عشتُ -وعاش جيلي- ننظر إلى العراق باعتباره قلعةً عربيَّة شامخةً يُجلجل فيها صوت العروبة، ويتفاعل مع أحداث أمته في كل المناسبات، فالعراق بلدٌ ذو بأس، فضلاً عن تاريخٍ مشرقٍ منذ البابليين مروراً بالدولة العباسيَّة وصولاً إلى العصر الحديث، وذلك لم يمنع بالضرورة شعورنا بوجود أشقائنا الأكراد مكوناً من مكونات ذلك البلد الكبير.
كما أن بلاد النهرين تتمتع بثروات هائلة، فهي الأرض الخِصبة، حتى إن كلمة العراق ذاتها تعني أرض السواد تعبيراً عن نوعيَّة التربة وطبيعة الظروف المحيطة بها، كما أن الله سبحانه وتعالى يعطي الدول إمّا وفرة المياه وإمّا وفرة النفط، هكذا كنا نتصوّر، إلا أن الله أعطى ذلك البلد العربي الاثنين معاً، فأصبح لديه النفط والمياه والتربة الخصبة، فضلاً عن عنصر بشري متميز.
وما زلتُ أذكر أن العراق كان يملك سلاحاً جوياً قوياً وطيارين مدرَبين على مستويات عاليَّة، واستضافت قاعدة (الحبّانيَّة) بعض الطيارين المصريين، وكان منهم الطيار المتميز عسكرياً محمد حسني مبارك الذي كان يروي دائماً انبهاره بكفاءة الطيارين العراقيين، فضلاً عن أخلاقهم الطيبة ورباطة جأشهم وحبهم لمصر والمصريين، وكيف أنه عندما غادر القاعدة العراقيَّة كان الطيارون العراقيون يودّعونه بالدموع، فالعراق شعبٌ عاطفيٌّ، له تاريخٌ طويلٌ، وتوافدت على أرضه حضارات متعاقبة، وعَرِفَ التعدديَّة العرقيَّة والدينيَّة منذ البدايَّة، لكن عروبته كانت دائماً الأصل الغالب، والمكون الأساس لشخصيته القوميَّة وعمقه الحضاري، لذلك كان إسهام العراق في القضايا العربيَّة والمسائل القوميَّة إسهاماً مرموقاً، حتى لقّبه العرب بحارس البوابة الشرقيَّة للأمة العربيَّة.
ورغم أن التاريخ العراقي لا يخلو من العنف والمشاهد الدمويَّة والحكام المستبدين بدءاً من الحجاج بن يوسف الثقفي وصولاً إلى صدام حسين مروراً بالنماذج القويَّة التي أحكمت قبضتها على العراق شعباً وأرضاً وسلطة فإن ذلك الشعب يملك حسّاً حضارياً يرتفع به إلى مستوى المسؤوليَّة، إذا اقتنع بما يراه، وآمن بما يفعله، وعندما أقدمت الولايات المتحدة الأميركيَّة على غزو العراق واحتلاله كنّا أمام فصلٍ جديدٍ من فصول التاريخ العراقي الحديث، إذ عمدت السياسة الأميركيَّة إلى إحداث الفرقة وتوسيع الهوة بين الشيعة والسُّنة.
وكأنما كتب الله على العراقيين العبث بهم من خلال دينهم، فعندما تمكَّنت بريطانيا من أحوال العراق عام 1920 انحازت إلى السُّنة على حساب الشيعة لخلق الفتنة وزرع أسباب الفرقة، وعندما جاء الأميركيون قاموا بالمؤامرة نفسها، لكن في الاتجاه المعاكس دعموا الشيعة في مواجهة السُّنة، مستغلين عنف عصر صدام ونسبته إلى السُّنة، مع أن ذلك الحاكم الراحل لم يكن يفرّق بين الشيعة والسُّنة، لكن بطشه الشديد كان يشمل الجميع، كما أحيا الأميركيون أيضاً نعرات نائمة لدى الأكراد وغيرهم من عناصر ذلك العصر الذي كنّا نتصوّر أنه انتهى ودخل في غياهب التاريخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما زلت أتأمل كيف وصل الأمر بالعراقيين عند كتابة دستورهم الجديد في النصّ على أن العراق بلد مؤسس في جامعة الدول العربيَّة، معتبرين ذلك هو الإشارة الكافيَّة إلى عروبة العراق، بينما التاريخ العربي يقول بغير ذلك تماماً، فنحن لا نعرف مفكراً عربياً أو إسلامياً إلا وعاش في العراق، أو مرَّ به على الأقل، فالعراق ركنٌ ركينٌ في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة وفي العصرَين العباسي الأول والثاني، فضلاً عن دوره المتألق في تاريخ المنطقة عموماً، ولذلك فإن محاولة سلخ العراق عن أمته العربيَّة وإبعاده عن هُويته القوميَّة هي محاولة جائرة لن تؤدي إلى نتائج إيجابيَّة، ولا عوائد مفيدة على العراق وشعبه، وهنا أسمح لنفسي بطرح النقاط الثلاث الآتية:
أولاً: دور العراق محوريٌّ في عالمه العربي وفي منطقة الخليج وفي المشرق العربي، فضلاً عن أن الجيش العراقي تاريخياً كان قوةً محسوبةً بالميزان الاستراتيجي للقوى العربيَّة أمام خصومها، ولذلك فإن خصم هذه القوة من المجموع الكلي للعمل العربي المشترك عسكرياً وسياسياً أدى إلى خلل في التوازن، وأصبحت إسرائيل تدرك أن جيش العراق خارج المعادلة، وأيضاً الجيش السوري الذي أنهكته هو الآخر الحرب الأهليَّة طوال السنوات الماضيَّة.
