ملخص
نعرف أن فيردي في ذلك الحين لم يبحث عن عزاء يعوض خيباته السياسية، فالعزاء كان في انتظاره ويتمثل في عمله الإبداعي، بل بأوبرا كان عرض عليه أن يلحنها ويقدمها في سانت بطرسبرغ ذات بعد وطني إسباني، وكانت تحمل أصلاً عنواناً وموضوعاً عن الدون ألفارو لتتحول إلى "لا فوورسا ديل سينو" وتستقر في نهاية الأمر على "قوة الأقدار".
في العام السابق على ذلك الذي أوصل فيه الموسيقي الإيطالي الأوبرالي الكبير جوزيبي فيردي، الذي لم يتوقف قبل ذلك أبداً عن مقارعة منافسه الرئيس في ذلك الفن ريتشارد فاغنر، إلى ذروة مجد لم يحلم به الإيطاليون أبداً، بل بدا في بعض الأحيان متفوقاً عليه في عقر داره وعقر فنه، في ذلك العام كانت لفيردي خيبات وأحزان سياسية مؤلمة. غير أنه تعلم كيف يتغلب عليها، بل يهزأ منها ويواصل خطه التصاعدي بصبر وأناقة وثقة بالنفس لا تنضب. وهكذا مثلاً لئن كان في ذلك العام، وفيما هو يتحسرعلى موت الزعيم السياسي كافور الذي كان واعداً بأن يحقق وحدة إيطاليا الكبرى على يديه، وفيما يكاد ذلك الموت ييئسه هو المشتغل بالسياسة منذ زمن، نراه يكتب في أوراقه: "لقد شاركت في جنازة كافور والألم الكبير يعتصرني. بيد أن الألم الحقيقي والأكبر إنما كان داخل قلبي". والأدهى من ذلك ما سنلاحظه لاحقاً من أن موت كافور هو الذي صرف الموسيقي الكبير عن الاهتمام بالنشاط السياسي كما كانت حاله من قبل، خصوصاً أن فيردي الذي لم تكن السياسة من بين اهتماماته على رغم وطنيته كان لا يدنو منها إلا عبر مواضيع في أوبراته، يبدو وكأنه يشتغل عليها مع حرص على عدم الانخراط فيها، وبالتحديد استجابة منه لما كان يحثه عليه كافور لا أكثر.
تجوال أوروبي
مهما يكن من أمر، نعرف أن فيردي في ذلك الحين لم يبحث عن عزاء يعوض خيباته السياسية، فالعزاء كان في انتظاره ويتمثل في عمله الإبداعي، بل بأوبرا كان عرض عليه أن يلحنها ويقدمها في سانت بطرسبرغ ذات بعد وطني إسباني، وكانت تحمل أصلاً عنواناً وموضوعاً عن الدون ألفارو لتتحول إلى "لا فوورسا ديل سينو" وتستقر في نهاية الأمر على "قوة الأقدار". ويقيناً أن ما راق لفيردي فيها كان موضوعها الذي بدا له أنه يتلاءم تماماً مع ما انتهى إليه نشاطه السياسي، إذ يتنقل المناخ من البطولة إلى الدناءة، ومن أقصى درجات الجدية إلى أدنى مناخات التهريج اللاذع، ومن أسمى درجات التأمل الروحي إلى العنف الدامي. وهكذا بانصراف فيردي إلى العمل على هذه الأوبرا، تمكن من أن يلهي نفسه بالعمل حتى نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام. عند نهايات ذلك الشهر ينطلق ذلك المبدع في طريقه إلى العاصمة الروسية التي سيصل إليها عند بداية الشهر التالي، وهو منذ وصوله شرع فوراً في العمل وانطلقت التحضيرات بأفضل ما يكون وأسلس ما يكون، ولكن بصورة غير متوقعة وقعت المغنية الأولى فريسة مرض أقعدها الفراش. ولما أفتى منتجو العمل بأنه ليس في الإمكان توفير بديلة لها أوقف فيردي التحضيرات وأصر على تأجيل التقديم إلى الخريف المقبل، مما يعني أن ثمة أقل قليلاً من عام قبل أن يستأنف الاهتمام بـ"قوة الأقدار"، ولما كان من غير المنطقي بالنسبة إليه البقاء في سانت بطرسبرغ كل تلك الشهور، خصوصاً أن الصقيع كان قاتلاً بصورة استثنائية ذلك العام. ومن هنا لم يكن أمامه إلا أن يعود لدياره المريحة في مسقط رأسه بوسيتو، أملاً في الخلود إلى فترة من الراحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيتهوفن في البال
