بلغ بيل برايسون شواطئنا أوّل مرة في العام 1973 قادماً من بلده الأم، الولايات المتحدة، ومفطوراً على حب إنجلترا. منذ ذلك التاريخ، نظر بعينين ملؤهما المحبة والتهكم إلى تفاصيل هذه البلاد بدءاً بتقنين حمامات المياه الساخنة في النُزُل الساحلية (ملاحظات من جزيرة صغيرة، 1995) ومروراً بعبقرية شيكسبير العصيّة على الحصر (2007) ووصولاً إلى الولادة النارية لكوكب الأرض (موجز تاريخ كل شيء تقريباً، 2003).
بعد تحوّله من أدب الرحلات اللطيف إلى الكتابة العلمية الشعبية، يتسلّح بيل برايسون بإصرارٍ شبه طفولي على مواصلة طرح الأسئلة إلى أن يحيط بمسألة معينة بما فيه الكفاية كي يعيد شرحها للآخرين. كيف يمكن قياس وزن كوكب الأرض؟ وكيف تعمل خلية الدم في جسم الإنسان؟ ولماذا لا نستطيع أن نعيش للأبد؟
يُعتبر الفضول محرّك التقدّم العلمي وفي حالة برايسون، يشكل الفضول أيضاً الدافع وراء الكتابة العلمية. وفي زمننا هذا حيث لا يمكن أن يقول الإنسان أي شيء دون أن يثير حساسية مناهض للقاحات أو محاربا للسموم مدافع عن الترطيب أو خبير رفاه شبه مؤهل لأداء مهمته، يستحق كتابه ترحيباً خاصاً. ففي كتاب جسم الإنسان: دليل لشاغليه، يستحضر برايسون كامل قوة قلمه الشاعري والدقيق ليكتب عن "كتلة اللحم الدافئة" الغامضة التي نسكنها.
وهو كتاب مليء كالعادة بما يكفي من الحقائق الصغيرة الممتعة لإحياء سهرات طويلة، وأعدّد في ما يلي بعض التي أفضّلها.
1. تصل كلفة صناعة أي واحد منا إلى 96.546.79 جنيه استرليني. أو هذا ما تكلّفه صناعة شخص بقياسات الممثل بندكت كمبرباتش على الأقل وفقاً لحسابات الجمعية الملكية للكيمياء التي يذكرها برايسون. وكما يشرح كتاب جسم الإنسان بوضوح، نحن نتيجة تضافر العوامل الدنيوية والإعجاز: لأننا نتكون من مجموعة من العناصر الموجودة في حياتنا اليومية التي جُمعت لتشكّل أنظمة معقدة بشكل مذهل ما زالت لغزاً بالنسبة للعلماء.
وتُحتسب الأرقام كالتالي: يتشكل الجسم من 61 في المئة من الأكسيجين (8.90 جنيه استرليني) و10 في المئة من الهيدروجين (16 جنيه استرليني) اللذان يجتمعان بشكل أساسي لصنع المياه. ويرتفع الثمن عندما نصل إلى الكربون الذي يكلّف 44.300 جنيه استرليني مقابل 30 باونداً وهي الكمية الموجودة عادة في الجسم. ويتألف باقي الجسم من الكلسيوم والفوسفور والبوتاسيوم ومجموعة من العناصر الأخرى الأكثر ندرة.
لكن كما يقول برايسون "هذا غير مهمّ فعلياً. فحتى إن جمعتم أذكى الأشخاص من بين الأحياء أو من عاشوا يوماً وزوّدتموهم بكافة المعارف الإنسانية، لن يستطيعوا صناعة خلية إنسانية واحدة، فما بالك بنسخة عن بنديكت كومبرباتش".
2. تصابون يومياً بالسرطان. أو أنتم بالأحرى عرضة للإصابة بالمرض لو لم تكن دفاعات جسمكم الطبيعية قوات خليوية خاصة خارقة. "تشير التقديرات إلى تحوّل ما بين خلية واحدة و5 خلايا في الجسم يومياً إلى خلايا سرطانية قبل أن يقبض عليها نظام المناعة ويقتلها".