ولذلك فإن ما جرى للعراق هو خصمٌ سلبيٌّ من القوة العربيَّة عموماً، ولا أحد يتصوّر أن يكون العراق بوزنه الحضاري وحجمه الاقتصادي خارج المعادلة العربيَّة في ظروف شديدة الصعوبة، لذلك فإننا نرى أن ما حدث في العراق كان موجهاً بالدرجة الأولى إلى المنطقة كلها، وإلى شعوبها العربيَّة بغير استثناء.
ثانياً: إن الجوار المباشر بين إيران والعراق والتواصل بين أطراف المذهب الشيعي في البلدين من (حوزة النجف) إلى (حوزة قم) أدى إلى التغلغل الإيراني في الشأن العراقي، وساعد على ذلك شيوع الإرهاب في العراق، خصوصاً شماله ووسطه، ما أدى إلى أن أصبحت إيران فاعلاً قوياً في الشأن العراقي الخارجي والداخلي، خصوصاً بعد أن نصَّ تقسيم السلطة في العراق على أن يكون رئيس الوزراء مسلماً شيعياً، ورئيس مجلس النواب مسلماً سنياً، ورئيس الجمهوريَّة مسلماً كردياً.
وأعطى هذا التقسيم زخماً شديداً للخلاف الطائفي في العراق، ليس بين أتباع المذاهب وحدهم، لكن أحياناً داخل المذهب الواحد ذاته، ولهذا فإننا نرى العراق في وضع يحتاج إلى الحكمة والتوازن بين القوى الداخليَّة واليقظة للصراعات الخارجيَّة من جانب الفرس تارة، ومن جانب الترك تارة أخرى.
إن العراق بلدٌ غنيٌّ بموارده الطبيعيَّة والبشريَّة، وموقعه في قلب غرب آسيا، بما يجعل الصراع حوله شديداً، وفي داخله محتدماً، ولحسن الحظ فإن روح العروبة في العراق لم تخفت، لكن هناك محاولات لا لطمس هذه الهُويَّة، لكن على الأقل للعبث بها، وتمييع تأثيرها، وهو أمرٌ نحذر منه ونلفت النظر إليه.
ثالثاً: إن إسرائيل تفرك يديها في سعادة، و(نتنياهو) يبتسمُ في زهو بسبب نجاح محاولات تحييد الدور العراقي في الصراع العربي الإسرائيلي، وإبعاده عن الساحة الفعليَّة لدوره التاريخي المتواصل، ولذلك فإنه ليس غريباً أن يشعر العرب بالقلق، لأن مصالح إسرائيل وإيران تصبان في خانة واحدة، وهي إضعاف الأمة العربيَّة والافتئات على مواردها والعبث بوحدتها الإقليميَّة، بل ونضيف إلى ذلك أن الأتراك على الجانب الآخر يشعرون بأن الوقت أصبح مناسباً لاستعادة الأطماع العثمانيَّة لا في سوريا وحدها، لكن في شمال العراق أيضاً، فمدينة (كركوك) تمثل إليهم جوهرةً ثمينةً مع قربها لمواقع النفط.
إننا أمام حلقة شريرة من اللئام الذين يحاولون السيطرة على العراق وتبديد موارده وإهدار مقدراته والعمل على شيوع الفساد في دولاب العمل اليومي للدولة، لكن العراقيين بحكم تاريخهم الطويل وعمقهم الحضاري يدركون أبعاد ما يحدث، ويترصدون أعداءهم في بأس شديد، ويكفي أن الشعب العراقي دحر الإرهاب في شماله، وأعاد الموصل إلى شخصيتها التاريخيَّة، بعد أن عبث بها تنظيم (داعش)، وسطا على تراثها الثقافي ونهب مكتبتها الشهيرة.
إن العراق بحق في مفترق الطرق، فإمّا أن يتمسّك بعروبته ويعتصم بقوميته، وإلا ذابت شخصيته وانقطع حبل التواصل التاريخي لدوره المشهود، والذين يعرفون العراق والعراقيين يدركون أن ذلك البلد العربي الشقيق سوف ينتصر إلى عروبته في كل الظروف، مهما كانت العقبات والتحديات والمشكلات.