في صغري، كان جدّي يملأ الإبريق في الصّباح ويغليه ثم يُقطّر محتواه في قارورة؛ وهذا يعني بصريح العبارة أنّه كان يغلي الإبريق مرّة واحدةً في اليوم حتى يُوفّر الكهرباء، والأهم من ذلك، المال. في طفولتي، كنتُ أتعجّب من العادات والسّلوكيات العديدة التي كانت تُهيمن على حياة أجداجي، وعلى حياة أهلي من بعدهم. وبما أنّني ولدتُ في بريطانيا أواخر ثمانينيات القرن الماضي ولم أعش فترة الحرب بثقلها ومرّها – ولا فترة ما بعد الحرب حتى – واجهتُ صعوبةً كبيرة في فهم هذه الخصوصيات وظللتُ لفترةٍ طويلة اعتبرُها جزءاً من شخصيّاتهم، بدلاً من بصمات لا تُمحى من زمنٍ ولّى واندثر.
وكانت جدّتي تجمع الفاكهة المتساقطة من الأشجار المثمرة في الحديقة وتُحوّلها – دون كلل - إلى مربيات تكفي فصل الشّتاء بطوله. وفي كلّ مرة كان يتعطّل شيءٌ ما في المنزل، كان جدّي الذي يتمتّع بمهارات يدويّة عالية يُحاول إيجاد طريقة لإصلاحه؛ بمعنى أنّه إما كان يُصلح العطل بنفسه أو يطلب من أحد أصحاب الكفاءة إصلاحه. كثيراً ما أتذكّر بحزن أنّه بغض النّظر عن فترة زيارتنا لمنزل العائلة، كانت جدتي – وجدّي بعد وفاتها – تقوم كلّ يوم أحد بطهو التّفاح على نارٍ هادئة لإعداد فطور الأسبوع التالي بأكمله. وهذا هو سبب ولعي الكبير إلى الآن بالتفاح المطهو.
وبالنّسبة إلى والديّ، فقد جمعا بين عقليّة ما بعد الحرب القائمة على مبدأ "لا تهدر ما لا تريد" والنّزعة الاستهلاكية الجماهيريّة والليبرالية الجديدة التي بسطت سيطرتها على الغرب أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وهذا يعني بعبارةٍ أخرى أنّ ازدهار الموارد وارتفاع المداخيل الفرديّة لم يمنع والديّ من تفادي هدر كلّ ما يندرج ضمن قائمة "السّلع الهالكة". لطالما كانت أمي تحيك الملابس وتُرقّعها. ولطالما كان في حديقة منزلنا رقعة نباتات صحية تُغذّيها كومة سماد. ولطالما حرص والديّ على بذل جهودٍ جبارة لتصليح أيّ غرض معطّل أو مكسور قبل التفكير بشراء بديلٍ له.
لكن مع مرور الزّمن، تغيّرت سلوكيّات عائلتنا مثلما تغيّرت سلوكيات أغلب العائلات. وبفضل "أمازون"، بتنا قادرين على استبدال الأغراض التّالفة بأخرى جديدة ذات كلفة متدنيّة. ومع انتشار العلامات التّجارية في الموضة السّريعة، انتفت حاجتنا إلى إصلاح قطع الملابس الممزّقة. ومع تدنّي أسعار تذاكر الطّيران، وجدنا أنفسنا نتهافت على شراء المزيد منها والسّفر إلى مختلف أصقاع الأرض. في أيامنا هذه، أمسى تصليح السّيارة أكثر كلفة من شراء سيارة جديدة (حتى بالنّسبة إلى عائلة أفرادها مهندسين)، وأمست الرّحلات في سيارات الأجرة أقلّ كلفةً وأيسر منالاً من الرّحلات الجماعيّة في الباصات؛ وهذه كلّها مظاهر رفاهية وكماليات، سرعان ما اعتدنا عليها فغيّرت توقعاتنا وبدّلت أسقف رغباتنا.
