Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الرغي"... سلطة لسان القلة على آذان الكثرة

يحلو للبعض التمسك بتلابيب خرافة قوامها أن "فرط الكلام" سمة أو عادة ملتصقة بالنساء... ونسبة الحقيقة في الخرافة لا تتعدى واحداً في المئة

تجدر الإشارة إلى أن المفرطين في الكلام ليسوا بالضرورة مرضى نفسيين أو عصبيين، كما أن المرض النفسي أو العصبي لا يدفع صاحبه دائماً صوب الكلام المفرط (بكسلز)

ملخص

"الرغايون" معروفون بهذه الآفة سيئة السمعة ومعظمهم يعرف ذلك. وقد يعمد بعضهم إلى الإمعان في الحديث الأكثر إفراطاً وذلك في محاولة مستميتة منه لاحتجاز الضحية وقتاً أطول، إذ يعرف الشخص المفرط في الكلام أن "الضحية" ستحاول الهرب من مكمن الرغي فيباغتها ويكبلها بقدر أكبر من الكلام لشل حركتها، والنصيحة هنا هي أن تسارع الضحية إلى طمأنة الشخص الرغاي بأنها مستعدة لسماعه ولكن حين يكون لديها قدر أوفر من الوقت.

يتحدث لساعات من دون توقف. يتنقل بين السياسة والاقتصاد والفن والدين، ويعرج على حياته وحياة الآخرين الشخصية، قبل أن يعود إلى نقطة الانطلاق حيث حديث السياسة والاقتصاد والفن والدين. فريق من الأصدقاء يعده جهبذاً وعلامة، والدليل أنه لا توقف عن الكلام. والفريق الآخر يراه ثرثاراً مصدراً للصداع ومنبعاً للديماغوجية الفارغة والمادة الخام للأنانية في الكلام وسلب الآخرين حق الكلام.

حق الكلام مكفول للجميع

حق الكلام مكفول للجميع أو هكذا يفترض. أما حق الكلام المفرط فيحير كثيرين. البعض يقبل ويتقبل أن يهيمن أحدهم على ساحة الكلام، البعض الآخر يشعر بالاختناق أو الرفض أو يبرح المكان. ويظل هناك فريق ثالث يبحث عن سبب "الرغي"، وهل هو مرض أم مجرد صفة؟
جرى العرف أن تمضي المحادثات بين الأفراد بإيقاع متوقع. يتحدث أحدهم، ثم يصمت ثانية ليدع الآخرين يتحدثون، وهكذا وكأن الجميع منتظم في مباراة يمررون فيها كرة الكلام لبعضهم بعضاً. أما إذا احتفظ أحدهم بالكرة لنفسه غالب الوقت، أو لوقت أطول بكثير مما هو متوقع، فإن النتيجة على الباقين تكون عادة سيئة وسلبية. مشاعر كثيرة تعتري الآخرين بين غضب وضيق وتململ، بل قد يشعر البعض بعلامات التعب والإنهاك البدني لفرط التركيز.


كاسترو وخطاب الـ4 ساعات

في 26 سبتمبر (أيلول) عام 1960 دخل الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو التاريخ حين ألقى خطاباً أمام الأمم المتحدة مدته 269 دقيقة، ليصبح الخطاب الأطول في تاريخ المنظمة الأممية.
الطريف أن كاسترو استهل خطابه في هذا اليوم بقوله، "رغم أننا اكتسبنا سمعة التحدث بإسهاب، فإنه لا داعي الجمعية العامة (للأمم المتحدة) للقلق. سنبذل قصارى جهدنا لكي نكون مختصرين"!

استغل كاسترو الساعات الأربع والدقائق الـ16 في انتقاد "الإمبريالية الأميركية وتدخلها في شؤون أميركا اللاتينية، وكذلك الفجوات بين الأغنياء والفقراء"، ولم يتمكن أحد من إيقافه. ولولا شرح وزير مالية الهند عام 1957 كريشنا منون، موقف الهند في مسألة كشمير أمام الأمم المتحدة لمدة سبع ساعات كاملة، لكان كاسترو صاحب أطول خطبة في تاريخ السياسة الحديثة.

