ملخص
ما يقلق كريستو بصورة خاصة الوفيات غير المعلنة التي تحصل في تلك المناطق، لعدم القدرة على الوصول إلى المرافق الصحية، فلا يعرف أحد بها، كما حصل في العراق وجنوب السودان.
ضغوط كثيرة وتحديات لا تعد ولا تحصى واجهها القطاع الصحي في الأعوام الأخيرة، خصوصاً عام 2024 في ظل النزاعات المسلحة المستمرة في المنطقة. وعلى رغم جهوزية العاملين فيه وفي المجال الإنساني، تزيد الصعوبات في مواجهة كوارث إنسانية صعبة الوصف، في ظل الخروق المستمرة للقوانين الدولية في الحروب. وتسجل مشاهد غير مسبوقة مع شعور بالعجز يعانيه العاملون في المجال الإنساني.
في حديث خاص مع "اندبندنت عربية"، عبر الرئيس الدولي لمنظمة "أطباء بلا حدود" الدكتور كريستوس كريستو عن قلقه حيال ما تؤول إليه الأمور في غزة والسودان وغيرهما من الدول التي تشهد نزاعات مسلحة، محذراً من أن الحرب لا تكشف إلا عن مشهد كارثي أولي، فيما الخوف من مخلفاتها وتداعياتها أهم بكثير، "في وقت يخسر القطاع الصحي مزيداً من طواقمه بغياب أي احترام للقوانين الدولية بعدما بات الخرق قاعدة والحس الإنساني استثناءً".
أوضاع قد تزيد سوءاً
ومع استمرار النزاعات المسلحة لا يبدو أن العام الجديد قد يدعو إلى التفاؤل وأن أياماً أفضل قد تنتظرنا نظراً إلى المعطيات الحالية، على المستويين الإنساني والصحي، لذلك، ينقل كريستو مشهداً قاتماً مرتقباً في المرحلة المقبلة، مع نظرة متشائمة حيال الوضع في الدول التي تستمر فيها الحروب وتشهد كوارث إنسانية غير مسبوقة، "بالفعل، بدأ عام 2024 الأكثر عدوانية من عقود بالنسبة إلى القطاع الصحي في ظل النزاعات المسلحة في السودان وغزة والوضع المأسوي فيهما، إضافة إلى ما حصل في لبنان خلال الحرب وما يحصل في الشرق الأوسط وأوكرانيا والوضع المتأزم في هايتي، ومشاهد أخرى عديدة في العالم"، لذلك اعتبره كريستو العام الأسوأ على المستوى العالمي، وتحديداً في القطاع الصحي والمجال الإنساني. وبصورة خاصة حول ما يحصل في غزة، مشيراً إلى إلا أحد بأمان فيه حيث يواجه خطر الموت، وكأن الكل يكافح من أجل العيش، "إذ يتعرض فيه المدنيون للقتل بعنف غير مسبوق وعشوائي ومن دون رحمة. كما أنهم محرومون من أبسط الحقوق الأساسية للعيش. ففي غزة فقدت كل عائلة فرداً في الأقل من أفرادها، كما قتل عدد هائل من العاملين في المجالين الإنساني والطبي، والصحافيين أيضاً. لذلك هو وضع يصعب تصور ما يتخلله من دمار ودموية. أود أن أعبر عن دهشتي لشجاعة العاملين في المجال الصحي. هم يتميزون بالصمود والصلابة على رغم كل ما يتعرضون له. وبعد 15 شهراً يستمرون بأداء واجبهم الإنساني ورسالتهم، ولم يتخلوا عنها يوماً في ظروف بغاية الصعوبة تتطلب جهوداً جبارة على المستويين الجسدي والنفسي. وتلفتني شجاعة من فقدوا أفراداً من عائلاتهم منهم، وقد عادوا مباشرة إلى المستشفيات لتقديم الرعاية الصحية لمرضاهم، وقد يكون هذا ما يزودهم بالاندفاع ليتابعوا في هذا المسار الصعب".
وبالأرقام، أشار كريستو في حديثه إلى خسائر كبرى تكبدها القطاع الصحي في غزة ولبنان، "ففي لبنان خسر القطاع أكثر من 226 فرداً من طواقمه في الحرب وأكثر من 200 تعرضوا لإصابات، في وقت يرتفع العدد بمعدل خمسة أضعاف في غزة ليصل إلى أكثر من 1000 مع أكثر من 350 عاملاً في المجال الإنساني، استناداً إلى أرقام وزارة الصحة".