ولا يتشارك الجميع "النظام المناعي" نفسه. فلكل إنسان نظامه المناعي الفريد والمتغيّر في آنٍ واحد: إذ يتغير إن شعرتم بالضغط النفسي أو الإرهاق. فلا عجب إذاً أننا ما نزال نقف حائرين أمام بعض الأمراض. وفيما تنجح بعض التقنيات التي نستخدمها في تسخير الرد الفعل المناعي للجسم في مكافحة بعض أنواع السرطان، ما زلنا متأخرين للأسف في مجالات أخرى. فما زالت أمراض المناعة الذاتية، وهي فئة من الأمراض مثل الحساسية حين يهاجم جهاز المناعة نفسه، غير مفهومة ومستعصية بالإجمال. ويصف برايسون هذا النوع من الأمراض بأنها "تُميّز بشكل سافر بين الجنسين" لأنّ 80 في المئة من الإصابات محصورة بالنساء.
3. لا تتعدّى سماكة الاختلاف العرقي مليمتراً واحداً. بعد متابعته الجسورة لتشريح جثّة، يقتبس برايسون كلام الجرّاح الذي أزال طبقة رقيقة من الجلد وقال "ما العرق سوى جزيئة جلدية". مع انتشار البشرية في كافة بقاع الأرض يُعتقد أنّ بعض الناس طوّروا بشرة أفتح لوناً كي يتشرّب جسمهم الفيتامين دال حيث الشمس خافتة. وعلى امتداد التاريخ البشري، تراجعت صبغات الجلد وتزايدت في جسم الإنسان وفقاً للبيئة المحيطة به.
ويكتب برايسون نقلاً عن عالمة الأثروبولوجيا نينا جابلونسكي قولها إنه من وجهة النظر البيولوجية، لا يعدو لون البشرة كونه "ردة فعل على أشعة الشمس". وتضيف "وعلى الرغم من ذلك، تأمَّل عدد الناس الذين استُعبدوا أو أصبحوا عرضة للكراهية والإعدام دون محاكمة والحرمان من حقوقهم الأساسية عبر التاريخ بسبب لون بشرتهم".
4. لم يُصمم جسم الإنسان كي يسير على قدمين. عندما نزل أسلافنا أشباه القرود من الأشجار كان للسير باستقامة ميزة من ناحية التطور البشري: فهكذا استطعنا أن نستكشف مناطق أوسع ونرى لمسافات أبعد. لكن هيكلنا العظمي ما زال مصمما بشكل أساسي كي يتناسب مع الحياة على أربعة أرجل وليس اثنتين. ويقول برايسون في كتابه:"وضع الوقوف باستقامة المزيد من الضغط على الفقرات الغضروفية التي تدعم العامود الفقري وتحميه، لذلك تنزلق أحياناً أو تتمزق وهذا ما يعرف عامة بانزلاق غضروف الفقرة أو الدِيسْك". والإصابة بآلام الظهر شائعة جداً فـ60 في المئة من البالغين يعانون منها. ولا داعي لذكر مفاصل ركبنا أو أوراكنا كذلك لأنها غالباً ما تصاب بالخلل.
لكننا دفعنا الثمن الأكبر في مجال قدرتنا على الإنجاب- وهو ما يستطيع أن يشهد عليه أي شخص مرّ بقرب جناح الولادة في أي مكان. في هذا الزمن الذي يروّج فيه دعاة الولادة الطبيعية لفكرة أنّ أجساد النساء مصنوعة بطريقة مثالية من أجل إخراج طفل منها باستخدام شمعة معطّرة وبعض تمارين التخيّل التي تبعث على الراحة، تتبين أهمية هذه المعلومات جوهرية. إذ يقول برايسون:
"والأهمّ أنّ الحوض أصبح أضيق ليناسب مشيتنا الجديدة فضاعف من آلام الولادة ومخاطرها لدى النساء. منذ زمن غير بعيد، لم يكن أي حيوان على وجه الأرض عرضة للوفاة أثناء الولادة أكثر من الانسان وربما لا يمرّ أي حيوان آخر بالمعاناة نفسها لليوم".
5. كل عام تخسرون مقدار نصف كيلو من القشور الجلدية. نكتفي بهذا القدر من المعلومات. إقرؤوا جسم الإنسان: دليل لشاغليه لكن ليس فيما تتناولون المعكرونة مع الجبنة المبروشة فوقها.
© The Independent