وعلى امتداد الأعوام القليلة الماضية، أحرزت النّقاشات العالمية بشأن حالة الطّوارئ المناخيّة ودور البشرية في الحدّ منها، بعض التقدّم. فبدأ النّاس يعون مسؤولياتهم كمستهلكين أفراد وبدأت العلامات التجارية تتكاثر من أجل تلبية حاجات السّوق الجديد لـ"المنتجات المستدامة". ويكاد لا يمرّ أسبوع واحد من دون "قائمة نصائح" جديدة أو مقالة "إرشادية" جديدة أو أفكار جديدة لكيفية العيش بصورة أكثر استدامة. وفي الإجمال، ترتكز هذه النصائح على مبدأ تشجيع إعادة الاستعمال والابتعاد عن ثقافة النفايات: خفّفوا مشترياتكم وأصلحوا أشياءكم، سافروا بوعيٍ أكبر وأنتجوا نفايات أقلّ، خفّضوا معدل استهلاككم لللحوم وازرعوا طعامكم بأنفسكم، أصلحوا ملابسكم وامضوا عطلاتكم في أماكن قريبة من منازلكم – هذه هي بالمختصر المفيد، التّغيّرات السّلوكية التي يُعدّدها الخبراء عند سؤالهم عن كيفية تقليص الأفراد تأثيرهم السّلبي على البيئة.
لكن هل أيّ من هذه النّصائح "مستحدث ومبتكر" حقاً؟ جرّبوا أن تُخبروا شخصاً تجاوز سنّ الخمسين أنّكم بصدد تعلّم "المفهوم (الجديد) الملائم للبيئة" القائم على تقليل النفايات والاستهلاك، وسترون امتعاضه وإندهاشه على بعد أمتار. الأرجح أنّ هوسنا بـ"الحداثة" هو الذي حضّنا على اعتبار هذه الأفكار دليل إبداع وابتكار، بدلاً من الاعتراف بحقيقة كونها عادات قديمة مُعاد تدويرها.
وخلال الأعوام القليلة الماضية أيضاً، تبدّلت اللغة وطريقة الكلام وبتنا نتحدّث عن "أزمة مناخية" بدلاً من "تغيّر مناخي" – للتعبير عن التّوافق العام حول جسامة المشكلة ونطاق الأزمة التي تتصدّى لها البشرية جمعاء. والحقيقة أنّ أعضاء البرلمان في ويستمنستر وافقوا في مايو (أيار) على إعلان حالة الطّوارئ المناخية. وجاء هذا الإعلان بمثابة إنجازٍ مهم بالنسبة إلى دعاة حماية البيئة والناشطين في حركة "تمرّد ضدّ الإنقراض" الذين كانوا ضمّنوا هذا الإعلان في لائحة مطالبهم إلى الحكومة عقب سلسلة من الاحتجاجات المُعطّلة، مع أنّه لا يعني فعلياً الكثير على المستوى العملي.
وعقب إعلان حالة الطّوارئ، ذاع في سبتمبر (أيلول) خبر إقدام مئات المشكّكين في قضايا المناخ، بمن فيهم مجموعة أشخاص على ارتباطٍ وثيقٍ بحكومة بوريس جونسون، على شنّ حملة منظّمة لإلغاء القيود البيئيّة بعد بريكست. وإذ سيكون عدم اليقين السّياسي سيّد الموقف في بريطانيا خلال الأيام أو الأسابيع أو السّنوات القليلة المقبلة، من المستبعد الوصول إلى توافق أو الاستمرار في السّياسات البيئية القائمة.
ويُمكن للمخاطر أن تكون أعلى من ذلك. فطبقاً لأحدث الحسابات الصّادرة عن مونيكا دو بول، خبيرة الاقتصاد المتخصصة في شؤون أميركا اللاتينية، العالم اليوم يُخالف التوقعات ويقترب من نقطةٍ بيئية حرجة في غابة الأمازون المطرية (إذ لا عودة عن الأضرار المناخية التي لحقت بها). والحقيقة أنّ دو بول تتوقّع وصولنا إلى هذه النّقطة التّاريخية بحلول العام 2021 كحدٍّ أقصى، فيما يرى الدّكتور تيم تايلور، خبير الاقتصاد البيئي في "جامعة إكزتر" والمدير المشارك في الأبحاث الصّحية والبيئية الخاصة بمشروع "إينوفايشن" (InnovaTion) أننا "نتصدّى اليوم لعالمٍ قد يرتفع مستوى زيادة الحرارة فيه عتبة الـ1.5 درجة مئوية. وإذا استمرينا في مضاعفة الضغوطات عليه، فسنحكم على أجيال المستقبل بمواجهة تحديات غير مسبوقة".
