شغل خبرُ إطلاق سراح نبيل القروي، مساء الأربعاء 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، التونسيين كما لم تشغلهم أخبار أخرى كثيرة تتلاحق على السّاحة السياسية في البلاد. ولعل السبب الأول لذاك الاهتمام هو أن إطلاق سراح المرشح القروي جاء قبل أيام من موعد الاقتراع في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، الأحد 13 أكتوبر. والقروي هو أحد المؤهلين، مع قيس سعيد.
فاستباق الإفراج ثلاثة أيام قبل يوم الاقتراع للانتخابات الرئاسية وتزامنه مع يوم الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية، علاوة على تمسّك القضاء في مناسبتين سابقتين بعدم الإفراج عن القروي، كلّها أمور جعلت قرار الإفراج محفوفاً بأسئلة جوهرية وعميقة حول استقلالية المؤسسة القضائية وعلاقتها بكواليس السياسة وتوازناتها.
المحكمة تناقض نفسها
تباينت المواقف وتضاربت الآراء في شأن توقيت هذه الخطوة وخفاياها وأسبابها وأبعادها بعدما تم رفض إطلاق سراح القروي في ثلاث مناسبات سابقة.
فقد انقسمت الآراء بين اتجاهين.
اتجاه يرى أنّ صفقة سياسية تُطبخ في الكواليس من أجل إنقاذ حركة النهضة الإسلامية من "ورطة" الفوز في الانتخابات التشريعية ومطبّات تشكيل الحكومة المقبلة التي تتطلب 109 أصوات لتنال ثقة المجلس.
والاتجاه الثاني يرى أنّ ضغوطاً سياسية كبرى مورست على القضاء الذي رضخ ووجد منفذاً قانونياً لإخراج نبيل القروي من السّجن مقابل تهدئة الأوضاع السياسية والقفز على أزمة تلوح في الأفق، إذا ما تواصل بقاء المرشّح الثاني نبيل القروي في السّجن.
صدقية الانتخابات
يؤكد أستاذ القانون العام في الجامعة التونسية عبد الرزاق مختار، في حديث مع "اندبندنت عربية"، أن القرار القضائي عادة لا يهتم بالتوقيت، إلا أن القرار الأخير لمحكمة التعقيب وهي أعلى درجة تقاضٍ في تونس والخاص بإطلاق سراح نبيل القروي يطرح تساؤلات من بينها لماذا ناقضت المحكمة نفسها حيث أنها رفضت في السابق طلب الطعن في بطاقة الإيداع في حقّ نبيل القروي، وهو ما يتطلب من المحكمة نشر القرار وتقديم حيثياته حتى يفهم الجميع أسباب اتخاذ هذا القرار وتوقيته.
يضيف مختار أن السّياق العام لهذا القرار يوحي بأن هناك ضغوطاً مورست على القضاء في هذا الملف بالذات، وهو ما أقرّت به جمعية القضاة، في إشارة إلى الدعوات الصادرة عن جهات عدة لإيجاد حلّ لوضع القروي، ومن بينها رئيس الجمهورية محمد الناصر الذي عبّر عن تخوفه من مآلات المسار الديمقراطي في تونس في ظل بقاء القروي في السّجن، لما لهذا من تأثير في صدقية الانتخابات والمسار الديمقراطي وصورة تونس في الخارج، بالإضافة إلى دعوات أخرى من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري إلى ضمان تكافؤ الفرص بين المرشّحَيْن.
ويرجّح مختار فرضية "الطبخة السياسية"، التي يتم الإعداد لها من أجل توازنات سياسية ما بين الأطراف الفاعلة في المشهد، خصوصاً بعد صدور نتائج الانتخابات التشريعية.
قرار الإفراج ينقذ المسار الانتخابي
ويعتبر مختار أن من شأن قرار إطلاق سراح القروي أن يخفّف الوطأة عن المشهد السياسي العام في البلاد، الذي أصبح مشحوناً ومفتوحاً على احتمالات عدة.
يتابع، أن هذا القرار وبصرف النظر عن ظروفه وأسبابه فإنه سيسهم في تحصين المسار الانتخابي من الطعون الداخلية وحتى الخارجية، في إشارة إلى مسألة التدويل التي تحدث عنها بعض الأشخاص.
واليوم، الناخبون التونسيون أمام مرشحيْن طليقيْن يمكنهما مواصلة حملتيهما الانتخابيتين في ظروف عادية من أجل تخفيف الضغط على المناخ الانتخابي وهيئة الانتخابات التي تعيش ضغطاً غير مسبوق في علاقة بمسالة تكافؤ الفرص. وقد حُمِّلت ما لا تتحمله في هذا السياق لأنها في الواقع غير مسؤولة عن المسار القضائي للقروي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن خلفيات إصدار بطاقة الإيداع بالسجن في حق القروي منذ أغسطس (آب) 2019، يؤكد أن القرار يعتبر تعسفاً في حق القروي على الرغم من كل ما قام به داعياً إلى العمل على تحصين القضاء من كل تدخّل لأنه صمّام أمان وضامن لنزاهة المسارات الانتخابية.
ضحية
في المقابل، يؤكد أستاذ الفلسفة السياسية في الجامعة التونسية فريد العليبي لـ "اندبندنت عربية" أن قرار إطلاق القروي سيزيد المشهد السياسي ارتباكاً، فقد أضحى القروي مشكلة سواء كان في السجن أو خارجه وسيواصل المرشح للانتخابات الرئاسية في دورتها الثانية الدعاية السياسية في قناته التلفزيونية وسيستثمر في المظلومية. أما وجوده في السجن فكان دعاية انتخابية له، واليوم سيتم التسويق له على أنه ضحية ومناضل وسجين سياسي أدرك في الأخير حريته على أمل تقوية حظوظه مقابل منافسه قيس سعيد.
ويتحدث العليبي عن صفقات وضغوط سياسية كالتي مارسها رئيس الدولة محمد الناصر والرّباعي الراعي للحوار الوطني من أجل إطلاق سراح القروي، وهي ممارسات قد تنسف صدقية المسار الانتخابي وتضرب صورة تونس التي تعيش انتقالاً ديمقراطياً.
ويأتي هذا القرار في مناخ سياسي مهتز ووضع صعب تعيشه البلاد وتنامٍ لفقدان الثقة في مختلف المؤسسات وآخرها القضاء الضّامن لشفافية العملية الانتخابية وصدقيتها، فهل وصلت رسالة الناطق الرسمي باسم المجلس الأعلى للقضاء عماد الخصخوصي الذي وشّح صفحته على فيسبوك بالسّواد ونشر تدوينة تقول "سأخبر الله بكل شيء"، لكن أليس من حقّ التونسيين أن يعلموا أيضاً؟
وحدها الأيام المقبلة ستكشف السيناريوهات التي تُحاك في السر لتحكم بها الطبقة السياسية التونسيين في العلن.