ملخص
كان 2024 عاماً لا يُنسى في تاريخ لبنان، فقد حفر تاريخه عميقاً بحرب مدمرة زنرت البلاد بالنار والدم والركام، وشكل امتداداً لسلسلة الأزمات التي تعرض لها لبنان منذ عام 2019، بدءاً بالانهيار المالي والاقتصادي وصولاً إلى التخلف عن سداد الديون والفراغ في المؤسسات الدستورية التي عمقت معاناة اللبنانيين اليائسين، فيما تزداد الرهانات على التسوية المدعومة دولياً لإطلاق عجلة التنمية.
"إنه عام النكبة بل عام الكابوس"، هكذا يصف قسم واسع من اللبنانيين عام 2024، في دلالة منهم إلى حجم المعاناة التي واجهها هؤلاء خلال الفترة الماضية التي أثقلتها الحرب الإسرائيلية بنتائجها الكارثية، وما خلفته من قتل وتهجير وتدمير للقرى والأملاك، وما سبقها من انهيار مالي واقتصادي بدأ منذ عام 2019، وخسارة المودعين ودائعهم المصرفية، وصولاً إلى إعلان الحكومة تخلفها عن سداد سندات الدين، إضافة إلى وضع لبنان على القائمة الرمادية لمجموعة العمل الدولية، بسبب ضعف القطاع المصرفي الشرعي وانتشار الاقتصاد النقدي.
عام الخسائر الكبرى
وأرخت الحرب الإسرائيلية بظلالها على لبنان مخلفة عدداً كبيراً من الضحايا ودماراً غير مسبوق في مختلف المناطق اللبنانية، واحتلال إسرائيل موقتاً للشريط الحدودي ومنع الأهالي من دخوله، حيث يُنتظر مرور مهلة الـ 60 يوماً للتحقق من النيات الإسرائيلية.
وأدت الحرب إلى سقوط 4 آلاف قتيل مدني، إضافة إلى 4 آلاف مقاتل من "حزب الله"، وأكثر من 15 ألف جريح، ناهيك عن مصابي "هجوم البيجرز".
وشهد هذا العام نزوحاً جماعياً هو الأسوأ في تاريخ البلاد حين غادر أكثر من 1.2 مليون إنسان منازلهم، وحال الدمار واستمرار الوجود الإسرائيلي من دون عودة كثير منهم رغم انتهاء الحرب.
وفي دراسة أولية قام بها مركز "استوديو أشغال عامة"، فقد لجأت إسرائيل إلى "القتل والتهجير ومنع استعادة الحياة وعودة الناس للمناطق الحدودية"، وعملت على تدمير منهجي ومتعمد ضد البيئة المبنية وضد الذكريات الفردية والجماعية، وفي هذا الإطار يمكن التذكير بتدمير السوق التاريخية في مدينة النبطية (جنوب) والمباني التراثية في بعلبك وصور، وعشرات المواقع الأثرية ودور العبادة.
ووثقت الدراسة تكرار أعمال "النسف الجماعي" في 13 بلدة، حيث دمرت الأحياء والقرى عبر تفخيخها بالمتفجرات ومن ثم توثيق عمليات التفجير بطائرات الاستطلاع أو عبر الهواتف النقالة للجنود.
وأشارت الدراسة إلى أن قرى حولا ومحيبيب وميس الجبل وبليدا وراميا ومروحين والضهيرة وعيترون والعديسة وكفركلا وعيتا الشعب وطيرحرفا والخيام، تعرضت لتفخيخ منازلها ومبانيها وتفجيرها، وترافق ذلك مع التضييق على السكان وتلويث الماء والتربة من خلال استخدام الفوسفور الأبيض المحرم دولياً، كما حذر الجيش الإسرائيلي أهالي 81 قرية من العودة لها وأخضع 170 أخرى لحظر التجوال من الخامسة مساء إلى السابعة صباحاً.
