حطَّمت جماعة الحوثي رقماً قياسياً في حرب الألغام والمتفجرات والعبوات الناسفة، منذ بدء حربها في صعدة ضد الدولة في عام 2004، والانقلاب في صنعاء، بوصفها واحدةً من أمهر الجماعات بالعالم في شن هجمات بـ"العبوات الناسفة".
وبفعل الجنون الحوثي غير المكترث بمصير المدنيين أصبح اليمن البلد الأكبر في منطقة الشرق الأوسط الذي تعرض لكارثة انتشار الألغام، إذ تصدّر قائمة الدول الأكثر حوادث لانفجار الألغام على مستوى العالم في العام 2018 فقط، حسب تقرير مركز جنيف الدولي لإزالة الألغام للأغراض الإنسانية، ما يشكل خطراً مستداماً على حياة المدنيين.
ورغم تفاوت الإحصاءات المحلية والدولية في تقدير المساحات المزروعة بالألغام في اليمن، فبعضها يؤكد زراعة الحوثيين "مئات الآلاف"، وآخرون يرتفعون بالرقم إلى أكثر من "مليون لغم أرضي وبحري". فإن المؤكد أن نشاط الحوثيين في هذا المجال أصبح "بصمة دم" تطبعها ألغام الحوثي المصنّعة محلياً بمعاونة خبراء، أو حتى المستوردة من إيران، وفي النهاية يدفع المواطنون اليمنيون الثمن من أجسادهم بالإصابة، أو من أرواحهم بالوفاة.
وكشفت تقارير حقوقية أن عدد ضحايا الألغام الحوثية في اليمن "يتجاوز 10 آلاف ضحية"، يمثل الأطفال والنساء الغالبية الكبرى، إضافة إلى المسنين وأصحاب المهن والحرف مثل الصيادين والمزارعين، الذين يتخطّفهم الموت في كل خطوة يخطونها نحو فلاحة الأرض، وبحثاً عن أرزاق أسرهم في البحر.
وحسب مراقبين فإن جماعة الحوثي تعتمد على "زرع المتفجرات والألغام المحرمة دولياً"، ليس دفاعاً عن النفس بقدر ما هي "سياسة ممنهجة من أجل استهداف الأبرياء" وإيقاع أكبر قدر من الضحايا، كسياسة انتقامية من المدنيين في ظل نزيفها المستمر في صفوفها وخسائرها اليومية بالعشرات من مسلحيها، إضافة إلى عدم قبول المجتمع لها في المناطق التي تدخلها، وتجبرهم على الانسحاب منها، وهو ما دفعها إلى زراعة الألغام في الأحياء السكنية والطرقات العامة والوديان ومزارع المواطنين والجبال غير مكترثة بأي مخاطر تحدق بحياة المواطنين.
ولم تستثن السياسة الحوثية في زراعة الألغام الآبار والجامعات ولا الطرقات ولا المنازل، وأغرقت البحر وكذلك مناطق عبور السفن التجارية الدولية لتمثل تهديداً لحركة الملاحة الدولية، وتحدياً تسبب في حرمان مئات الصيادين من ممارسة حرفة الصيد على طول الشواطئ اليمنية، التي مرّت منها الجماعة الحوثية وعناصرها المسلحة، حسب المراقبين.
صناعة حوثية بمواد إيرانية
وقال خبراء تفكيك الألغام إن الألغام الحوثية المزروعة "أغلبها جديد"، والمواد الداخلة في تركيبها والقطع التي تتكوّن منها "صنع إيراني"، وتعدُّ هدية النظام الإيراني لليمن وإسهاماته في التنمية بقطع أطراف الأطفال وتشويه النساء والشباب وقتل المسنين.
وحسب الخبراء فإن بعض الألغام "صناعة روسية" أخذوها من مخازن الدولة في العاصمة صنعاء، وقام خبراء إيرانيون وآخرون من حزب الله اللبناني بـ"تطويرها وتحويلها من ألغام مضادة للدروع إلى ألغام فردية".
كما تفنن الحوثيون ومن ورائهم الخبراء الإيرانيون في صناعة الألغام بأشكال مختلفة على "شكل صخور"، ويقومون بزراعتها في المناطق الجبلية، وعلى شكل "كتل رملية" تزرع في الصحاري والوديان، كما صنعت "عبوات ناسفة وألغاماً" لتتناسب مع زراعتها داخل العلب والأكياس الغذائية لتحقق أكبر قدر من الخسائر في الأرواح.
الساحل الغربي
وتشكل حقول الألغام التي خلَّفتها الجماعة الحوثية في المناطق المحررة كابوساً يؤرق أبناء الساحل الغربي، إذ لا يكاد يمر يومٌ دون وقوع ضحايا مدنيين، معظمهم نساء وأطفال في قراهم ومزارعهم والطرقات العامة، علماً بأن الألغام تسببت في ضحايا أكثر من الاشتباكات.