وضع مأسوي في السودان
في السودان، منذ قرابة عامين، بدأت الحرب، وما زالت مستمرة بكل ما فيها من مآس ووضع كارثي يتزايد فيه القتل مع حركة نزوح رهيبة سواء في الداخل، أو باتجاه الدول المجاورة بحثاً عن الأمان. وتظهر الأرقام أن قرابة 20 مليون شخص يعانون حرماناً من الحاجات الأساسية وهم يجاهدون للعيش. ووصف كريستو المعاناة الحقيقية في مجال الأمن الغذائي في معظم المناطق، وحتى في الخرطوم حيث تزيد الأعمال العدوانية وقد باتت المستشفيات في حال عجز عن تأمين الرعاية الصحية، وهي تعمل بأدنى الإمكانات، "حتى إن منظمة أطباء بلا حدود أرغمت على وقف أعمالها في البلاد لعدم توافر الإمكانات والوسائل التي تسمح باستمرارها، إضافة إلى ارتفاع مستويات العنف في هذه الأماكن وعدم إفساح المجال للمساعدات الإنسانية"، لذلك، أقر كريستو آسفاً بأن المجتمع الدولي فشل في الاستجابة بالشكل المطلوب في هذا الوضع المأسوي، وإن كان يعتقد أن وكالات الأمم المتحدة ومنظمات أخرى يمكن أن تنجح في صورة فضلى، في حال تأمين مزيد من الدعم والوجود على الأرض مع مزيد من الطواقم الدولية للاستجابة للحاجات الإنسانية الكبرى، وبوجود تعاون دولي على نطاق واسع، "لكن حتى اللحظة، ما يبدو واضحاً ما من رغبة لدى أي من الأطراف المتنازعة لإنهاء النزاع. حتى إنه ما من إرادة سياسية لدى الدول الأخرى لتوفير حلول لإنهاء هذا النزاع. وشخصياً لست متفائلاً حول إمكانية انتهاء النزاع قريباً بغياب أي علامات تنبئ بذلك. نحن نعمل دوماً في إطار العمل الإنساني ونقوم بواجبنا بدعم دولي، لكن بغياب الإحاطة الدولية واحترام هذه الأعمال بكل ما لها من شروط من قبل المجتمع الدولي والأطراف المتنازعة، يستحيل القيام بعملنا هذا. وصحيح أن العاملين في "أطباء بلا حدود" يقومون بعملهم حتى في ظل الأخطار ولا يهابونها، لكن، إذا لم تتوافر الأدوات والوسائل اللازمة للمساعدة الإنسانية للقيام بالواجب، ومع عدم وجود إرادة دولية ودعم فلا يمكن أن ننجح مهما بذلنا من جهود، خصوصاً أن الدعم الدولي مفقود. فبغير ذلك، يبقى كل ما نفعله غير كاف لأن المسألة لا ترتبط بالعاملين في المجال الإنساني بل بالإرادة الدولية".