وأين يتركنا هذا إذن؟ وفق الدّكتور تايلور، هذا يتركنا في "حالة طوارئ" لا بدّ أن نستغلّها "لنُغيّر عاداتنا بشتى الطّرق والوسائل" و"لنمنح المجتمع عموماً والشركات خصوصاً مكاسب محتملة". يقول تايلور هذا الكلام لافتاً النّظر إلى "المكاسب الثلاثية" التي يُمكن أن تتمخّض عن المبادرات الرّامية إلى تطوير الأهداف المناخية، مع ما ينجم عن ذلك من تداعيات بالغة على الصّحة العامة والعدالة الصحية التي تندرج في قائمة أولوياته.
لكنّ حجم المهمة الملقاة على عاتق الأفراد أكثر من مهولة، ويُمكن أن تُشعر البعض بالضّغط العارم أو "العجز"، على حدّ تعبير الدّكتور تايلور. "في لحظة من اللحظات، سيتهيّا لنا أننا نبذل الكثير مقابل القليل وأنّ جهودنا الجبارة مجرّد قطرة صغيرة في محيط. لكن متى وصل الأمر إلى هذا الحدّ، سوف يكون علينا التغيير في مختلف الاتجاهات: من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى. نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى حكومات تأخذ على عاتقها تغيير السياسات، وإلى أفراد وشركات كبرى تُهذّب السلوكيات السائدة".
يُمكننا أن نتعلّم من أجدادنا الكثير عن نمط العيش المستدام، يقول الدّكتور تايلور، "فتقليص استخدامنا للطاقة وخفض استهلاكنا لللحوم وزيادة معدل زراعتنا واستهلاكنا للمنتجات الطازجة، كلّها عادات قديمة لكن غير بالية، بمعنى أنّها فعالة وقد تؤثّر إيجاباً على صحتنا والبيئة".
ولمّا طرحتُ السّؤال على والدتي ستيفاني، وجدتُ نفسي في نقاشٍ محتدم مع صديقاتها عبر "واتساب" حول العادات والسّلوكيات التي كان يلجأ إليها أهاليهنّ لتوفير المال والتي باتت اليوم في عداد "الحيل الحياتية" التي تستقطب اهتمام كلّ مَن يرغب في خفض تأثيراته السلبية على البيئة. "كانت جدتك تخيط لنا ملابسنا؛ وأنا كذلك، خطتُ لكم ملابسكم"، تُخبرني ستيفاني مستذكرةً أمها التي لم تتوانَ عن "إضافة بعض الصوف إلى كنزاتي الصغيرة لتصنع لي واحدة أكبر".
وعلمتُ من أبي روجر أنّ والديه كانا يرتقان الجوارب وأنّ أعمال الإسكافيّين كانت في أوجّها وأنّ التسوّق المسؤول كان العنوان العريض لتلك الحقبة: "لو تسنّت لنا فرصة شراء حلل جديدة، فإنّها ما كانت لتكون إلا ملبوسة أو مستعملة". وعلمتُ من ستيلا بارتون أنّ خزانة الملابس المحدودة كانت أمراً شائعاً جداً: "فإلى جانب الزّي المدرسيّ، لم يكن لديّ كمراهقة سوى ثلاثة أثواب. وغالباً ما كانت تتمزّق هذه الأثواب قبل أن تضيق عليّ".
وعن هذه النّقطة بالذات، أخبرتني ليكسي غويير أنّ والدتها اعتادت التفكير بشكلٍ استباقي في ما يتعلّق بملابسها وملابس أشقائها قائلةً: "إبان العام الدّراسي الأول، اشترت لي أمي تنورة المدرسة بمقاسٍ كبير بما يكفي لأستمرّ في ارتدائها حتى مرحلة الثانوية العامة. في العام الأول، لم أكن أتعدّى الـ142 سنتم، وفي سنّ الخامسة عشر وصل طولي إلى حوالى 165 سنتم". في القدم، "لم يكن الناس مهووسون إلى هذا الحدّ بالنظافة"، تقول سو غارنر، "لذا كنا نغسل ملابسنا بمعدل أقلّ".
وكان تصليح الأشياء المعطّلة والمكسورة من القواعد المتّبعة والمتعارف عليها كذلك: "في منزلنا كما في منزل العديد من رفاقي، قلّما كانت طاولة المطبخ تخلو من جهازٍ كهربائي مفكك ومكواة لحام. وكثيراً ما كانت السيارات تُركن أمام المنازل بأغطية مفتوحة لتصليحها"، تروي غويير. "ولمّا كان يتمزّق دبدوبي، كانت جدتي تحيك له ملابس جديدة، علماً بوجود مستشفى للدمى في البلدة متخصّص في إصلاح الدمى المكسورة"، على حدّ تعبير غويير. هذا في الماضي البعيد، لكن في وقتنا الحاضر يُمكن القول إنّ النّظام التّعليمي الرّسمي قد تخلّى عن المهارات "العمليّة" لحساب المهارات الأكثر اتّصالاً بالعالم المعاصر (كالذّكاء الصّناعي الذي يحلّ محلّ وظائف عدة): العلوم والرياضيات والإنكليزية والمعلوماتية.
