ملخص
يمثل اقتراض الحكومة مباشرة من البنك المركزي التونسي الثالث بعد اقتراض مماثل عام 2020 ثم في فبراير (شباط) 2024، لتتمكن من الوفاء بتعهداتها المالية خلال العام المقبل
يبدو أن الحكومة التونسية ستلجأ مجدداً إلى البنك المركزي للاقتراض منه مباشرة لسداد ديونها الخارجية المتراكمة في عام 2025، إذ تتخلف البلاد عن السداد منذ نحو ستة عقود.
وصادق البرلمان التونسي أخيراً على مقترح تقدمت به وزارة المالية في مشروع قانون المالية للعام المقبل يلزم البنك المركزي إقراض خزانة الدولة 7 مليارات دينار (2.2 مليار دولار) لسداد ديون عاجلة حل موعد سدادها مطلع العام المقبل.
وفي وقت يستعد مجلس نواب الشعب للنظر في مبادرة تشريعية تقدم بها عدد من النواب لتنقيح وإتمام القانون الأساس للبنك المركزي لعام 2016 في شأن إقراض مؤسسة الإصدار مباشرة لموازنة الدولة، تقدمت وزارة المالية بمقترح فصل إضافي ضمن مشروع قانون المالية الهدف منه الحصول على مبلغ 2.2 مليار دولار لتمويل عملية سداد ديون حل موعدها.
وخلّف الاتجاه الحكومي ردود فعل متباينة، خصوصاً من أساتذة اقتصاد ومتخصصين ماليين في تونس، محذرين من خطورة الإجراء وتداعياته السلبية على ارتفاع التضخم المالي في البلاد وتراجع احتياط تونس من العملة الأجنبية، إذ إن الحكومة ستحصل على الدولار في مقابل الدينار لسداد القروض الخارجية.
سد فجوة القروض
وفي ظل صعوبة الخروج على الأسواق المالية العالمية المغلقة أمام تونس بسبب تعليق علاقتها مع صندوق النقد الدولي، فإن الحكومة خططت في موازنة عام 2025 في باب موارد الاقتراض الحصول على مبلغ 7843 مليون دينار (2530 مليون دولار) لم تحدد وزارة المالية مصدرها، بل وضعته تحت بند قروض أخرى.
ويمثل الاقتراض المباشر من البنك المركزي بالحصول على مبلغ 7 مليارات دينار إجابة لهذه القروض التي لم تحدد الوزارة مصدرها.
ويمثل اقتراض الحكومة مباشرة من البنك المركزي التونسي الثالث بعد اقتراض مماثل عام 2020 ثم في فبراير (شباط) 2024، لتتمكن من الوفاء بتعهداتها المالية خلال العام المقبل.
وتفوض هذه المسالة البنك المركزي التونسي منح تسهيلات للخزانة العامة في حدود مبلغ أقصاه 7 مليارات دينار، يمنح من دون فائدة ويسدد على 15 عاماً، منها ثلاث أعوام فترة سماح.
ضغوط على الموازنة
من جانبها، بررت وزرة المالية التونسية سهام بوغديري اللجوء إلى هذا الإجراء واستباق تنقيح القانون الأساس للبنك المركزي بأنه في ظل الضغوط المسلطة على موازنة الدولة بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، توجهت الحكومة نحو تكثيف تعبئة الموارد في السوق المحلية بمختلف أنواعها.
وأقرت بوغديري أنه على رغم ذلك تبقى هذه الموارد محدودة مقارنة مع حاجات تمويل موازنة 2025 التي تصل إلى 28 مليار دينار (9 مليار دولار)، موضحة أنه "إضافة إلى التعهدات بكل مصاريف ونفقات الموازنة من تأجير ودعم واستثمار وخدمة دين، ستسدد الحكومة خلال العام المقبل 24.7 مليار دينار (8 مليارات دولار) تحت بند أعباء خدمة الدين العام.
وتابعت من أمام أعضاء البرلمان دفاعها عن ضرورة الاقتراض من البنك المركزي بأنه يتعين على الدولة في نهاية يناير (كانون الثاني) 2025 سداد أهم قسط من خدمة الدين العام بقيمة مليار دولار، يتضمن أصل الدين إضافة إلى 29 مليون دولار فوائد.
تحذير وتخوفات
وتباينت مواقف وردود فعل عدد من أساتذة الاقتصاد في "الجامعة التونسية" حول مصادقة البرلمان على فصل إضافي في قانون المالية لعام 2025 يسمح للبنك المركزي التونسي مباشرة بإقراض موازنة الدولة نحو 2.2 مليار دولار، وأجمعوا تقريباً على خطورة هذا الإجراء الذي صار عادة تلجأ إليها الحكومة كبديل سريع بدلاً من البحث عن حلول أخرى، محذرين في الوقت نفسه من الانحرافات التي قد تحدث في توظيف هذا المبلغ الكبير.
من جهته حذر أستاذ الاقتصاد بـ "الجامعة التونسية" أرام بلحاج من الانتقال من مرحلة الاستثناء إلى مرحلة العادة، معتبراً أن مقترح وزارة المالية يؤكد بما لا يدعو إلى الشك بأن الأمور استقرت نحو التعويل المتواصل على البنك المركزي لتمويل عجز الموازنة، وقال "طبعاً سنجد من يثمن هذا الاتجاه مبرراً ذلك بنجاح المالية نفسها العام الماضي"، مستدركاً أن ذلك "حل أفضل من الذهاب نحو صندوق النقد الدولي"، ومؤكداً أن هذا الإجراء يترجم سياسة الهرب إلى الأمام وتفادي الإصلاحات المطلوبة والتركيز على الشعارات الرنانة على حد وصفه.