ضغوط على القطاع الصحي
مما لا شك فيه أن القطاع الصحي واجه ضغوطاً كثيرة عام 2024 في ظل الحروب والنزاعات والكوارث الإنسانية الحاصلة. وقد شكل ذلك عبئاً ثقيلاً مع صعوبات في الاستمرار بتقديم الرعاية الصحية وتلبية الحاجات المتزايدة. واعتبر الرئيس الدولي لمنظمة "أطباء بلا حدود" أنه في الأعوام الأخيرة تحول التعرض للقطاع الصحي والعاملين فيه ومرافقه إلى نمط سائد ومعتمد على نطاق واسع، "إذ تعرض العاملون في القطاع الصحي والإنساني لاعتداءات أثناء قيامهم بعملهم، إضافة إلى الاعتداءات على المستشفيات، والقتل العشوائي للعاملين في المجالين الإنساني والصحي. بدا وكأنها أصبحت من أدوات الحرب المعتمدة، كما لوحظ في غزة والسودان حيث اعتمدت سياسة التجويع والتفقير والاعتداءات أيضاً"، وإذ عبر عن أسفه لما يحصل، دعا المجتمع الدولي إلى منع استمرار هذه الآليات لتعتمد وكأنها في إطار وضع طبيعي ونمط سائد، والتدخل بأي شكل من الأشكال للحيلولة دون ذلك، وتابع "بعض الدول أظهر تعاوناً وعبر عن دعمه وتعاطفه، لكن لا يبدو ذلك كافياً، ومن المؤكد أنهم قادرون على تقديم المزيد والضغط لمنع استمرار هذه الأعمال العدوانية التي تطاول المستشفيات والقطاع الصحي، وتوفير الحماية لها، وفرض احترام القوانين الدولية، والمطلوب ليس إعادة النظر في القوانين الدولية الإنسانية وتعديلها، بل احترامها من قبل الجميع، حتى في حال استمرار العاملين في المجال الإنساني ببذل قصارى جهودهم في قيامهم بواجبهم وتقديم المساعدة، لا يمكن تحقيق الأهداف المرجوة بغياب السبل والإرادة السياسية، إضافة إلى أهمية تحمل الجميع مسؤولياتهم في تقديم الحماية والدعم الإنساني. أما الدور الذي تؤديه منظمة ’أطباء بلا حدود‘ في هذا الإطار فيقضي بنشر الوعي حول الخروق التي تحصل، وتقديم تقارير ونقل الواقع كما هو، لتتحمل الدول مسؤولياتها بما أن التدخل رهن بها للضغط وتوفير احترام القوانين الدولية وحماية العاملين في القطاعين الصحي والإنساني، إضافة إلى ضرورة التذكير بأنه يمنع قتل المدنيين بهذه الصورة".
وذكر كريستو بأهمية التدخل حتى لا يصبح هذا الوضع طبيعياً معتاداً، مؤكداً أنه ليس طبيعياً أن يفقد 17 ألف طفل في غزة وحدها حياتهم، وأن تحصل اعتداءات مماثلة على المستشفيات التي تعتبر من الأماكن التي يحرم التعرض لها، "لذلك، لا بد من دعوة المجتمع الدولي للتدخل والضغط حتى لا تستمر الأمور على هذا النحو، بما أن حماية هذه المرافق ليس من مسؤولية العاملين في المجال الإنساني".
أما في سوريا فيبدو الوضع مختلفاً، "إذ إن هناك صعوبة في وصف الواقع فيها لأنه من بداية الحرب عام 2011 لم يكن من الممكن الدخول إليها، وتستمر المفاوضات في هذا الشأن. لكن ما نعرفه تماماً هو وجود الملايين من النازحين في شمال شرقي سوريا وفي شمال غربي البلاد، حيث يعيشون في ظروف صعبة، وقد خسروا منازلهم وحاولوا العودة ولم يجدوها"، وعبر كريستو عن قلقه في شأنهم، مشيراً إلى أن الجهود تتكثف للحصول على أذونات لدخول هذه المناطق وتوفير الدعم لهم. أما في شأن القطاع الصحي في البلاد، فثمة حاجات كبرى للوازم الأساسية، ومن المتوقع أن يطول الوقت قبل أن يكون من الممكن مساعدة القطاع على التعافي بعد أعوام من الحرمان والظروف الصعبة.