وترافقت هذه الأعمال مع تقديرات بتدمير قرابة 100 ألف وحدة سكنية في الحد الأدنى، ويمكن أن يكشف المسح الميداني الشفاف عن ضعف ذلك العدد، علماً أن التأخير في عملية إعادة الإعمار سينتج أزمة سكن كبيرة في لبنان بدأت بوادرها من شكوى أهالي الضاحية الجنوبية لبيروت حيال الارتفاع القياسي لإيجارات الشقق، ففي منطقة الكفاءات (الضاحية) بلغ إيجار شقة من غرفتين 1000 دولار أميركي، فيما وصل في منطقة "الجناح" إلى 1500 دولار، إذ يطلب المالك أجرة ثلاثة شهور سلفاً.
وتشير الباحثة تالا علاء الدين إلى أنه "لا يمكن إعطاء أرقام دقيقة بسبب عدم إجراء مسح رسمي للمباني المدمرة والمتضررة"، محذرة من ارتفاع الإيجارات التي تعد امتداداً لما شهدته أوقات الحرب متجاوزة أضعاف الحد الأدنى للأجور، إذ يؤدي الطلب الكبير إلى ارتفاع الإيجارات بصورة أكبر.
وفي هذا الإطار تقترح علاء الدين "تدخل السلطات المحلية لوضع سقوف للإيجارات"، إضافة إلى "درس إمكان إلغاء الإيجارات للنازحين المتضررين من الحرب، باعتبار أن من مسؤولية الدولة تأمين الإيواء والإبقاء على مراكز الإيواء الرسمية وعدم إفراغها قسراً، وفرض تأجير الشقق الشاغرة في المناطق المتضررة ريثما تبدأ عملية إعادة الإعمار".
الخسائر هائلة
ومن الباكر الحديث عن رقم نهائي للأضرار التي لحقت بلبنان، ففي وقت قدر البنك الدولي الخسائر بنحو 8.5 مليار دولار لغاية الـ 27 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أوضح نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني سعادة الشامي أن "الأرقام تتجاوز هذا الرقم نظراً إلى استمرار الحرب لما بعد ذلك التاريخ، وما أعقبه من خسائر مادية واقتصادية لحقت البلاد، معلناً في حديث صحافي عن حاجة لبنان إلى 10 مليارات دولار أميركي من أجل إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب مع إسرائيل.
كما لفت المسؤول اللبناني الذي شارك خلال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إلى عدم توافر تقديرات نهائية في شأن المبالغ المطلوبة لإعادة الإعمار، كاشفاً عن أن "لبنان يناقش مع البنك الدولي حالياً إمكان إنشاء صندوق ائتماني للمانحين المتعددين لتمويل عملية إعادة الإعمار".
من جهته يعتقد الخبير الاقتصادي بلال علامة أن "أرقام الخسائر تتجاوز تقديرات البنك الدولي بسبب فقدان الأرواح والدمار الهائل في البنى التحتية والمباني"، مشدداً على أنه "لا يمكن اللجوء إلى المنظمات الدولية من دون ترتيب الوضع المالي وإحياء التفاوض مع صندوق النقد الدولي".
وأكد علامة أن "الحرب ألحقت بلبنان خسائر منظورة مباشرة وغير منظورة، إذ لن تنتهي آثار الحرب قريباً لأن عدداً كبيراً من النازحين سيبقى بحاجة إلى دعم الإيواء وتكوين البنى الأساس لعودتهم إلى قراهم المدمرة"، مشيراً إلى "حاجة مناطق الجنوب والبقاع والضاحية إلى دعم كبير"، إذ قُدرت الخسائر وفق المسوح الأولية بين 12 و 15 مليار دولار، بحسب دراسة مركز الإرشاد والتطوير المهني.