اللجوء إلى الحلول السهلة
وتعليقاً على الأمر نفسه قال المحلل الاقتصادي رضا الشكندالي إن "الدولة تلجأ مرة أخرى للحلول السهلة والمكلفة مثل الاقتراض المباشر من البنك المركزي، في ظل عدم القدرة على تعبئة الموارد الخارجية من العملة الصعبة". وأشار إلى أن "في حال تخصيص قيمة القرض المباشر من البنك المركزي لتمويل نفقات الاستهلاك فهذا سيسهم في ارتفاع معدلات التضخم المالي، إذ إن هذا النوع من النفقات لا يخلق ثروة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف أن "هذا التمويل يطرح تساؤلات عدة حول السياسة النقدية للبنك المركزي"، لافتاً إلى أنه لا يزال يحافظ على نسبة الفائدة المرتفعة للحد من قروض الاستهلاك، وبالتالي الحد من السيولة النقدية في السوق. وأشار الشكندالي إلى أنه "إذا سددت الدولة ديونها الخارجية بقيمة القرض الجديد من البنك المركزي التونسي كما فعلت بجزء من قرض العام الحالي، فهذا سيضعف مخزون العملة الصعبة لدى البنك المركزي على حساب مد السوق الداخلية بما يلزم من سلع غذائية وأدوية، علاوة على سلع أولية أخرى وسلع نصف مصنعة ضرورية لعملية الإنتاج".
ورجح أن يحدث هذا التوجه ركوداً اقتصادياً مثل الذي حدث العام الحالي، مؤكداً عدم قدرة تونس الوصول إلى معدل النمو الاقتصادي المستهدف عند 3.2 في المئة، داعياً الحكومة إلى تخصيص الاقتراض المباشر لتمويل نفقات التنمية لتداعياته الإيجابية على النمو الاقتصادي.
مراجعة قانون البنك المركزي
في غضون ذلك أكد الرئيس التونسي قيس سعيد خلال لقائه محافظ البنك المركزي التونسي فتحي زهير النوري، أن القانون المتعلق بالنظام الأساس للبنك يحتاج إلى مراجعة، مضيفاً أن "من بين الأهداف التي على هذه المؤسسة العريقة العمل على تحقيقها الحفاظ على استقرار الأسعار و الاستقرار المالي لتحقيق أهداف السياسة الاقتصادية للدولة، بما في ذلك النمو والتشغيل". وشدد سعيد على ضرورة أن تعمل كل مؤسسات الدولة في تناغم وتناسق، موضحاً أن السياسة النقدية يجب أن تكون متسقة مع السياسة الاقتصادية، بل للدولة سياسة واحدة لا سياسات عدة حتى وإن تعددت المؤسسات.
حل موقت
من جهته قال المحلل المالي زياد أيوب إن المصادقة على الاقتراض من البنك المركزي ضرورة اقتصادية ولكن بشروط، مؤكداً أهمية الخطوة التي اتخذتها الدولة بالمصادقة على فصل قانوني يمكنها من اقتراض 7 مليارات دينار من البنك المركزي، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تحمل أبعاداً اقتصادية حيوية لكنها تتطلب دراسة معمقة وتطبيقاً حذراً لضمان عدم حدوث انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني. وأوضح أيوب أن "الاقتراض مباشرة من البنك المركزي قد يكون حلاً موقتاً لمعالجة التحديات المالية التي تواجهها الدولة، مثل تمويل العجز أو دعم برامج التنمية، مشدداً في الوقت نفسه على أهمية أن تراعي عملية الاقتراض معدلات التضخم وقيمة سعر صرف الدينار التونسي.
غياب التأثير في التضخم
وعن تأثير اقتراض الدولة مباشرة من البنك المركزي في العام المقبل، أوضح المتخصص المالي بسام النيفر أن "هذه العملية لن يكون لها تأثير كبير في التضخم، من منطلق أن المبلغ سيخصص جزء كبير منه لسداد الديون الخارجية أو تداعيات على قيمة العملة المحلية، باعتبار أن البنك المركزي لن يراجع سعر الفائدة الرئيسة".
وفي المقابل اعتبر أن الاقتراض من البنك المركزي التونسي سيكون له تداعيات مهمة على احتياط تونس من العملة الأجنبية (حالياً معدل 110 يوم توريد)، مرجحاً أن تفقد البلاد ما بين 14 و15 يوم توريد، مما سيؤثر في الاحتياط الذي قد يهبط إلى ما دون 100 يوم توريد بحدود يونيو (حزيران) 2025.
وقال النيفر إن "تونس ستقترض في حدود 21 مليار دينار (7 مليارات دولار) العام المقبل من السوق الداخلية، وهذا المبلغ من الناحية العملية صعب جداً بلوغه"، مشيراً إلى أنه في حال بلوغ هذا الرقم من الاقتراض الداخلي فإن ذلك سينعكس سلباً على واقع إسناد القروض البنكية إلى الشركات الخاصة التي ستجد صعوبات جمة في النفاذ إلى التمويل البنكي. وتابع، "روزنامة سداد تونس لقروضها الخارجية ستنطلق مع نهاية يناير 2025 بسداد مبلغ قرض متحصل عليه عام 2015 بقيمة 1.05 مليار دولار للسعودية، و90 مليون دولار لصندوق النقد الدولي بعنوان قرض التمويل السريع المتحصل عليه لمواجهة جائحة فيروس كورونا"، مضيفاً أنه "من المهم جداً القيام بإجراء تقني عبر الاقتراض من البنك المركزي التونسي من أجل احترام تعهدات البلاد الخارجية التي لم تتخلف يوماً واحداً عن سداد قروضها".