تصاعدت المخاوف في تونس من رجوع البلاد إلى مربع العنف الذي عرفته بعد الثورة، وذلك إثر استغلال بعض الجهات المنسوبة للتيار المتشدد في تونس، الجدل الحاصل حول أداء بعض وسائل الإعلام في الانتخابات واصطفافها وراء مرشحين أو أحزاب، لدعوة أنصارهم تنظيم حملات تشويه بهدف غلق قناة تلفزيونية خاصة.
مناخ سياسي متوتر
ووصلت ذروة حملات التجييش ضد الإعلام إلى تهديدات بالقتل خلال الأيام الأخيرة، بحسب ما أكدته الإعلامية التونسية مريم بلقاضي. هذا الأمر دفع بنقيب الصحافيين التونسيين ناجي البغوري إلى شجب ما يحصل من حملات واعتداءات على الصحافيين من قبل بعض الفئات التي وصفها بـ "المتطرفة والتي لا تؤمن بالدولة وتساهم في التجييش ضد الإعلاميين وتحاول جر الفضاء العام إلى مناخ سياسي متوتر"، وفق تعبيره.
كما دعا النقيب رئيس الجمهورية قيس سعيد لأن يضع في سلم أولوياته حماية حرية الصحافة والتعبير.
من جهة أخرى، انتقد البغوري في تصريح لـ "اندبندنت عربية"، تعمد بعض القنوات التلفزيونية الخاصة "خلق مناخ عنف عبر خطابات غير مدروسة"، مشدداً على أهمية العدول عن ذلك، لكنه يعتقد أن غضب الجمهور لا يبرر استغلاله في خطابات تشويه وعنف.
مبادئ لا حياد عنها
كما دعت حركة "تحيا تونس" في بيان صادر عنها الخميس 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، السلطة المعنية، إلى اتخاذ كل الإجراءات القانونية ضد المسؤولين عن هذه الأفعال، وأكدت تمسّكها "بحرية التعبير والصحافة كمبادئ لا حياد عنها ومكاسب جوهرية للديمقراطية التونسية لا مجال للتراجع عنها".
كما رفض حزب رئيس الحكومة الحالي أي انزلاق إلى العنف، ودعا في هذا الصدد، مجلس نواب الشعب المنتخب إلى أن يشرع في أقرب الآجال، في "تركيز الهيئات الدستورية المستقلة وعلى رأسها هيئة الاتصال السمعي والبصري، حتى تضطلع بدورها في تعديل المشهد الإعلامي بما يضمن التعددية وحرية التعبير، لإعلام نزيه في كنف احترام القانون".
الدعوات "المتشنجة"
من جهته، دعا رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان عبد الباسط بلحسن، في تدوينة له عبر حسابه على فيسبوك، إلى التوقف عما أسماها بـ "الدعوات المتشنجة والخطيرة للثأر والانتقام من الإعلاميين"، مشدداً على ضرورة "معالجة نقائص الإعلام بطرق أخرى غير طرق خنق حرية الرأي والتعبير وانتهاك حقوق الإعلاميين".
ورأى أن "ثورة الكرامة وهبت التونسيين الحرية وتحرير الأصوات والطاقات"، لافتاً إلى "أهمية المحافظة على هذه المنحة بدل إضاعة الوقت في شعبوية سنواجهها جميعاً انتصاراً لحرية الرأي والتعبير".
أفكار هدّامة
وفي حملة أخرى موازية، ساهمت العناصر المتشددة نفسها والتي تناصر الرئيس المنتخب قيس سعيد، في التجييش ضد "الاتحاد العام التونسي للشغل"، ليجبروه على التخلي عن المشاركة في الشأن السياسي، إذ يعتبرونه معرقلاً لعمل الحكومة ورئيس الجمهورية، خصوصاً في فترة الترويكا بقيادة حركة "النهضة الإسلامية" بعد الثورة مباشرة.
ولتوضيح بعض الغموض وإظهار موقف الرئيس الجديد قيس سعيد تجاه من يعتبرون أنفسهم مناصرين له، قال رضا المكي أحد مديري حملته، "حتى نضع حداً للانفلات الحاصل في خطابات البعض ممن يدعون مساندة الأستاذ قيس سعيد، علينا أن نؤكد أن الرئيس المنتخب لا يغض الطرف عما يسمعه في خطاب البعض ممن يهاجمون الاتحاد العام التونسي للشغل"، مضيفاً أن "سعيّد يستنكر كل ما قيل في هذه المنظمة العتيدة، ويهيب بالشباب وكل من ناصروه أن يبتعدوا عما يراه تزييفاً للوعي ونشراً للكراهية".
