تُثير أعداد الراغبين في الترشح للانتخابات الرئاسية الجزائرية (179 مرشحاً حتى الآن) جدلاً حاداً في البلاد، وسط متابعي الشأن السياسي والمتخصصين الاجتماعيين الذين "عجزوا" عن تحليل هذه الظاهرة غير المسبوقة، بينما تصنع تصريحاتهم الهزلية الحدث على منصات التواصل الاجتماعي بشكل كبير.
وتبثّ القنوات التلفزيونية الخاصة بشكل دوري، مقاطع فيديو لأشخاص "غريبي الأطوار" في أثواب "مرشحين" يتوافدون على مقر وزارة الداخلية الجزائرية لسحب استمارات الترشح، ويُطلقون تصريحات مثيرة للسخرية والفكاهة، تميل أحياناً إلى الجنون، وكأنهم اتفقوا على ذلك مسبقاً. وصنعت فيديوهات عدة الحدث، وتم تداولها بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، أبرزها لمرشح يدعى مولى عمار مصطفى، زعم أنه تمكن من صناعة طائرة لها أجنحة من طين، وأن أولى رحلة ستقلع قريباً، وهو ما وصفه نشطاء جزائريون "استخفافاً بعقولهم ومحاولة لاستغبائهم".
ومن التصريحات التي تداولت على نطاق واسع أيضاً، كلام لأحد للمرشح السعيد عمامرة، يقول إنه رئيس مجلس الأمن الدولي (قائد القوات العالمية)، لكن الغريب في الأمر أنه فشل في معرفة مساحة الجزائر الجغرافية. بينما ادعى أحد الراغبين في الترشح لمنصب رئيس الجزائر أن الوحي ينزل عليه في كل مرّة، ويترجم ذلك في مقترحات يقدّمها إلى رئاسة الجمهورية، كونه على تواصل دائم مع الرئيس، وتقوم الرئاسة بتطبيقها على أرض الواقع.
الطرافة لم تقتصر على العنصر الرجالي، إنما طالت حتى النساء، ووعدت إحدى المرشحات، صليحة مرميوي، في حال فوزها بالرئاسة، بتخصيص ألف متر مربع من الأراضي لكل مواطن جزائري، وإطلاق كل السجناء الذين قضوا فترة سنة من الحكم، وإرسالهم إلى قضاء بقية المدة في بلدان أخرى كعمال، من خلال إبرام اتفاقيات دولية، كما تفعل جمهورية الصين الشعبية.
كما وعدت بتوفير خدمة التزود بالماء الصالحة للشرب والغاز بالمجّان، من دون دفع فواتير إلا مرة واحدة في السنة، وهي رسوم رمزية من أجل ضمان أشغال الصيانة فقط، كما قالت مرميوي.
بدورها، فجّرت المرشحة عزيرة نصيرة موجة سخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، بالقول إنها تمارس السياسة بطريقة غير مباشرة، لكنها ترغب في تحسين أوضاع الشباب، الذين يغادرون البلاد بطريقة غير شرعية عن طريق البحر الأبيض المتوسط، ما جعل البعض يُؤكد أن حديث عزيرة عن ممارسة السياسة بطريقة غير مباشرة دليل على أنها مدفُوعة من قبل جهات تسعى إلى تمييع المشهد السياسي، ومحاولة إقناع المواطنين بتزكية مرشح النظام، الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة (82 عاماً)، خصوصاً بعدما أعلنت أحزاب التحالف الرئاسي ترشيحه، السبت، إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
منصب سيادي
تتيح المادة 87 من الدستور الجزائري لكل مواطن جزائري الحق في الترشح إلى منصب رئاسة الجمهورية، إذا توفرت فيه الشروط المنشورة على موقع وزارة الداخلية ويمكن لأي كان من الجزائريين الاطلاع عليها.
وتقول الإعلامية الجزائرية فتيحة بوروينة إن "هذه الشروط تعتبر في الحقيقة في متناول كل جزائري، خصوصاً أن شرط المستوى التعليمي والأكاديمي غير محدد، ما يسمح في كل مرة ببروز أسماء من العامة تتحول إلى مادة للاستهزاء والتنكيت".
وتضيف بوروينة "قطاع واسع من الجزائريين يُعيب على السلطة الجزائرية، ممثلة في وزارة الداخلية، عدم تشديدها شروط الترشح إلى رئاسة البلاد باعتباره منصباً سيادياً وقيادياً حساساً، يحمل رمزية ترتبط بالتمرس والحكمة والتبصر والخبرة، فضلاً عن ارتباط المنصب بتسيير شؤون العامة".