وفي الأمس أيضاً، كان العزوف عن التدفئة المركزية أو انعدام فرص الحصول عليها تجربة مشتركة لها عاداتها الخاصة. "كنّا نُغلقُ الباب وراءنا كي نُحافظ على حرارة الغرفة؛ ولمّا كنّا نشعر بالبرد داخل البيت، لم نكن نُلوّث بيئتنا، بل كنّا نضع أغطية إضافية أو نستخدم قوارير ماء ساخنة"، تقول لي أمّي. وبطبيعة الحال، "كنا نُطفئ الأنوار قبل مغادرة أي غرفة"، تؤردف غارنر.
على المستوى اليومي، كان هناك عدد قليل من النّفايات. "كنّا نستخدم مناديل الأقمشة بدلاً من المحارم أحادية الاستعمال"، تروي أمي، "أتذكر جيداً جدتك وهي تغسل الأكياس البلاستيكية لتعود وتستخدمها من جديد"، مع العلم أننا "كنّا نستخدم الأكياس الورقية لكلّ شيء. وفي غيابها، كنّا نستخدم إما الخوص أو الرّوطان"، تشرح غارنر، لافتةً إلى أنّ "منتجات تلك الأيام لم تكن موضّبة بشكلٍ متفاخر".
"لم يكن لدينا أيّ نوع من أنواع البلاستيك الغذائي، كنّا ببساطة نُغطّي الطعام بطبق"، تقول أمي مستذكرة.
والطعام بحدّ ذاته موضوع كبير، ولمّا تطرقتُ إليه عبر حسابي على مواقع التواصل الاجتماعي، فاجأتني المحررة جيس كومونز من لندن بأنّ جدّتها "لا تزال حتى يومنا تعمل بالقاعدة القائلة بإمكانية استخدام كيس الشاي نفسه سبع مرات".
"في الماضي، كانت أكوام السّماد أمراً شائعاً جداً في الحدائق الخلفية للمنازل"، تُوضح غويير، "وكان الناس بأعدادٍ كبيرة يزرعون طعامهم بأنفسهم. وإن كنتُ غير قادرة على الوصول إلى أمي الآن، فالأرجح لأنّها في الحديقة تعتني بخضراواتها وزرعها".
"كنّا نذهب بانتظام لقطاف الفاكهة"، يروي أبي. وبالطّبع، كان الحليب في تلك الفترة يُوزّع على النّاس بقوارير زجاجية؛ ويبدو أنّ هذا التوجّه في طريق العودة إلى الواجهة.
و"إبان كلّ يوم أحد، كنّا نُشعل الفرن لنطهو طعام الأسبوع"، تقول أمي، "إذ كنا نحرص على عدم استخدامه أكثر من مرة واحدة. كنّا نضع فيه اليخنات وقوالب الحلوى واللحوم. وبالنّسبة إلى اللحوم، فكنّا نتوخّى الاستفادة من كلّ جزء من الحيوان، بما فيها الأجزاء البخسة على غرار، ساق البقرة ورقبة الحمل وصدره وخصر الخنزير والكبد والكلى وسواها من الأعضاء الدّاخلية"،
وتعقيباً على كلام أمّي، تؤكّد غارنر إننا "لم نكن نرمي الطعام أبداً. كنّا نستهلك كلّ شيء؛ فالهدر بنظر الناس حينها أمرٌ فظيع، هم الذين اعتادوا الاكتفاء بالقليل خلال الحرب". كانوا خلّاقين في طهو الفضلات وحريصين على تناول كل قضمة طعام – والفارق واضح وصريح بين الأقدمين والحاضرين الذين لم يتوانوا الأسبوع الفائت عن التخلّص من 8 ملايين ثمرة يقطين في المملكة المتحدة وحدها، وفق ما أكّدته أبحاث "مؤسسة هبوب" (Hubbub Foundation) وتقديرات شركة "كنور" (Knorr).