الانتحار والخطاب المزمن

السياسة المعاصرة حافلة بالكلام الكثير والخطب التي تبدو لسامعها وكأنها لا نهاية لها، لكن لم يتمكن سياسي بعد من الاقتراب من الإنجاز الكلامي للبرلماني والسياسي الاسكتلندي ستيوارت ستيفنسون الذي بدأ يتحدث عن الانتحار أمام البرلمان الاسكتلندي في الساعة الخامسة و21 دقيقة من مساء الأربعاء السابع من سبتمبر (أيلول) عام 2004، وأنهى كلمته عند الساعة الخامسة و12 دقيقة مساء الخميس الثامن من سبتمبر من العام نفسه.
البعض يتفكه في اسكتلندا مرجحاً أن تكون "كلمة" ستيفنسون المحذرة من تجاهل العوامل التي تؤدي إلى الانتحار، قد أدت إلى انتحار كثيرين، أو شجعت من كان متخوفاً من الخطوة على أن ينهي حياته.
على أية حال، استمر السياسي الاسكتلندي المحنك الذي اكتسب عن جدارة لقب "غزير الكلام" في مسيرته السياسية والكلامي، وفي عام 2015، أصبح أول برلماني اسكتلندي يحمل في جعبته لقب كسر حاجز الـ600 خطاب، ناهيك بطول مدتها.

الرغي للجميع

يحلو للبعض التمسك بتلابيب خرافة قوامها أن "الرغي" أو "فرط الكلام" سمة أو عادة ملتصقة بالنساء. نسبة الحقيقة في الخرافة لا تتعدى واحد في المئة. وعوامل زيادة "الرغي" بين النساء، أو قلته بين الرجال أو العكس يجب أن تدمج فيها البيئة والظرف وغيرها، وهو ما لا يؤخذ عادة في حسبان محبي الصور النمطية والقوالب الثابتة.
طبيبة الأمراض النفسية وأستاذة الطب النفسي الأميركية كاثرين أبونت تشير في ورقة عنوانها "هل تتحدث النساء أكثر من الرجال حقاً؟" (2019) إلى أن ما ورد في كتاب "دماغ الأنثى" المنشور عام 2006 حول أن النساء يتحدثن بمعدل 20 ألف كلمة يومياً، بينما الرجال يكتفون بنحو 7 آلاف كلمة فحسب، عزز الصورة النمطية لـ"المرأة الرغاية"، وهو تعزيز اعتمد على أرقام غير علمية، بل مشاهدات فردية لا ترقى إلى مكانة البحث العلمي.
وتعتمد أبونت على عدد من الدراسات العلمية الموثقة في تأكيدها على أن عوامل عدة تجعل أحدهم أو إحداهن يتحدث أكثر من الآخرين أو الأخريات، ليس من بينها النوع. وقالت إن مقدار الكلام يتعلق على الأرجح بمكانة الشخص، سواء كان رجلاً أو امرأة. وأضافت أنه "في البيئات الرسمية والعامة، فإن الشخص الذي يتحدث أكثر هو الشخص الذي يتمتع بالمكانة الأعلى".
 


المكانة والكلام

صاحب المكانة الأعلى لا يجرؤ أحد عادة على مطالبته بأن يسكت، بل يتطلب "الذكاء الاجتماعي"، أو الرغبة في الترقي أو التقرب من الرئيس أو الوزير أو المسؤول أو الفنان أو المدير إلخ... إظهار الاهتمام الشديد بالكلام، حتى لو كان مفرطاً، بل والإشادة بمحتواه، حتى لو كان تافهاً أو غير ذي جدوى.
بعيداً من جدوى الكلام، وأي من الجنسين أكثر كلاماً، تبقى نظرية نفسية علمية ترجح أن يكون الإفراط في الكلام وثيق الصلة بمرض أو خلل عقلي. الاضطراب ثنائي القطب يرتبط بنبات هوس تضع الشخص تحت ضغط نفسي أكثر من المعتاد، فيتحدث بسرعة وبصورة مفرطة، وقد يكون من الصعب مقاطعته. كما أن التوحد واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة والفصام والنرجسية والوسواس القهري والقلق الاجتماعي وغيرها قد تدفع الأشخاص للكلام المفرط.