واقع سياسي مصطنع
في السياق، يؤكد الباحث الاجتماعي يوسف حنطابلي أن "80 في المئة من الحياة السياسية في الجزائر مصطنعة ولا تعبّر عن ديناميكية حقيقة"، موضحاً أن "التزاحم على الترشح لرئاسيات 2019 ليس ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى تحليل، بقدر ما هي تتلخص في ردود أفعال انطباعية لأنها تعبر عن واقع مصطنع يُراد من ورائه ترسيخ صورة السيء أفضل من الأسوأ"، بمعنى أنها "عملية نفسية تجعل المواطن يعتقد أن المحافظة على الوضع القائم أفضل من المغامرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انسحاب النخبة
وبينما يُشكك حنطابلي في "وجود أطراف من السلطة ترغب في تعويم الرئاسيات" وأن "تصريحات الراغبين في الترشح وهيأتهم تُثبت أنهم لم يذهبوا لسحب استمارات الترشح بمحض إرادتهم، إنما بإيعاز"، تؤكد بوروينة أنه "يمكن فهم العدد الهائل للراغبين في الترشح لرئاسيات أبريل (نيسان) 2019 الذي تعدى الـ 100 مرشح بحالة الانسحاب شبه التامة للنخبة السياسية والثقافية المتمرسة والواعية في الشأن السياسي العام". وتضيف "عدا أربعة أو خمسة أسماء أعلنت ترشحها، يَعرف الشعب الجزائري مسارها السياسي والنضالي، فإن أسماء سياسية وتاريخية ثقيلة تُحجم عن الترشح بدعوى أن اللعبة الانتخابية مُغلقة ومجرد التفكير في دخولها يُعد مغامرة لا جدوى منها، بل رهان خاسر سلفاً".
أسوأ من هذا، يعتقد السياسيون أن المؤسسة العسكرية ما تزال صاحبة القول الفصل في أيّ استحقاق رئاسي في الجزائر، وأنها كانت وما تزال صانعة الرؤساء"، تضيف الإعلامية الجزائرية بوروينة قائلة "هو وضع مُعقد للغاية في الحقيقة، لم تفلح معه خطابات السلطة التي تظل في كل تجربة تلوّح بالضمانات والتطمينات على أن الانتخابات ستكون شفافة ونزيهة. لكن من يصدق هذا الكلام؟".
وبحسب الإعلامية الجزائرية "يستفيد من هذا الوضع الجميع، خصوصاً المتعطشين للأضواء والشهرة مقابل أوصاف يُطلقها المقاطعون للانتخابات من المعارضة تطال حتى الأسماء السياسية المهمة التي أعلنت ترشحها بالقول إنها مجرد أرانب تستأنس بها السلطة لتنشيط العُرس الانتخابي وإضفاء الشرعية والمصداقية على العملية الانتخابية والممارسة الديمقراطية في البلاد".
ويرى حنطابلي أن "المجتمع الجزائري منسحب تماماً من الحياة السياسية ويفضل الاحتجاج الصامت، على الرغم من تفاعله على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال التعليق والسخرية من المرشحين، التي عمدت القنوات التلفزيونية الخاصة إلى إبرازها".
تقييد شروط الترشح
في المقابل، ساند رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى، في ندوة صحافية، بصفته أميناً عاماً لحزب "التجمع الوطني الديموقراطي"، مقترح وضع "شروط وضوابط" جديدة للراغبين في الترشح إلى الانتخابات الرئاسية. وقال أويحيى "صور الراغبين في الترشح التي تتناقلها وسائل الإعلام مؤلمة"، مؤكداً أن عددهم الكبير ومؤهلاتهم الشخصية "تتطلب تصحيحاً قانونياً في المستقبل بهدف وضع شروط وضوابط للترشح".
وبينما توقع الأمين العام للحزب أن يبقى في سباق الترشح إلى الاستحقاق المقبل، بعد دراسة المجلس الدستوري للملفات، "أقلّ من 10 مرشحين"، اعتبر أن "ظاهرة ترشح كل من هبّ ودبّ بمثابة وباء جديد، ينبغي اتخاذ إجراءات بشأنه وبشأن سحب استمارات اكتتاب التوقيعات الفردية التي تكلف الخزينة العمومية أموالاً كثيرة".
وتُواجه القنوات الخاصة انتقادات لاذعة لما يراه البعض انخراطها في لعبة "تسفيه" المشهد الجزائري، وإظهار من سحبوا استمارات الترشح في حالة من "البلاهة" بغرض تحقيق أكبر نسبة مشاهدة عوض التقيد بالرسالة الإعلامية الهادفة.
في السياق، انتقد أويحيى وسائل الإعلام التي "ساهمت في انتشار هذه الظاهرة"، مشيراً إلى أن "الغالبية الساحقة من الراغبين في الترشح، سحبت الاستمارات من منطلق النرجسية والرغبة في الظهور".
أمام هذا الوضع "الهزلي" والمشهد "الكاريكاتوري"، يحذر كثيرون من تنامي ظاهرة العزوف الانتخابي وتسجيل نسبة مشاركة متدنية في سادس انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ الجزائر، في شكل يُجرد الاقتراع الرئاسي من "المصداقية".