قبل عامين، رحل الشاعر والروائي العراقي حميد العقابي في منفاه الطويل في الدانمارك إثر سكتة قلبية مفاجئة، وهو في ذروة عطائه الأدبي وحيويته في تجريب أجناس الكتابة المتنِّوعة. لذا، لم يكن مستغرباً أن يتواصل صدور أعماله المؤجلة بعد رحيله، فقد طرحت الهيئة المصرية للكتاب، مجموعته القصصية "يؤثث الفراغ ويضحك" بعد رحيله مباشرة، فيما صدر له في بغداد، كتابان، هما أوَّل كتابين يصدران له في بغداد بعد رحيله. فقد جُمعتْ قصائده غير المنشورة، إضافة إلى شهادات وحوارات وشذرات شتَّى في كتاب حمل عنوان "وشم النورس" وصدر عن دار قناديل، بينما كانت دار ميزوبوتاميا، قد أصدرت ديوانه الأخير المكتمل "القطار"، فيما تَركَ مجموعة قصائد قصيرة مكوَّنة من ثلاثة أسطر كتبها تحت تسمية "ما يشبه الهايكو".
والعقابي من الشعراء الذين وُلدت تجربتهم ما بين سنوات حرب الخليج الأولى وعقود المنفى، فحين غادر العراق خلال حرب الثماني سنوات مع إيران، كانت تتشكل داخل العراق ملامح جيل شعري عُرف بـ"جيل الحرب"، فيما ترسخت تجربته الشعرية إلى جانب أقران له في المنفى، اتسمت تجاربهم بمكابدات الابتعاد عن الوطن من دون أن تنأى تماماً عن تأثيرات الحرب. وبينما كانت دواوينه الثلاثة الأولى التي صدرت بعد خروجه من العراق: "أقول احترس أيها الليلك١٩٨٦" و"واقف بين يدي1987" و"بِمَ التعلُّل1988"، قد حملت نبرة غنائية تتسم بالحنين المبكر، وتتبنَّى شكلاً شعرياً سائداً ومحافظاً نسبياً، إلاّ أنّه ومنذ ديوانه "تضاريس الداخل/ محاولة لتشكيل كولاج روحي-1992" و"حديقة جورج 1994"، بدا أن تجربته تتجه أكثر نحو النزوع إلى التجريبية، لكن بأناةٍ وترسُّل من دون اندفاع مضطرب، حتى نضجت تجربته في المنفى من خلال التنوع في الأشكال والأجناس الأدبية، بل حتى التداخل المقصود بينها، وصولاً إلى كتابه المميز "أصغي إلى رمادي" الذي أفصح عن مقدرة مركَّبة في السرد والإيجاز وجرأة الاعتراف، إذ تجتمع كتابة السيرة مع ملامح روائية والشعر في مجاورة للأجناس والأشكال الأدبية، ليتجه بعد هذا الكتاب إلى نشر كتب القصص والرواية، فأصدر خمس روايات متميزة ومجموعتين قصصيتين، من دون أن ينقطع عن كتابة الشعر.
وإذا كان "وشم النورس" يقدم صورة تقريبية لتلك الانشغالات المتنوعة للكاتب بما يتيح وصفه بأنه "كناية عن كشكول جامع لكتابات متناثرة" ويمثل تحية جماعية للشاعر في غيابه، فإنّ ديوان "القطار"، يمتاز بالبناء المحكم لناحية الإمساك بموضوع محدَّد وتقليب تفاصيله على شتَّى الجوانب. ففي ديوان "القطار"، يستفيد العقابي بوضوح من قدرته السردية والطاقة التحليلية التي ينطوي عليها التفرس في المشهد والتقاط الصور الشعرية الخاطفة، من عالم سرديّ مكتظُّ بالبشر والذكريات والهويات. والقصيدة بمجملها يمكن وصفها بأنها "قصة شعرية اعترافية"، إذ يقدِّم للقصيدة بسطور لافتة، تلخِّص الاتجاه التي ستتخذه القصيدة: فالقطار "شيخ وقور" يلهثُ بصوتٍ عالٍ، فيوقظ النيام وينبّه الساهين، وهو يسير بحيويته المتجددة عل الرغم من أن مساراته متكررة ومعروفة سلفاً "متسامحٌ... حتى مع شاتميكَ، المتخلفينَ عن مواعيدهم"، فيتحوَّل المقعد في رحلة القطار إلى كرسي اعتراف طويل: "قديسٌ أنتَ / ولذا سأبوحُ لكَ بأسراري".
كناية القطار
وبما أن القطار كناية عن رحلة، وليس مجرد آلة صناعية، فإن العقابي يعود إلى موضوع وصف الرحلة في الشعر العربي القديم، لكن بتفاصيل غاية في المعاصرة، فلا يستثني فكرة القافلة في تلك الرحلة في الصحراء التي وصفها الشعراء العرب القدامى: "نسقٌ من جِمالٍ (قطارٌ)، يقولُ "لسانُ العرب". ومن نسق الجمال في القافلة، تتصل الرحلة الإنسانية لتصل إلى قطار العصر الحديث الذي أصبح موضوعاً أثيراً في الشعر الحديث كما الحال في الرواية والسينما، ولعل قصيدة نازك الملائكة "مرَّ القطار" في ديوانها "شظايا ورماد"، النموذج الأبرز لمقاربة هذا الموضوع نقدياً، إذ خصَّتها بإشارة نقدية في مقدمتها للديوان، مشددةً على أن القصيدة هي قصيدة "جو شعري" وأن غرضها الأساسي في القصيدة التعبير "عن الشعور الغامض الذي يحسُّه المسافر ليلاً بالدرجة الثالثة من القطار"، لكن قطار العقابي يختلف تماماً عن قطار نازك الملائكة، فبينما ركزت نازك على ما وصفته "سأم وترقب المسافرين والمنتظرين على حد سواء"، على اعتبار أنّ أكثر مسافريه نيام في رحلات طويلة، أو في كسل وارتخاء، فإنَّ قطار العقابي مكتظ بالبشر الصاخبين والعيون المفتوحة محدقةً في الكتب والوجوه وحركات الجسد والمناظر والتفاصيل الدقيقة وهو أقرب إلى مكان كوزموبولتي حيوي، يحتمل الكثير من الإحالات والتداعيات بين الراهن والماضي، المرئي الآن والمستذكر مما مضى، فيتجلى استدعاء الحنين ونبرة الشجن العراقي المعهودة من خلال استعادة الأغنية الشعبية "محطات" للفنان كوكب حمزة، إذ "صار العمر محطات"، إضافةً إلى قطار مظفر النواب في "الريل وحمد" الذي يتعمَّد كتابته باللهجة العامية لأهالي جنوب العراق "غطار الليل"، مستبدلاً أصوات الطحن بهاون القهوة بأصوات مدافع الهاون التي يسمعها الجنود الذاهبون إلى الحرب في معارك شرق البصرة، في مفارقة جناسية بين الذاكرة الجمالية الحميمة للحنين إلى عالم قديم ومهجور، وعالم الذاكرة المأسوية لقبح الحروب، مثلما يجمع بين "الإيفا" وهي الشاحنة العسكرية الروسية التي تحمل الجنود إلى الحرب، ورحم "حواء" الذي حمل القاتل والمقتول منذ أول معركة وجريمة بشرية على الأرض.
ومن قطار الجنود الذاهبين إلى الحرب، إلى ما يُعرف في التاريخ السياسي العراقي بـ"قطار الموت" الذي نقل المعتقلين السياسيين بعد انقلاب 1963 من بغداد إلى سجن "نقرة السلمان" الصحراوية، حيث لفظ عددٌ كبير منهم أنفاسه، فقضى في عربات الشحن من العطش والحر في شهر آب. كل هذه الاستدعاءات والاستذكارات يستحضرها في القطار الأوروبي المتجه إلى "شمال الأرض"، مدوِّناً ما مرَّ من وقائع قاسية على صعيد الذكريات الشخصية وتاريخ بلاد ابتعدت عنها رحلة القطار في تأمل مفتوح على الخارج ومنكفئ على الذات في الوقت عينه، في رحلة ذهاب وإياب، يتقاطع فيها العالم الخارجي مع عالم الذات:
"نافذةُ القطار / مرآةٌ / للعقلِ الباطن". فمسافات القطار "لا تنتهي" ومحطّاته "محضُ افتراضٍ" وجميع المسافرين على متنه يغادرون "أو يرحلون ولا يتركونَ سوى ما سيتركه الماءُ في الماءِ"، لهذا يتعلل بتعرية المشهد الذي أمامه بالخيال، سواء كان تعرية لجسد امرأة، أو استكشافاً لملامح مسافر ما، أو قراءة في الكتب أو حتى وجوه المنفيين من شتى الأعراق، أو تأويلاً لحركة أتى بها غريب مريب، إذ: "الغريبُ / يظنُّ بأنّ القطارَ يَضلّ الطريق"، و"حيث القطاراتُ مأوى المُشرّدِ وابْنِ السبيلِ / وحين تنامُ المدينةُ / يستيقظُ الحلمُ فيهْ". لكن هذا الحلم، يستيقظ في الواقع، على مزيج من حلم ووهم في محاولة لكسر كابوس المنفى بأن القطار الأوروبي وصل به إلى مسقط رأسه (مدينة الكوت) وهو حلم شخصي لم يتحقق أبداً.
وإذا كان العقابي في رحلته في القطار قد رثى حيوات الآخرين وهو على متن رحلة في قطار أو قطارات عدّة من الصحراء إلى بلدان الثلج الاسكندنافية، فإنه سبق أن رثى نفسه مبكراً في نص كان مرثية ذاتية حقيقية ينقصها التوقيت فحسب! وهي صادمة منذ عنوانها: "ما سيحدث حتماً/ محاولة لوصف ما لا أستطيع وصفه لاحقاً / حينما أرحلُ، سوفَ أتركُ الستائرَ مسدلةً، أصصَ الزهر عند النوافذِ عطشى يغطيها الغبارُ/ وسأهدي جارتي العجوزَ سريري ومنضدتي ومقلاة البيض الصدئة، ومن النافذة سأنفضُ عن شرشفي ما قد عَلِقَ فيه من سخام الظلام وصرخات الأرواح التي أزهقتها ثم أرميه في مزبلة رطبة، سأقول وداعاً للذكريات التي أوهمتني الجدران بحفظها، وللوجه الذي تخفى في غبار المرايا...". كما يقدم صورة فجائعية لموت الشاعر وحيداً في منفاه، كما يموت مجهول دهساً في شارع غريب:"ربما سوف يكتشف الجار رائحة غيابي فتقتحم الشرطة شقتي الفارغة، ليروني كما كنت قبل الغياب، نائماً بعينين مفتوحتين وعلى شفتيَّ ابتسامة سخرية مثل أمنية خائبة".