فيما تترنح السلطات في كل من لبنان والعراق، متعثرة خطواتها أمام موجات الاحتجاج الشعبي العارمة، والتي قادت حتى الآن إلى استقالة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، والدفع بحكومة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إلى شفا الانهيار، تتزايد التساؤلات بشأن قدرة النفوذ الإيراني في البلدين على مواجهة التظاهرات المستمرة منذ أسابيع، رافعة شعار "رفض التدخل الخارجي في شؤون بلديهما".
على مدار السنوات الأخيرة، لطالما تباهى القادة الإيرانيون بتمكنهم من السيطرة على صناعة القرار في 4 عواصم عربية، من ضمنها بيروت وبغداد، حيث تمدد نفوذ ذلك البلد بقوة عبر الطوائف الشيعية في أنحاء الشرق الأوسط، إذ شكلت طهران جماعة "حزب الله" بلبنان عام 1982، وتمكنت من بسط نفوذها على العراق منذ إطاحة نظام صدام حسين عام 2003.
وعلى الرغم من استناد كل من النظام الحكومي في العراق ولبنان إلى شعارات وأد أي نزاع طائفي من خلال ضمان مشاركة كافة الأطياف في السلطة، فإن مظاهر تغوّل الجماعات الشيعية شديدة الارتباط بطهران، وقدرات بعضها العسكري مع عدم انضوائه تحت أجهزة الأمن الرسمية، بات يمثل محور النقد من المحتجين، مع تحميل القوى السياسية في البلدين مسؤولية الفساد وتردي حالة الخدمات العامة وإهدار الثروات الوطنية.
حذر وتخوف لدى موالي طهران
تطورت التظاهرات التي يشهدها العراق التي انطلقت منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعد أن خلفت نحو 270 قتيلا، سقط معظمهم برصاص قناصة كانوا يطلقون النار على الحشود من أسطح البنايات، فضلا عن تعاطي قوات الأمن العنيف مع المحتجين، لتزداد الأمور سوءاً في جنوب البلاد معقل الجماعات الشيعية.
وفي أحدث مؤشر على الغضب المتنامي من إيران، التي يعتبرها المحتجون القوة الرئيسة خلف الأحزاب السياسية الشيعية التي هيمنت على السلطة في العراق منذ الغزو الأميركي 2003، سقط خلال الساعات الأخيرة نحو 4 قتلى في ليلة عنف دامية خلال تظاهرات حاشدة أمام القنصلية الإيرانية في كربلاء جنوب البلاد، حيث اتسعت رقعة العصيان المدني الذي يشل حركة الطرقات والمرافق النفطية والإدارات الرسمية.
وبحسب ما نقلت وسائل إعلام محلية، اندلعت ليل الأحد أعمال عنف في كربلاء المقدسة لدى الشيعة، عندما حاول متظاهرون حرق مبنى القنصلية الإيرانية في المدينة، ورفعوا الأعلام العراقية على الجدار الخرساني الذي يحيط بالمبنى القنصلي، وكتبوا عليه "كربلاء حرة حرة. إيران برة برة"، فيما ألقى آخرون أمام أنظار قوات الشرطة الحجارة على المبنى، كما رفع محتجون في مدينة النجف المقدسة لدى الشيعة أيضاً، لافتة مماثلة عند مدخل مبنى مجلس المحافظة.
وتركز غضب المتظاهرين العراقيين الذين يطالبون بـ"إسقاط النظام"، على إيران التي يعتبرونها مهندسة النظام السياسي الذي يعتبرونه فاسداً ويطالبون بإسقاطه، وما أجج غضب المحتجين العراقيين هو الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني للعراق، وتصريحات المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي عن وجود "مخططات من الأعداء لإثارة الفوضى وتقويض الأمن في بعض دول المنطقة".
وعلى الرغم من خروج رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، عن صمته مساء الأحد، مؤكداً أن "العديد من المطالب تم الوفاء بها"، داعياً إلى "العودة إلى الحياة الطبيعية"، لكن المتظاهرين لا يبالون حتى الآن بالوعود بإجراء انتخابات مبكرة وتأمين فرص عمل، التي يقدمها الساسة بهدف وقف الاحتجاجات، وتزايد تمسكهم بساحات الاعتصام في جميع المدن.
وفي لبنان، جاءت المظاهرات في وقت أزمة سياسية يراها كثيرون الأسوأ منذ الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد من عام 1975 إلى 1990. وإن حدث وأطالت استقالة الحريري أمد الشلل السياسي فإن ذلك سيقوض احتمالات تمويلات الدعم المقدمة من حكومات غربية وخليجية.
ورغم إصرار المتظاهرين على إسقاط كل الطبقة السياسية الحاكمة، بشعار "كلن يعني كلن"، تعاطى "حزب الله"، الذي يعتبره اللبنانيون ذراع إيران الطولى في البلد، بشكل أجج المخاوف بشأن السلم الأهلي في البلاد.
ففي البداية، خاطب زعيم جماعة حزب الله، حسن نصر الله، المحتجين مبديا تعاطفه ومرددا لهجة تصالحية. قبل أن تتغير اللهجة متهماً قوى أجنبية بإثارة الفتن. وأقدم موالون لـ"حزب الله"، و"حركة أمل" الشيعية على مهاجمة مخيم احتجاج في بيروت وهدموه. وأعلن الحريري استقالته بعد ذلك بقليل رغم ضغوط "حزب الله"، الذي يعتبره الكثيرون أقوى عنصر فاعل بلبنان، كي لا يذعن رئيس الوزراء لضغط الاحتجاجات.
وفي غياب أي بديل واضح للحريري، يجد "حزب الله"، الواقع تحت عقوبات أميركية، نفسه أمام معضلة. فرغم أن الجماعة لديها مع حلفائها أغلبية برلمانية، يتعذر عليهم تشكيل حكومة بذاتهم لأنهم سيواجهون حينها عزلة دولية، حسبما قال نبيل بو منصف، المعلق بصحيفة "النهار" اللبنانية، قائلاً إنها "ستكون أسرع وصفة للانهيار المالي، إذ سيغلق العالم كله الباب أمامهم".
وبحسب النظام الحاكم في لبنان وفق اتفاق الطائف 1989، يجعل من المستحيل على أي جماعة أو طائفة أن تهيمن بمفردها على مؤسسات الدولة، حيث قسمت السلطة في البلاد على 3 رئاسيات، يكون رئيسها مسيحيا، ورئيس مجلس النواب بها شيعيا، فيما تؤول سلطة رئاسة الحكومة إلى المكون السني.
هل تأثر النفوذ الإيراني؟
وفي الوقت الذي تجمع فيه الأغلبية على الرسالة الواضحة برفض مواطني لبنان والعراق التغول الإيراني في بلديهما والمطالبة برحيله، ما يهدد مصالح طهران في هذين البلدين، يرى آخرون أن سلطة المرشد الأعلى لا تزال قادرة على التلاعب من وراء الكواليس لإحكام المشهد وتقليل حجم خسائرها.
وبحسب ريناد منصور، من مؤسسة "تشاتام هاوس" في لندن، فإن "مجرد رؤية احتشاد بهذا النطاق يجعل الاحتجاجات أشد خطورة في نظر النخبة السياسية". وقال إن الفصائل المدعومة من إيران في الأساس تعتبر الاحتجاجات الشعبية خطرا يتهدد ذلك النظام السياسي.
الرأي نفسه توافق معه علي فائز، مدير برنامج إيران بمجموعة الأزمات، حيث يرى أن نفوذ طهران في العراق "أكبر منه في أي دولة أخرى، لكنها لا تملك السيطرة على ما يجري هناك".
ونقلت "إن بي سي نيوز" الأميركية، عن نيل كويليام، المحلل السياسي في "تشاتام هاوس"، أن الاحتجاجات في العراق ولبنان تمثل مصدر قلق لكل من إيران ووكلائها في هذين البلدين، وإذ يسعى المتظاهرون إلى تغيير ما استقرت عليها الأوضاع التي وسّعت من نفوذ طهران خلال السنوات الأخيرة "تعتبر التظاهرات تهديدا حقيقيا ضد المصالح الإيرانية في لبنان، والعراق، لأن المظاهرات وطنية في صميمها، لذلك تمثل تحديا للسلطة السياسية المدعومة من إيران".
ووفق كويليان، فإن إيران ستخسر الكثير إذا أُطيح حلفاؤها من السلطة، سواء رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، أو "حزب الله" في لبنان.
بدروه، اعتبر الباحث بمعهد "ساينسس بو" بباريس، كليمنت تيرمه، أن تدخل إيران قد غذّى غضب المتظاهرين، بخاصة في العراق، حيث "يكره العراقيون حقيقة أن إيران يمكنها التدخل في شؤونهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن زاوية أخرى، اعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، أن احتجاجات العراق ولبنان قد تحقق ما لم يستطع "أقصى ضغط" للرئيس الأميركي دونالد ترمب إنجازه للحد من نفوذ إيران خارج حدودها، منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في مايو (أيار) 2018.
ووفق "واشنطن بوست"، فإن العقوبات الأميركية على طهران لم تتمكن إلى الآن من لجم دعم إيران للميليشيات الموالية في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان، لكن الاحتجاجات في البلدين الأخيرين قد تنجح في ذلك، معتبرة أن الاحتجاجات أبرزت حقيقة جديدة لإيران ووكلائها، مفادها أنه "بغضّ النظر عن سياسة النظام الإيراني الثورية المزعومة، تحولت طهران إلى قوة معادية للثورة في المنطقة".
في المقابل، يرى البعض أنه رغم الاحتجاجات الصاخبة ضد الطبقة السياسية التي يوالي بعضها طهران في لبنان والعراق، إلا أن النفوذ الإيراني تعزز في البلدين. ونقلت وكالة "أ.ف.ب."، عن الخبير في الشؤون العراقية، مايكل نايتس، قوله إن "إيران بالتأكيد الآن في ذروة نفوذها"، مع مواصلة بغداد اعتمادها على المستشارين الإيرانيين الذين أداروا الحرب ضد تنظيم "داعش"، مضيفاً أن ذلك لا يعني فقدان طهران لبعض من شعبيتها، في بلد يدعو فيه جزء كبير من المتظاهرين المرشد الإيراني إلى "الاهتمام ببلاده" بدلاً من "الثورة" التي تعتبرها إيران "مؤامرة" من الأميركيين والإسرائيليين.
ويوضح نايتس أن "إيران تمكنت من فرض سيطرة يومية فعالة على السلطة التنفيذية العراقية في الأمور التي تهمها". لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أنها "رغم خطر خسارة كل شيء، فهي مستعدة أيضاً لفعل أي شيء للدفاع" عن إنجازاتها، وفي هذا الهجوم المضاد "تفضح نفسها وتكشف حلفاءها وتثير غضباً أكبر".
وعلى غرار العراق، تأتي الجماعات الموالية في لبنان لطهران، التي يعتبرها البعض أنها لم تخسر نفوذها بعد. ويقول الخبير في الحركات الإسلامية قاسم قصير، إن "هناك من يصور أن استقالة حكومة الحريري خسارة لحزب الله. هي خسارات إعلامية ومعنوية وليست واقعية، وذلك لا يؤثر على قوة الحزب".
وبين غالبية تؤكد اهتزاز النفوذ الإيراني في البلدين وتأثيره السلبي على صورتها في أقل تقدير جراء الاحتجاجات العارمة، ورأي البعض في التمهل في إطلاق الأحكام، يشير آخرون إلى أن ما تشهده الساحتان اللبنانية والعراقية، أيا كانت نتائجه النهائية، فإنه يحمل رسالة واضحة ضد "الطموح الإيراني وحساباته التوسعية في المنطقة".