تدخل محتم لحماية من يلجأون إلى الهجرة غير الشرعية
وفي شأن الهجرة غير الشرعية في البحر، فضل كريستو عدم توصيفها بهذه الصورة، لأن من يلجأون إليها في الأعوام الأخيرة يبحثون عن الأمان بعدما فقدت كل سبل العيش وباتوا وعائلاتهم عرضة للخطر في المناطق التي تعيش في ظل ظروف الحرب، وما من طريق شرعية أمامهم غيرها، لذلك، يؤكد دعمه لهم، في وقت حرصت الدول الأوروبية على التصدي لهم وزيادة العوائق أمامهم علَّ ذلك يوقفهم، و"بدلاً من أن يتراجعوا وتتوقف الهجرة، زادت الأخطار التي يتعرضون لها وتسبب ذلك في فقدان مزيد من الأرواح. لا يمكن لـ ’أطباء بلا حدود‘ ولا لأي منظمة تعمل في المجال الإنساني التخلي عنهم. علماً أنني يوناني الأصل وكانت بلادي تستقبل هؤلاء الأشخاص ليكونوا بأمان وفي ظروف تحترم فيها كرامة الإنسان. أما عندما زادت العوائق التي وضعتها الدول في وجوههم، فكان لا بد من تدخل ’أطباء بلا حدود‘ لتوفير الحماية لهؤلاء الأشخاص، لكن، بوجود قوانين وضعتها الحكومة الإيطالية أخيراً أصبحت الأمور أكثر صعوبة مع زيادة المتطلبات للحد من تدخلات المنظمات الإنسانية في هذا الشأن، ولنشعر باليأس من هذا العمل. لذلك قررنا التراجع والبحث عن سبل يمكن من خلالها مواجهة هذه التحديات الجديدة التي وضعت أمامنا، ولتحسين الاستجابة، وإيجاد طرق جديدة لتقديم المساعدة، لكن في ما عدا ذلك لن يقف شيء بوجهنا، وسنبذل أقصى جهودنا ما دام هناك حاجة إلينا، ليس فقط لإنقاذ حياة هؤلاء الأشخاص، إنما أيضاً لتذكير العالم بأن المتوسط تحول إلى مقبرة جماعية بسبب هذه القوانين التي وضعت أيضاً في بريطانيا والمكسيك، وكثيرة هي الدول التي تستوحي من هذه السياسات وتطبقها، على رغم ما تسبب من مآسٍ".
اقرأ المزيد
مرحلة مقبلة أكثر صعوبة
وبعد الحروب التي تبدو فيها المآسي في أوجها، تأتي كوارث أكبر بعد ليتبين أن ما يحصل في الحروب ليس أسوأ ما قد تتعرض له المجتمعات، بل ما يحصل بعدها، هذا ما حذر منه كريستو مع استمرار الجرائم والقتل العشوائي والتعديات على الإنسانية، "فالوضع الحالي لا يدعو إلى التفاؤل"، لكن يتمسك بالأمل بحصول تغيير، كما تفعل الشعوب التي تعيش في ظل حروب مثل غزة والسودان وهايتي وأوكرانيا.
لكن حاجات القطاع الصحي للمرحلة المقبلة لا تعد ولا تحصى ويطول تعدادها، وفي ظل النزاعات المسلحة المستمرة، قد تستمر الاعتداءات على القطاع الصحي مما يسبب انهياراً أكبر فيه بصورة تزيد من صعوبة وصول الأفراد إلى الخدمات الصحية، عندها لن يتمكنوا من تلقي لقاحاتهم ولن تتمكن الحوامل من الإنجاب في ظروف آمنة، ولن يحصل مرضى السكري على علاجات الأنسولين، وحكماً لن تكون الأمراض المزمنة تحت السيطرة في الدول التي تشهد نزاعات مسلحة. أيضاً من المتوقع التعرض لأمراض عديدة مرتبطة بظروف الحرب، من أمراض تنتقل بالعدوى بسبب ظروف العيش السيئة وعدم توافر ماء نظيف.
وما يقلق كريستو بصورة خاصة الوفيات غير المعلنة التي تحصل في تلك المناطق، لعدم القدرة على الوصول إلى المرافق الصحية، فلا يعرف أحد بها، كما حصل في العراق وجنوب السودان، "ففي العراق، كانت هناك حاجة إلى عقود قبل عودة القطاع الصحي إلى وضع طبيعي، ولا تزال تعالج أمراض ناتجة من ظروف الحرب، فالخطر لا يرتبط بالحرب حصراً. قد نشهد فيها الدمار وتفقد الأرواح، لكن من بعد دمار المستشفيات مثلاً، لا تقتصر الخسائر على الأرواح التي بين جدرانها، بل الخسارة أكبر من هذا بكثير وتمتد أعواماً طويلة بعدها لأن الآلاف يكونون قد فقدوا مرفقاً يمكن اللجوء إليه لتلقي الخدمة الصحية والرعاية. فالمستشفيات لن تكون قادرة على تلبية حاجات المجتمع عندها لأعوام عديدة مقبلة، إضافة إلى كوارث عديدة أخرى ومآس تخلفها الحرب، ولن تُكتشف إلا في مراحل لاحقة".