمين مشهداً من التلاحم والترابط الحميمين".
ولفت الباحث في تراث النوبة إلى أن "هناك طقوساً عدة، من بينها حمل الشباب أسلحتهم التقليدية، مثل الحراب والسكاكين والفؤوس الصغيرة تأهباً للدفاع عن النفس، أما النساء فيتزيّن بحلي من الذهب والفضة وحلي محلية يطلق عليها ’تربلول‘".
مصارعة حرة
في غضون ذلك، شهد اليوم الثاني للمهرجان تنظيم نشاط رياضي يسمى "الصراع" يشبه إلى حد بعيد المصارعة الحرة الشهيرة، ويُعدّ ذا عمق ثقافي واجتماعي في مناطق التماس بين قبائل النوبة ذات الجذور الزنجية، وأقيمت مراسم المنافسات بالتزامن مع موسم الحصاد، في سياق الاحتفالات السنوية التي تمتد لمدة أسبوع.
ووسط إقبال جماهيري كبير، يدخل الحلبة مصارعان من قبائل مختلفة وبرفقتهما رجل ثالث يعرف محلياً بـ"السباري" ويقوم بمقام الحكم، فهو يحدد قوانين وقواعد اللعبة، وتنتهي المصارعة بإسقاط المهزوم أرضاً وتسمى باللهجة المحلية "أردمية" أو سقطة، ويفوز بها من يتمتع بمهارات عالية وقوة جسدية خارقة.
وتُعدّ حلبة مصارعة "النتل" غرب مدينة الدلنج من أكبر حلبات المصارعة في جبال النوبة، يتجمع فيها فرسان الصراع من "جبال النوبة" لتعلن بداية "سبر اللوبيا" من هناك.
وتتنوع الفنون الشعبية في الفترة المسائية من خلال رقصات "كرنق" و"كمبلا" و"النقارة"، إذ تقف المرأة معتدلة القامة وتنظر إلى الأمام ويداها في الجنب مع تحريكهما وضرب الرجل اليمنى على الأرض ثم التقدم إلى الأمام، أما الشبان فيقفون معتدلي القامة وعصيهم في أيديهم ويمدون أيديهم إلى الأمام مع ضرب الأرجل والتحرك إلى الأمام والخلف بخفة ورشاقة، أما رقصة "كمبلا"، فتصطف فيها الفتيات على نحو نصف دائري يغنين ليدخل بعد ذلك إلى الساحة الشبان وهم يرتدون الريش و"الكشاكيش" والثياب الملونة في تشكيلات متتالية ليستمتعوا ويمتعوا الحضور بمهاراتهم في هذه الرقصة التي تُعدّ الأولى في جبال النوبة.
وفي هذا الصدد، يقول عضو مركز تراث النوبة للثقافة والفنون الشريف حسن تيه إن "الصراع" بصورته التنافسية "يعزز الإحساس بالنصر والتفوق ويحقق السلام النفسي، بما يكفي الفرقاء شر الدخول في معارك وقتال، فخلال الاحتفالات تذوب الفوارق العرقية والثقافية بين القبائل المختلفة وتختفي، ويعم السلم الأهلي والاجتماعي إلى جانب حفظ التراث المتنوع للنوبة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف أن "الفنون تقوم بدور في تخفيف الاحتقانات التي قد تنشب بين المجموعات السكانية باعتبارها تراثاً موسيقياً سودانياً يسهم في توحيد الوجدان الشعبي والوطني".
ونوه تيه إلى أن مجتمع النوبة يعلم الأطفال مبكراً على الزراعة، ويبدأون بمزرعة صغيرة خلف المنزل يطلق عليها اسم "جبراكة"، مما "يحمهلم المسؤولية ويجعلهم مسهمين في توفير الأمن الغذائي للأسرة، فهم يعملون إلى جانب أمهاتهم ويتدربون بذلك على العمل في المشاريع الكبيرة".
طقوس الزواج
وتترافق مع مهرجان موسم الحصاد "طقوس الزواج" وفيها يختار الصبي فتاته، وهنا يقول الباحث في تراث النوبة الطاهر سليمان "يحتفل السكان في جميع مناطق جبال النوبة بنجاح موسم الزراعة وبداية حصاد المحاصيل الجديدة، ويسمى هذا التقليد ’سبر اللوبيا‘ بلغة مجتمع ’كقولو تانجارا‘ وهم سكان الأودية الجبلية، وهم من بين المجموعات اللغوية الـ 10 التي تكوّن شعب النوبة ويعرفون بمجموعة ’كادقل وكرنقو وتلشي‘، وتضم عشيرة ’كتولسي‘".
وأضاف أن "الفتيان يخرجون إلى الميادين ويعدون أغنياتهم ليشاركوا بها رصفاءهم في بقية القرى، باعتبارها إيذاناً بعبور ضفة العزوبية إلى ساحل الزواج".
وأوضح سليمان أنه "قبل بدء احتفالات الزواج، يتقارع الصبيان بالسياط المصنوعة من جلود الماعز ولحاء الأشجار ’ترن كسو‘، ويحصل من يفوز في حفل الجلد على جائزة عبارة عن إناء فخاري له فتحتان، يطلق عليه ’كتو‘".
وأشار الباحث في تراث النوبة إلى أن "طقوس الاحتفال تختتم برقصة لاستعراض القوة بين الشبان البالغين في سن الزواج وتسمى ’تنكلي‘، وتعني أن الشاب عبر مرحلة المراهقة وأصبح في عداد الرجال، وتنتهي الفعالية بإكمال الزيجات، وتقدم القبيلة إلى العرسان الهدايا وعادة تكون من الأبقار والماعز والحلي لكل المتزوجين".