الكلام والمرض النفسي

تجدر الإشارة إلى أن المفرطين في الكلام ليسوا بالضرورة مرضى نفسيين أو عصبيين، كما أن المرض النفسي أو العصبي لا يدفع صاحبه دائماً صوب الكلام المفرط. في كثير من الأحيان، قد يكون "الرغي" صفة أو سمة الشخص، أو أنه لم يجد من يقيد لسانه ويحجم خطابه.

أعراض الكلام المفرط التي تستوجب نوعاً من التدخل، سواء من قبل الشخص "الرغاي" أو بتشجيع من المحيطين به هي، التحدث بينما آخرون يتحدثون، احتكار النقاش، التحدث في أماكن ومواقف غير مناسبة، التحدث من دون تفكير أو حساب للمحتوى، الخوف من وجود فجوات في الحديث، التحدث مع إغلاق خاصية السمع، الإصرار على إعادة توجيه الحديث صوب الموضوع الذي يثير اهتمامه وحده، من دون اهتمام بالآخرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


أنواع الرغي

غالب الآخرين يضعون كل "الرغايين" في سلة واحدة، لكن الحقيقة أن السلال مختلفة. بحسب دراسة عنوانها "كثرة الكلام: معناها وكيفية التعامل معها" لمستشارة الأسرة والعلاقات الزوجية ميشيل بروتن -بروكس، "الرغي" أنواع. هناك الكلام المفرط تحت ضغط، وهو الكلام السريع المتعجل الذي يصعب على الآخرين فهمه. يتحدث الشخص بسرعة بالغة تعكس قلقاً شديداً، وغالباً يكون مرتبطاً بخلل نفسي مثل نوبات الهوس والاضطراب ثنائي القطب أو بسبب تعاطي الكحول أو المخدرات. وهناك "الرغي" القهري، ويشعر الشخص أنه غير قادر على السيطرة على الكلام، وينتج أيضاً بسبب اختلالات نفسية. أما الكلام المفرط الظرفي، فهو الذي ينحرف بعيداً من الموضوع الرئيس، وينخرط صاحبه في قضايا فرعية أخرى. والكلام المفرط أوHyperverbal  فيتحدث الشخص بسرعة مفرطة، ويعكس شعوراً بالقلق، ويعتري المحتوى كثير من الثرثرة وتكرار الكلام وأحياناً يعاني انعدام الترابط. ويشبه هذا النوع "الكلام المفرط غير المترابط"، وهو شائع لدى مرضى الفصام وغيره من أشكال الذهان.

التباهي وأوجاع القلب

بعيداً من المرض النفسي، قد يدفع الكلام المفرط صاحبه إلى التباهي الزائد. أحد الأسباب التي تجعل الناس يتحدثون أكثر مما ينبغي هو السعي وراء جذب الاهتمام وكسب الشعبية أو الشهرة، وهو ما قد يؤدي إلى حشو الكلام بالمبالغة في الإنجازات والأعمال والانتماءات والمكانة وغيرها. وحين يفقد الشخص القدرة على وضع خط فاصل بين الكلام الموزون المعقول بالقدر المنطقي، ويعرج على اللامنطق والإفراط، ويجد نفسه مضطراً للحديث عن خصوصيات أو موضوعات من الأفضل بقاؤها سراً أو حكراً على المقربين.
ويحذر أطباء من أن كثرة الكلام بصورة زائدة على الحد قد يمرض صاحبه، إذ يمثل حملاً زائداً على القلب والمخ والأعصاب، لذا ينصحون "بالتكلم فقط حين يستدعي الأمر، لا حين يشعر الشخص بالحاجة إلى تحريك الفم".