ومن ثم هناك المواصلات. "كنّا نذهب إلى المدرسة سيراً على الأقدام. وحتى ولو كان لدى أهل الواحد منّا سيارة، فإنه ما كان ليستعملها إلا عند الضرورة"، حسب قول أمّي، "كانت جدتك تتسوّق مشياً ولا تشترِ سوى ما يمكنها أن تحمله".
"ولو تسنّت لأحدنا فرصة الذهاب بعطلة، فالأرجح أن يقضيها بالقرب من المنزل، تُعقّب غارنر. "وحتى لو هطلت عليه الأمطار، سيظل يستمتع بوقته"، تذكر أمّي. الواضح أنّ ثقافاتنا وتوقعاتنا في ما يتعلّق بالسفر قد تغيرت كثيراً منذ تلك الأيام، لاسيما مع ظهور شركات الطيران منخفضة التكاليف وشيوع فكرة انتقال الناس للعيش في بلدان ومناطق مختلفة عن البلدان والمناطق التي وُلدوا فيها. والحلّ ربما بإضفاء أجواء المتعة والمرح على العطلات المحلية لتعود وتستقطب اهتمام جيل الحاضر.
والجدير ذكره هنا أنّ ما كلّ التّغيرات التي طرأت على العادات والسّلوكيات العامة منذ الأيام الخوالي وحتى اليوم سلبيّة. فـ"في الأمس، كان من الشّائع حرق النفايات عند أطراف الحديقة الخلفية للمنزل وكانت الغيوم السوداء في الهواء مشهداً مألوفاً، إلى جانب الدّخان المتصاعد من المصانع العاملة على الوقود الأحفوري"، تروي غويير. أما اليوم، فأوضاع الصحة الغذائية أفضل بكثير بفضل التطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه على مستوى تغليف الطعام بشكل خاص وما نتج عنه من "فوائد صحية عامة"، يؤكّد الدّكتور تايلور. وصحيح أنّ المركبات على أنواعها تُستخدم بوتيرة أكبر من السابق، لكنّ خضوعها للتحسينات المستمرّة زاد فعاليتها وقلّل إنتاجها للإنبعاثات الكربونية التي يجري العمل من دون توقّف على تصفيرها.
لا أحد يُطالب بعودة أحادية إلى الماضي؛ فمسيرة التقدّم الثابتة نجحت في منح المرأة حقوقها، كما جماعات الميم والأقليات الإتنية والسوداء والآسيوية ومجموعات مهمّشة أخرى لم يكن لها وجود حينها قديماً. ومكاسب الفعالية التي تمخّضت عن التطورات التكنولوجية، ارتقت بمعيشة عدد كبير من الناس وبقدرتهم على فهم جسم الإنسان وكيفية العناية به، ما رفع الأجل المتوقع للحياة من بين أمور أخرى. لكنّ احتكامنا إلى الماضي بحثاً عن أفكار نيّرة تُفعّل نمط العيش المستدام يُثير البلبلة ويطرح الكثير من التّساؤلات على نحو ما فعل قرار الرّئيس التّشيلي، سيباستيان بينيرا، سحب بلاده من استضافة مؤتمر الأمم المتحدة السنوي للتغير المناخي. فهذا القرار الصّادم هو خير دليل على سرعة تحوّل حالة الطّوارئ المناخيّة من طليعة الأولويات إلى أدناها لصالح السّياسات الدّاخلية. "بصرف النّظر عما نفعله، سيظل هناك أثمان تدفعها أجيال المستقبل"، يُشدّد تايلور، "فالتكيّف غير قادر على تقليل كل الأضرار القائمة إلى الآن، لكنّه قادر على الحؤول دون تفاقمها؛ ولهذا السّبب علينا أن نتحرّك اليوم قبل الغد".
لكن في غياب قيادات فعليّة على المستوى السّياسي، يكتسي دور الأفراد أهميةً متزايدة في التأثير على التغيير ضمن اقتصادٍ يُحرّكه الطّلب. لغاية الآن، فشلت التوجهات الدّاعية إلى المعيشة المستدامة في أن تكون شاملة. لذا ينبغي تغييرها بشكل يُروّج للمكاسب الفردية التي يُمكن أن تتأتى عن اقتصادٍ دائري. وفي مواجهة مثل هذه التهديدات المباشرة للحياة البشرية والحيوانية والتنوّع الحيوي – لمَ نستمرّ في تضييع وقتنا في ابتكار طرق جديدة بوجود طرق قديمة يُمكن نبشها وإعادة تدويرها؟
© The Independent