ولفت علامة إلى "ضرورة أن تلحظ الدراسات الخسائر القطاعية التي طاولت السياحة والصناعة وإغلاق الشركات أبوابها، والتي لا تقل عن 3 مليارات دولار، مما يرفع الخسائر إلى 18 مليار دولار أميركي، إذ ستجد الدولة اللبنانية صعوبة كبيرة في تغطية هذه الخسائر مع غياب الدعم العربي والدولي في مجالات إعادة الإعمار والاستثمار، فحتى الآن تقتصر المساعدات على الجسور الإغاثية الإنسانية التي أقامتها السعودية والإمارات وقطر، ومساعدات من مصر وتركيا والجزائر والأردن، ولذلك يُعتقد أن عملية إعادة الإعمار ستبقى مؤجلة ريثما ينتخب رئيس جديد للجمهورية وإعادة تشكيل السلطة وعودة لبنان للتواصل مع العالم وتجاوز مرحلة القطيعة مع المحيط، ومخاطبة المغتربين والمنتشرين لمساعدة وطنهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لبنان بلا سقف دولي
ولا تقتصر الخسائر اللبنانية على الدمار وإنما تتجاوزها إلى فقدان السقف العربي الذي لطالما أمّن مظلة حماية للبنان خلال الصراع مع إسرائيل وأسهم في عمليات إعادة الإعمار، وتحدث الدكتور عارف العبد عن "اختلاف جذري في الموقف العربي بين عامي 2006 و2024، فخلال المرحلة السابقة تدفقت المساعدات إلى لبنان بصورة لا محدودة"، مستذكراً "اجتماع وزراء الخارجية العرب في السراي الحكومي إبان حكومة الوزراء السابق فؤاد السنيورة، وما صدر عنه من مساعدات مادية وعينية، أما في الحاضر فإن المساعدات شبه معدومة".
ويضيف أن "الحرب الحالية لم تحظ برضى عربي"، محملاً سياسة "حزب الله" المسؤولية لأنها "وترت العلاقة مع مختلف الدول العربية وأثرت في موقفها تجاه لبنان، علماً أن لبنان دخل الحرب من دون استشارة أحد، ولذلك أعتقد أن إعادة الإعمار مسألة بالغة الصعوبة بسبب عدم وجود الأموال اللازمة لإطلاقها".
واعتبر العبد أن "أعظم نتائج الحرب هي سقوط سردية 'حزب الله' الفكرية والسياسية والدعائية ومقاربته للمواجهة".
الجو الدولي غير مهيأ
ومع إعلان "وقف الأعمال العدائية" يراهن اللبنانيون على صمود اتفاق وقف النار وعودة لبنان للحاضنة الدولية، ويشير الخبير الاقتصادي سعد العنداري إلى أن "التنفيذ الكامل للقرار (1701) سيكون مناسبة لعودة لبنان للشرعية الدولية والحاضنة العربية بإشراف أميركي - فرنسي لإخراج لبنان من المستنقع"، مؤكداً "عدم وجود بديل من أجل استئناف مليون نازح حياتهم الطبيعية".
ويعول العنداري على "دور يلعبه الجيش اللبناني للعبور بلبنان نحو الاستقرار، إذ بدأ الانتشار في المطار والمعابر الشرعية، ناهيك عن العمل على إعادة تشكيل المؤسسات الدستورية وانتخاب رئيس مدعوم دولياً، وتشكيل حكومة من الأكفاء من خارج المنظومة السياسية القائمة، وصولاً إلى إصلاح المؤسسات العامة ووضع موازنة إصلاحية غير هزيلة، والالتزام بتوصيات مجموعة العمل الدولية للخروج من اللائحة الرمادية عبر تكريس سلطات المؤسسات الشرعية وفرض سيادتها على المعابر والمؤسسات المالية والتسليفية وإعادة بناء الاقتصاد، وكل ذلك يحتاج إلى تأمين التمويل وصرفه عبر آليات شفافة قد تكون مباشرة وخارج عمل الدولة"، إضافة إلى إعادة اللاجئين السوريين لبلادهم.
ويتحدث الدكتور العنداري عن تفاؤله بإمكان إصلاح الأوضاع في لبنان والعودة لشبكة المدفوعات الدولية والخروج من اللوائح السوداء، "وهو ما كان متعذراً قبل شهر من الزمن"، مشدداً على وضع موازنة حقيقية وقائلاً "إن لبنان دولة منهوبة، فالموازنة الحالية هي 3 مليارات دولار، فيما أنفقت الحكومة عام 2018 بحدود 20 مليار دولار أميركي"، مشدداً على ضرورة وضع خطة عشرية لإعادة هيكلة المصارف وتأمين التمويل لتسديد التزامات الدولة تجاه المودعين وإعادة ودائعهم. كما راهن العنداري على أن تؤدي "التسوية إلى منح لبنان فرصة جدية للتنقيب عن الغاز، وهو ما قد يشكل مناسبة للنهوض المستدام".