وتترك الألغام الحوثية قصصاً مأساوية ومعاناة يعيشها الضحايا وأسرهم والذين يضطرون إلى بيع ممتلكاتهم لتسديد تكاليف علاج أبنائهم في الخارج، ناهيك بدفع آلاف الأسر إلى دائرة الفقر والفاقة والعوز، التي فقدت معيلها في حوادث الألغام والعبوات الناسفة الحوثية.
وفي محاولة لإخلاء ساحتها ومسؤوليتها عن كارثة الألغام المزروعة في الساحل الغربي أبلغت جماعة الحوثي لجنة التهدئة والمراقبة الأممية، أن "المسؤولين عن زرع الألغام في الساحل الغربي هم ثلاثة: مهندس عراقي، ومساعد من صعدة، وثالث من حجة"، وجميعهم لقوا مصرعهم خلال المواجهات والغارات الجوية لمقاتلات التحالف العربي في الساحل الغربي.
ولا تزال مختلف مناطق السهل التهامي والساحل الغربي شاهدة على مئات حوادث انفجارات الألغام في يختل والفازة وحيس والتحيتا والجبلية والدريهمي، التي مزَّقت الألغام الحوثية أجساد الأبرياء وحوَّلتها إلى أشلاء، وتركت خلفها قصصاً مأساوية لمعاناة تظل تعايشها أسر الضحايا فترات طويلة، لا يستطيع الدهر بتقلباته أن يمحوها بسهولة.
ففي منطقة يختل بمديرية المخا بمحافظة تعز، يجلس الطفل عبد الواحد هبة في زاوية خيمة مع أسرته بساق مبتورة، يقول "حتى الآن لا أستطيع تصديق ما حدث، كنتُ مع صديقي في مديرية المخا، لم نؤذِ أحداً قط، ولم نفعل شيئاً، فقط نعمل في الأرض ونساعد عائلاتنا، حتى انفجر اللغم".
أطاح اللغم الحوثي بقدمي عبد الواحد، وأصبحت إحداها مبتورة، بينما الأخرى تهشّم عظام الساق فيها تماماً من شدة الانفجار، ليصبح قعيداً لا يستطيع الحركة حتى داخل الخيمة، يعتمد على أسرته لمساعدته كلما أراد التحرك.
يحتاج عبد الواحد إلى اثنين من أسرته إلى جواره على الدوام، فهو عاجزٌ بشكلٍ كاملٍ عن الحركة، ويضيف "كنت أساعد أسرتي بالعمل. الآن أعيش حياتي جالساً على الأرض بقدم مبتورة، وساق مهشّمة العظام، هذا ما فعلوه بي بألغامهم التي تقتلنا كل يوم".
ولم يكن عبد الواحد الحالة الوحيدة التي دمّرت فيها ألغام الحوثيين مستقبل أبناء اليمن، فغيره الآلاف، الذين مزّقت الألغام أجسادهم وأصابتهم بإعاقات دائمة ستظل ترافقهم طوال حياتهم إن لم تتخطف أرواحهم.
حقول الموت
حوَّلت الألغام الحوثية مساحات واسعة من مزارع المواطنين في السهل التهامي إلى حقول موت تحصد أرواح الأبرياء، كما منعت المزارعين من استصلاح أراضيهم أو حصد ثمارهم، أو العودة إلى مناطقهم التي نزحوا منها.
ودفعت الألغام المزارعين إلى استصلاح أراضيهم بالطرق البدائية، حيث البقر والمواشي، مع رفض مالكي الجرارات حراثة أراضٍ مملوءة بالألغام والعبوات الناسفة الحوثية، خصوصاً بعد وقوع حوادث انفجار ألغام عدة، أودت بحياة العاملين عليها أو المارين بالقرب منها.
ويزداد الأمر صعوبة في تهامة التي تشكّل الزراعة مصدر دخل وحيداً لأغلب سكّانها، التي تقيهم من بؤس الحاجة والافتقار، ليجدوا أنفسهم وقد أضحوا معدمين، يتربص بهم الجوع والتشرّد، بعد أن طوَّقتهم جماعة الحوثي بالموت من كل مكان، وسلبت منهم مساحات زراعية واسعة في معظم مديريات الحديدة المحررة.
الحال ذاته في الجوف وصعدة والطوال وحرض والضالع وتعز، حيث حوَّلت جماعة الحوثي مزارع المواطنين ووديانهم إلى حقول للموت تتخطف أرواح المزارعين وتحصد رؤوسهم بعد أن كانت مصدراً للعيش.