كما دعا المكي أحد رموز اليسار التونسي إلى "عدم الانسياق وراء جهات وظيفتها الوحيدة نشر الإشاعات وشحن الشباب بأفكار هدامة".
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رئيس الجمهورية وخلال لقائه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، أكد أهمية دور هذه المنظمة التاريخية في البلاد.
روابط حماية الثورة
ويرى متابعون للشأن التونسي العام أن "هؤلاء المتطرفين الذين يطلون برؤوسهم كل مرة لتأجيج لهيب الفتنة في تونس، هم في حقيقة الأمر أنصار حركة النهضة الإسلامية الذين استعملتهم خلال الثورة، من خلال ما يسمى بروابط حماية الثورة، التي تأسست بغية حماية المؤسسات والمنشآت الحكومية والأهالي، في ظل الانفلات الأمني الذي كان سائداً حينذاك".
غير أن اتهام الرابطة في ما بعد من قبل أحزاب ومنظمات، بالوقوف وراء أحداث شهدتها البلاد ضد المنظمة الشغل وضد وسائل إعلام وشخصيات عرفت بخطابها التقدمي، جعل من أنشطتها محل متابعة وشك، خصوصاً أن غالبية أعضائها من المتشددين دينياً.
وعام 2014 قضت المحكمة بحلّ الرابطة الوطنية لحماية الثورة وفروعها كافة وتصفية كل ممتلكاتها، استناداً إلى مؤيدات واقعية وملموسة بثبوت الخروق القانونية والانتهاكات الواضحة للرابطة وقيامها بأعمال عنف وفوضى والدعوة لهما.
ومع صعود "حركة النهضة" وقائمة "ائتلاف الكرامة" المعروفة بعناصرها "الإسلامية المتطرفة"، ارتفعت من جديد لهجات الوعيد والتهديد ضد وسائل إعلام وضد اتحاد العام التونسي للشغل، التي ميزت المشهد عامي 2012 و2013 عبر أبرز رموز روابط الثورة المنحلة.
أجواء "متشنجة"
وفي السياق ذاته، عبرت النقابة العامة للإعلام التابعة لاتحاد الشغل، عن انشغالها بالهجمة الشرسة ضد الإعلام والعاملين بالقطاع، لافتة إلى أن بعض الأطراف تحاول اليوم إعادة تشكيل مشهد 2012 و2013، من خلال الاعتداءات ضد النقابيين والسياسيين واعتماد الفضاءات الاجتماعية للتشويه وتلفيق التهم، وهو ما خلق أجواء متشنجة في الأوساط الإعلامية والنقابية تنبئ بما لا تُحمد عقباه.
ودانت النقابة العامة للإعلام بشدة، الحملة التي اعتبرتها مشينة وغير أخلاقية ضد العديد من العاملين في قطاع الإعلام، وتعنيف عدد منهم في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة تونس، وتجمع البعض أمام إذاعة المنستير في الساحل التونسي، واستعمال الفضاءات الافتراضية لبث الكراهية والحقد ضد قنوات إعلامية وضد الصحافيين والنقابات.
ودعت النقابة عبر بيان صادر عنها، الهياكل المهنية كافة والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني إلى التحرك عبر تنظيم تحرك وطني ضد محاولات تدجين الإعلام والهرسلة والتشويه، للدفاع عن حرية التعبير والإعلام، باعتباره صمام الأمان لحماية المسار الديمقراطي وضمان التعددية السياسية والفكرية في تونس.
قضايا الحريات
والجدير بالذكر أنه من بين مقومات مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، خلال الحوار الوطني عام 2014، المطالبة بحكومة محدودة العدد لا يتحمل أعضاؤها مسؤوليات حزبية ولا يترشحون للانتخابات المقبلة، رئاسية كانت أم تشريعية، وحل كل اللجان والميليشيات والرابطات والمجموعات المنظمة، التي تنشر ثقافة الكراهية والضغينة والعنف، تجسيداً لمبدأ احتكار الدولة وحدها مسؤولية الأمن وحماية الحريات العامة والخاصة، وكذلك الإسراع بكشف حقيقة كل أحداث العنف وحقيقة اغتيال الشهيد الوطني شكري بالعيد وتقديم الجناة ومن يقف وراءهم إلى العدالة، إلى جانب تحييد المساجد والنأي بها عن الصراعات السياسية والحزبية ومحاسبة كل الداعين للتكفير والتحريض على العنف. وعلى ما يبدو أن هؤلاء الأطراف المتشددة لم تنس موقف منظمة الشغل ضدهم واصطفاف المنظمة وراء قضايا الحريات ضد الظلم والتطرف.