ولكن كيف يمكن لكائن ديناميكي مثل فيردي أن يرتاح حقاً؟ لن يفعل، ومرة أخرى هنا كان العمل في انتظاره كي يشكل له مخرجاً وعزاء على تلك الخيبة التي مثلتها له مغامرته الروسية. فها هو وفيما يمضي بعض أيام من الراحة في عزلته الهادئة، يصل إليه من السلطات الرسمية ما اعتبرته هي أسمى تكريم يمكن أن يناط بفنان، واعتبره هو تطفلاً على فنه وراحته. أبلغته السلطات أنه يجب أن يستعد منذ الآن لتمثيل إيطاليا في المعرض الدولي الذي سيقام بعد أشهر في لندن. وأن يكون على مبدع من طينة فيردي أن يقوم بمثل ذلك الدور، معناه بالطبع أن عليه أن يهيء عملاً موسيقياً كبيراً تفخر به إيطاليا بين الأمم. غير أن ما اعتبرته السلطات مكرمة تبذلها تجاه الفنان، لم يعتبره هو سوى عبء ثقيل ومجرد سخرة. ومن هنا كاد يقول لا متذرعاً باعتبارات واهية، حين رنت في أذنيه عبارة تفيد بأنه لن يكون من الضروري أن يكون العمل أوبرالياً، فله حرية أن يتصرف كما يشاء ويؤلف ما يشاء، وسيقول فيردي لاحقاً إن في تلك اللحظة بالذات خطر اسم بيتهوفن على باله. وتذكر أنه ومنذ استمع لسيمفونية بيتهوفن التاسعة - الأخيرة - ووصل فيها إلى الحركة الأخيرة، إذ أوصل ذلك الفنان إبداعه إلى ذروة عجائبية من خلال إدماجه قصيدة شيللر "أنشودة إلى الفرح" في سياق تلك الحركة الختامية في سابقة لا مثيل لها بصورة جدية في عالم الفن السيمفوني الأوركسترالي، ولنشر هنا إلى أن ذلك الجزء نفسه من سيمفونية بيتهوفن التاسعة، سيتحول مع بدايات القرن الـ21 إلى نشيد يخص وحدة الأمم الأوروبية، علماً بأن الفكرة نفسها كانت هي ما داعب خيال فيردي في تلك اللحظة التي وجد نفسه يوافق على ما طلبته منه سلطات إيطاليا. لقد قرر أن تكون مساهمته متعددة الرسائل والأهداف، إلى درجة أنه أعلن خلال الأيام التالية أنه سيكرس أنشودته لمجد مدن أوروبية، ولكن في انطلاق من روما عاصمة الدولة الإيطالية التي كانت بدأت تتكون. وهكذا ولدت تلك القطعة الموسيقية الساحرة التي حقق عبرها فيردي أحلاماً عدة في وقت واحد ولكن بصورة خاصة، حلمه البيتهوفني الدفين.
السياسة أم المجد الشخصي؟
الحقيقة أن كثراً قد يرون تناقضاً هنا بين فكرة الحلم الدفين وفكرة أن العمل إنما أتى لغايات سياسية، وهذا ما يوقفنا أمام فكرة "الحلم الدفين"، وذلك بالتحديد لأن فيردي أبقى فكرته الذاتية هذه غير معلنة حتى لأقرب المقربين منه، مدعياً أنه لم يفعل هنا أكثر من المساهمة في خدمة بلاده ومكانتها بين الأمم الأوروبية. وراح يشكو بصورة دائمة من الجهود التي بذلها أشهراً عدة للوصول إلى صياغة عمل فني يخرج عن نطاق اهتماماته. أما حين كان يسأل عما إذا لم يكن يرى تشابهاً بين فكرة تلك الأنشودة التي عنونها "نشيد الأمم" وبين التجديد الأوركسترالي - الصوتي الذي أدخله بيتهوفن قبله بنصف قرن من الزمن في نهاية سيمفونيته التاسعة فكان يجيب مدمدماً: "ما الغريب في الأمر وبيتهوفن هو أستاذنا جميعاً". وبقي أن نذكر هنا أن الأبيات الشعرية التي اشتغل فيردي على تلحينها في هذا العمل النادر بالنسبة إلى لائحة أعماله، كانت من كتابة شاعر شاب يدعى أريغو بواتو، كان بدأ لتوه بإثارة بعض الاهتمام في الحياة الثقافية الإيطالية. وأما المغناة نفسها فإنها تنطلق من احتفال شعبي يحييه كورال ضخم في مكان يبدو ضائعاً بين الريف والمدينة، ليختتم على نوع من التمازج الموسيقي الغنائي بين مدن أوروبية ثلاث هي أضخم ما في غرب أوروبا: مدن فرنسية وإنجليزية وإيطالية. وهي بطبيعة الحال الأمم الثلاث التي كان فيردي نفسه وفي خطه السياسي الجامع، يطالبها بأن تتضافر معاً لتبني أوروبا الكبرى منذ تلك الأوقات المبكرة. وهو على أية حال أمر يسمح لنا باعتبار فيردي من المبدعين الأسبق في تحويل الفكرة الأوروبية إلى إبداع حقيقي. أما السؤال الأخير الذي نجدنا نطرحه ولكن ليس من عندنا فقط، بل على خطى كثر وجدوا أنفسهم قبل نحو عقدين من الآن يطرحونه بقدر ما من الدهشة: إذا كان ما يقال عن كون فيردي بموسيقاه رائداً في انطلاق الفكرة الأوروبية، موسيقياً في الأقل، كيف حدث أن "نشيد إلى الفرح" لشيللر - بيتهوفن كان هو الذي اختير نشيداً لأوروبا الموحدة وليست "أنشودة الأمم" كما تصورها فيردي عن قصيدة بواتو؟