تفكيك ونزع الألغام
يعمل في اليمن عددٌ من البرامج الخاصة بنزع وتفكيك الألغام، أهمها التابعة إلى القوات المقاومة الوطنية والمشتركة في الساحل الغربي، ومشروع "مسام" السعودي لنزع الألغام، الذي يعمل بالشراكة مع البرنامج الوطني لنزع الألغام في اليمن، الذي بذل خلال الفترة الماضية جهوداً كبيرة لنزع وتفكيك عشرات الآلاف من الألغام الحوثية.
وتبذل الفرق الهندسية التابعة إلى القوات اليمنية المشتركة جهوداً متواصلة ومضنية لنزع وتفكيك حقول وشبكات الألغام والمتفجرات التي زرعتها جماعة الحوثي في عددٍ واسعٍ من المناطق والبلدات والقرى المحررة، إلا أن ما يزيد الأمر صعوبة زراعة الجماعة الحوثية مئات الآلاف من الألغام والمتفجرات دون خرائط يُستدل بها على مكانها، ما يجعلها تشكل تهديداً حقيقياً وكبيراً على حياة المدنيين.
ونزع مشروع "مسام" منذ تأسيسه حتى الآن أكثر من مئة ألف لغم وذخيرة غير منفجرة وعبوة ناسفة زرعتها الميليشيات في مختلف المناطق المحررة قبل طردها منها.
يقول أسامة القصيبي مدير مشروع "مسام"، في حديثه مع "اندبندنت عربية"، "الفرق التابعة لـ(مسام) تُحدد المواقع المستهدفة لإزالة وتفكيك الألغام بناءً على معلومات تتلقاها من المواطنين في ظل عدم وجود خرائط"، موضحاً أن "الفرق تستخدم أجهزة حديثة استوردها المشروع حديثاً لتغطية أراضٍ واسعة، خصوصاً فيما إذا كانت طبيعة الأرض تسمح بذلك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما أشار إلى أن فرق المشروع "تستهدف المناطق العالية التأثير"، التي تؤثر في المواطنين بالمنطقة بشكل مباشر، أكد القصيبي أن المشروع "قدّم حتى الآن نحو 20 شهيداً من أجانب ومن أبناء اليمن خلال عملهم في الفرق الفنية والميدانية والعاملة في مجال تفكيك ونزع الألغام الحوثية".
يقول الرائد محمد يحيى ثامر قائد وحدة الهندسة لنزع الألغام والعبوات الناسفة في القوات المشتركة في الساحل الغربي، "الفرق الهندسية تفتش وتفحص المناطق المحررة حتى تجد أي دليل يثبت بأنها زُرعت بالألغام لنُطهرها".
وأضاف، "إذا انفجر لغم بأحد المواطنين أو أي عربة مدنية أو عسكرية نباشر في النزول والتفتيش، وتطهير المكان من جميع الألغام والعبوات ومخلّفات الحرب".
وفي جريمة مضاعفة حوَّلت جماعة الحوثي مئات الآلاف من الألغام من "ألغام مضادة للدروع" إلى "ألغام فردية"، وتعد الأخطر في إرهاب جماعة الحوثي بحق المدنيين حسب ما أفاد به الرائد ثامر، الذي أوضح أنه إذا لم يتم التعامل مع الألغام الحوثية قبل انتهاء الإطارات المعدنية، خصوصاً ألغام الدروع فإنها "تتحوَّل من لغم دروع إلى لغم فردي"، وفي هذه الحالة تكون خطرة على حياة المدنيين، وتنفجر بمجرد أن يمر عليها أي شخص وتحوّله إلى أشلاء.
وفي ظل غياب خرائط الألغام المزروعة من قبل جماعة الحوثي تبقى عملية البحث عن الألغام المدفونة في باطن الأرض مضنية، وتعتمد في أغلبها على إما "التنبؤ بها مع وقوع حوادث انفجار قريبة، وإما بناءً على إرشادات المواطنين"، وفق ما ذكره الرائد محمد يحيى ثامر بقوله "نستدل على الألغام عندما يعثر المواطنون على أجسام غريبة، ويبلغون الفرق الهندسية التي تنزل بدورها مباشرة، وتطهر المكان".
وأضاف، "الفرق الهندسية التابعة للقوات المشتركة تقوم بعملها بإمكانيات بسيطة فيما بالمقابل تقوم الأمم المتحدة بدعم الجاني ومكافأة الميليشيات الحوثية على زراعة الألغام، إذ دعّمت مؤخراً الجماعة الحوثية بنحو 20 سيارة عبر البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة".
وحاولت "اندبندنت عربية" التواصل مع عدد من قيادات الحوثي للرد، إلا انهم رفضوا التعليق.
غير أن جماعة الحوثي غالباً ما تحمل الحكومة مسؤولية منع الفرق الهندسية من نزع الألغام في الساحل الغربي، لرغبتها في تحميل الحوثيين مسؤولية زراعة الألغام.