أدوات تقنين الرغي

ولأن وضع حد للكلام المفرط غالباً يكون مهمة ملقاة على عاتق ملايين، وربما مليارات، الضحايا لا "الرغايين"، فإن اختصاصيين نفسيين يتفننون في ابتكار طرق تساعد الضحايا على تقليص هامش المعاناة. القائمة التي وضعتها مجلة "هابيفول" البريطانية المعنية بالصحة النفسية تشمل نصائح لضحايا الرغي بوضع حد زمني أقصى للنقاش ربما يجبر "الرغاي" على الالتزام به، لا سيما حين تعلمه الضحية بالتوقيت، لارتباط مسبق أو لعمل مؤجل أو للإصابة بالصداع.
ولأن "الرغايين" معروفون بهذه الآفة سيئة السمعة، ومعظمهم يعرف ذلك، فقد يعمد بعضهم إلى الإمعان في الحديث الأكثر إفراطاً، وذلك في محاولة مستميتة منه لاحتجاز الضحية وقت أطول. بمعنى آخر، يعرف الشخص المفرط في الكلام أن "الضحية" ستحاول الهرب من مكمن الرغي، فيباغتها ويكبلها بقدر أكبر من الكلام لشل حركتها. والنصيحة هنا هي أن تسارع الضحية بطمأنة الشخص "الرغاي" بأنها مستعدة لسماعه، ولكن حين يكون لديها قدر أوفر من الوقت، وربما اقتراح أن تتم المناقشة أو الحديث عبر رسائل صوتية أو نصية مكتوبة.

ضحايا الرغي

أما الجمل المقترحة للهرب، فهي "لقد استمتعت حقاً بحديثنا، ولكني في حاجة إلى الانصراف الآن"، "أعتذر، ولكن لا وقت لدي لتكملة الحديث الممتع الآن"، "ربما علينا تأجيل هذا النقاش الثري للمرة المقبلة حين يكون فلان أو فلانة موجوداً لأنه أكثر خبرة مني بذلك" لا سيما أن وجود ضحيتين يخفف المعاناة لأنه يقسمها على اثنين.

على الجانب المشرق، فإن مهناً عدة تعد "الرغي" ميزة مضافة، إن لم تكن متطلباً رئيساً. من هذه المهن والوظائف، اختصاصيو العلاقات العامة، سماسرة العقارات والسيارات، المذيعون، مصففو الشعر، الموارد البشرية، خدمة العملاء، مندوبو المبيعات مثل الأدوية والأجهزة الطبية، معلقو الرياضة، والساسة.
من جهة أخرى اكتسب ثقافات بعينها سمعة باعتبارها أكثر رغياً من غيرها، لا سيما الأميركيين من أصول أفريقية، والكاريبيين، والعرب. ويأتي مع الميل إلى كثرة الكلام حفنة من الإضافات أبرزها ارتفاع الصوت والميل إلى الوصف العميق والتفاصيل الكثيرة. لكن تبقى هذه سمعة غير موثقة علمياً.

فرضية الثرثرة

أما "فرضية الثرثرة"، فقلبت موازين الرغي والرغايين، وبدلاً من اعتبار الرغي آفة والرغايين أشخاص غير مرغوب فيهم، خلصت مجموعة من الباحثين عام 2020 إلى أن الأكثر كلاماً غالباً يظهرون مهارات القيادة أكثر من غيرهم. الدراسة نشرت تحت عنوان "مدة الكلام تتنبأ بمهارات القيادة في المجموعات الصغيرة" (2020) في دورية "القيادة" الربع سنوية The Leadership Quarterly.

 الأدهى من ذلك أن الدراسة لمحت إلى أن الكم وليس بالضرورة الكيف يحدد من الرئيس ومن المرؤوسين، حتى وإن اتضح بعد حين أن كثير المعرفة قليل الكلام، وكثير الكلام قليل المعرفة.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات