يستعير نبيل الملحم من همنغواي عتبةً لروايته الجديدة "إنجيل زهرة" هي: "للقارئ أن يعتبر هذا الكتاب رواية". وفي المدونة الروائية، لم يأت تجنيس الروائي مرة لروايته بالكتاب، إلا وكان يعني أنها رواية، مثل كتاب "النخاس" لصلاح الدين بوجاه، أو كتاب "التجليات" لجمال الغيطاني، أو كتاب "الأمير" لواسيني الأعرج. بل إن هذا التوحيد بين الرواية والكتاب بدأه فرنسيس المراش في روايته "غابة الحق" (1865) ومن بعد ميخائيل الصقال في روايته "لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر" (1907). ومهما يكن من أمر، أراني أسرع إلى التوكيد على أن "إنجيل زهرة" هي رواية بامتياز، وذات خصوصية حريفة أولاذعة، سواء بين روايات صاحبها أم في المشهد الروائي العربي المحموم، مما يتجلى، ابتداءً، بلغتها التي جاءت متوترة بدرجة كبرى أو أكبر، لكأن حمولتها الروحية والنفسية والحدثية لا تفتأ تتفجر.
أما القاموس فتتدافع فيه المفردات التي ضيّق عليها التحريم ، فأخذ حضورها يندر في الكتابة، خضوعاً للرقيب الاجتماعي والرقيب الدولتي، وإذا بلغتنا الأدبية مؤدبة جداً. وقد لحظ الجاحظ في رسالة "مفاخرة الجواري والغلمان" أن بعض من يظهر النسك والتقشف، إذا ذُكر أمامه اسم عضو جنسي، "تقزز وانقبض، وأكثر من نجده كذلك فإنما هو رجل ليس له من المعرفة والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا التصنّع".
ليست لغة يوسف الراوي أو لغة الجزائري من شخصياتها، وحدها ما ينادي هنري ميلر إلى هذه الرواية، بل العلاقات الجنسية فيها، وبخاصة علاقات الراوي وزهرة، فهل كان ذلك ما بدّل عنوان الرواية أثناء بحثها عن ناشر من "نساء نبيل لحم" إلى "إنجيل زهرة"؟. وعلى أية حال، ليس ذلك وحده ما يجعل للرواية خصوصية حريفة أو لاذعة. ولعل ما يلي أن يعلل ذلك، ابتداءً بما رسمت الرواية من الزلزال السوري (2011)، وهو ما تدعوه منذ البداية بالحرب الفتاكة التي يظهر فيها فجر العاصمة (دمشق) مطوقاً بالخوف والحراسات والصمت، كما تظهر الشوارع خالية والنوافذ كئيبة ومغلقة مثل سيارات نقل الموتى، أو مثل مدينة مهجورة.
زوال وطن
يلاقي الراوي يوسف الحرب بالعجز الشخصي وموت الأصدقاء ونزيف الأسئلة، وهو من يظن أنه لا يمتلك أياً من أسباب الشجاعة للعيش في "وطن على طريق الزوال". وقد صنع يوسف من مزق شراشف بيته كمامات تبعد شبح الأسلحة الكيماوية. وفي يقينه أنّ الحرب لن تتوقف باعتبار التعبئة المالية والعقائدية والسيكولوجية. ومع سلمى التي يروي لها يوسف الرواية وهي مصغية، يلعن الموت الذي أحاط بهما وهما اللذان يعلمان أن الحرب تدمر المدن وتحرقها، وأن ما تبقى من الوقت للبلاد (سورية) هو لاستكمال الدمار.
بعد يومين من اقتحام الفصائل الأصولية للمدينة، قادمة من سوارها في جوبر والقابون، يهيب يوسف بالمسيحيين في حي التجارة وحي العباسيّين أن يستعدوا للرحيل. وبالسخرية اللاذعة يرصد أصوات المطربين التي تعلو بالصراخ "مبشرين بانتصارات الوطن وحياة قائده"، على الرغم من وقوع نصف مليون قتيل، وملايين المهجرين. ويرصد يوسف اختفاء مومسات شارع بغداد بعد الحرب، وحلول مشردي الحرب محل المومسات ومن يشغّلهن في أقدم ساحات دمشق: المرجة. وفي تقدير يوسف أن البلاد قد انقسمت إلى خنادق لصراع الرموز الذين لا يحيون إلا بقتل بعضهم. أما السوريون فقد تحولوا إلى حال النكران لأنهم لم يُنتشلوا من جحيم الحرب، وإلى مستسلمين لأنهم يُمتحنون في مواقد جحيم الحرب، وإلى ثالث (لا أدريّ) هو يوسف الذي يتنبأ بمضيّ البلاد إلى الهاوية، فقد وقع ما كان يراه ويتخيله. وها هم الشباب يسألون: "كيف لنا أن نتخطى جحيم الطاغية؟" فيما هم يغرقون، والبلاد ماضية في تحولاتها الصارخة "بعد نصف قرن من وطأة الطغيان".
ينفي يوسف أن يكون من الذين شقوا طريقهم إلى أي من أرصفة المقتتلين. وعن هذه الحرب العابثة، وضحاياها من الجنود الجوعى والمدنيين المصابين بفقر الدم وفقد الأمل، يتساءل: علام تتدمر هذه المدن؟ علام ارتفعت كل تلك الرايات التي حملها متظاهرون، ما إن اهتزت راياتهم حتى رموها، واستبدلوها برايات أخرى؟
يروي يوسف لسلمى كل ما تقدم، وكل ما تبقى من الرواية، على وقع أصوات القذائف من وإلى الغوطة الشرقية، بالأحرى على إيقاع الحرب، وهذا ما تراه سلمى غريباً، وهي التي تصف يوسف بأنه رجل الخيال الطائر، فيتساءل: الطائر أم القاتل؟ فتوالي رسمه كما يرسم نفسه: الروائي المتلحف بذاكرته؟ المهووس بتفكيك الأسرار، المريض بالخيال، الكائن السام، المبدع الذي لا يؤمن إلا بنفسه، المصنوع من شياطينه، رجل النشوة المنحرفة، الرجل الذي لا يمنح، المؤمن بنفسه حتى كاد أن يوقع أوتوغرافات المعجبين والمعجبات. وهذا الذي تجاوز الستين، ولا يشغله إلا اللعب، ولا يحمل مبادئ صارمة، هذا الذي يخبر سلمى في البداية أنه قتل زوجته حين علم أنها حامل، هو أيضاً المتنكر المرموق المنسي، قتيل الذاكرة الذي يموت على الدوام، ويغرق في أحلامه وكوابيسه، وأولاً وأخيراً هو: الحكاء.
قبل قدوم سلمى كان الحكاء عازماً على أن يحكي ويحكي. وتنهض الرواية بحكيه وبدور المتلقي السلبي الذي لسلمى، إلا أن تكون عباراتها النزرة صدى لحكي يوسف وتحفيزاً عليه. ولا ينقض ذلك أن تناشده، إذ يعلن أن الهذيان بات خلاصه، أن يتوقف عن هذياناته. فسلمى تناشده منذ البداية أن يخبرها بالوقائع كما هي: "حررْ صوتك، سيكون ذلك كافياً بالنسبة لي". ولسوف يتساءل عن سر سلمى التي تستمتع بإصغاء جارف "لحكايا مباذلي". وعندما يحكي لها حكاية زهرة وبلسم ينتبه إلى أنه كان عليه أن يتوقف عن "الثرثرة" معها ومع نفسه، ويمتدح موهبتها في الإصغاء. وسوف يمتدحها أيضاً لأنها لم تحك له إلا أن لها بنتاً وحيدة تاهت. لكن السؤال هنا ينبق عما إن كان قد ترك للمسكينة فرصة للكلام، وهو من كان يبحث عمن يسمعه فقط. ويعي يوسف أن هذه مشكلة متأصلة فيه "أنا رجل يحكي ولا يملّ الكلام، وطالما اعتقد أن الكلام حق حصري به"، والكلام هو دورته الدموية. وقد كانت زهرة تنصت إليه بولهٍ، مثل سلمى التي تعي دورها كإسفنجة تمتص وجعه، بينما يراها هو أنثى عناكبه: "أقتلك لأحيا".
أسئلة بلا اجوبة
هل قتل يوسف زهرة؟ أم أمها سلمى؟ أم مي التي تزوجها في القاهرة، أم إن كل ذلك هو مما يدعوه "هستريائي البصرية" و"هلوساتي"؟ هل كانت لحظة التحول الكبرى هي بداية تخطيط هذا الغارق في ذاته حتى الموت، لقتل زهرة؟ تلك الأسئلة ومثلها كثير تظل ناشبة، بينما يحكي يوسف لسلمى عنه، مشبهاً نفسه كما لو أنه يعيد فتح براد الجثث في تاريخه، ومتسائلاً عما تأخذه إليه تداعياته.
يعتقد يوسف أن كتابة السيرة تعني الإقرار بأن الحياة انتهت. لكن رواية "إنجيل زهرة" هي سيرته في برازخ حياته السورية والمصرية والعراقية واللبنانية. وفي رأس ذلك هي زهرة التي لم تبق له من الحب ما يدخره لسواها. إنها الغائب الحاضر التي تعلن أن يوسف منحها "الخيال القاتل"، بينما هو لائب بين أن يقتلها أو يقتل الرجال الذين تنبعث روائحهم من فمها. ويوسف يناشد سلمى التي تردد نعت ابنتها زهرة بالقاتلة، أن تنزع أشواك زهرة منه. أما سلمى التي تلبست بإصغائها لبوس شهريار المصغي لحكايات شهرزاد / يوسف، فتناوله كتاباً كتب على غلافه بماء الذهب (الكتاب المقدس). لكن ورقه أبيض، لذلك تخاطبه سلمى: "اكتب إنجيلك أنت. اكتب: هنا ترقد زهرة"، فمن هي هذه التي حولت نفسها، بملء إرادتها، إلى حائط يرسم عليه ما يشاء؟ أهي الرواية التي لا تفتأ حكاياتها تتناسل، أم سلمى التي تسأل يوسف: "ما دمت لست فخوراً بماضيك، لِمَ تستحضره على هذا النحو إذن؟" فيقسم لها أن ذاكرته تنزف دماً.
من ذلك النزيف كانت المسرحيات التي أداها يوسف عندما كان ممثلاً مسرحياً، ومنها اللقاء الأول بمن سحرته (زهرة) في أحد العروض، ومعانقتها له في آخر عرض، وهتفتها: "أنت الحلم". وإذا كان الحاضر مع سلمى هو بيته المليء بالصراصير، والذي سيحيله – بحسب سلمى- إلى صرصار، وإذا كان عليه أن يتقيأ الصراصير المختبئة في رأسه، فما ذلك إلا الماضي/ الحكايات التي تتناسل ملء الرواية. وعبر ذلك تتسامق الشخصيات، كالعهد بإبداع نبيل ملحم لشخصيات رواياته، فهذه بلسم القادمة من قرية ساحلية، والتي تتعامل مع الأمن فتجمع حولها الشباب ليصطادهم، تقود زهرة إلى عماء مستدام، ولسوف تحمل بلسم وزوجها زهرة إلى قذارتهما، فتتحول بعد تجربة بيروت إلى مثلية، وقد تكثف انسياقها للتجربة الإنسانية في استكشاف الجنس. وهذه شخصية المومس العراقية بندر التي تنتحر فيصب ابنها عليها لعنته. وتلك حكاية الإخوان المسلمين في الجامعة في القاهرة في السبعينات، عبر شخصيات سورية ومصرية... إلى أن تأتي الخاتمة المزلزلة لشخصية الراوي، حين تعلن رسائل سلمى إليه أن زهرة لم تمت، وأنه هو قتيل العزلة بين زمنه وزمن زهرة التي لن تتذكره، وأنه هو "زمن لا بد أن يغرب". وفي رسالتها الأخيرة تدعوه إلى أن يعيد خلق زهرة: "اكتب إنجيل زهرة" فيختم جلجلته طوال الرواية بأنه قد فعل.