كنت وعدت في مقالي السابق، بشرح كيف أصبح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه "حصان طروادة" إيران في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
وأعتقد أن مقالي هذا سيقدِّم وجهة نظر مختلفة لمَن يحللون أزمات الشرق الأوسط، في المحور التركي. وقبل الدخول في تفاصيل الموضوع، أودّ أن أعود بالذاكرة مع قرائي الأعزاء إلى خلفية تاريخية لهذه الظاهرة، يتغاضى عنها كثر من متابعي السياسة الخارجية التركية التي يتبناها أردوغان وفريق عمله.
كانت تركيا في ظل حكم "حزب العدالة والتنمية" بين أعوام 2003-2013 تتبنى سياسة ليبرالية وتحاول أن تنتهج معايير الاتحاد الأوروبي، وقطعت بفضل ذلك شوطاً كبيراً في مسيرتها الديمقراطية.
ولكن في الفترة الممتدة بين 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) 2013 فوجئ الرأي العام ببدء القضاء التركي بكشف عمليات فساد ورشوة في البلاد ضد شخصيات بارزة في حزب العدالة والتنمية، فغَيَّرت تلك المسيرة إلى جهة لا تحمد عقباها.
إذاً، ماذا حدث في هذه المرحلة المفصلية؟ لنلق نظرة موجزة:
في صباح يوم 17 ديسمبر 2013 نُفذت عملية كبيرة بأمر من رجال القضاء، واحتُجزت شخصيات مهمة عدة في حزب "العدالة والتنمية" بتهمة التورط في عمليات فساد ورشوة.
وكانت الملفات قوية والأدلة واضحة، فلم يكن من الممكن أن يفلت هؤلاء من براثن التهم من دون قلب النظام القضائي رأساً على عقب.
وبالفعل كانت العمليات صادمة لقيادات الحزب، ما دفعهم إلى مقاومة هذه التهم الموجهة ضد محازبين مهمين، ولم يكن أمامهم إلا تغيير النظام بالكامل، تحت شعار "التصدي للهجمات المستهدِفة لاقتصاد البلاد".
وأما بالنسبة إلى المتورطين في هذا الحدث، فكان قوامهم 89 شخصاً، بمَن فيهم نجل وزير الداخلية، وابن وزير الاقتصاد، وابن وزير البيئة والعمران، والمدير العام لبنك خلق، أحد أكبر البنوك الحكومية، ورجل الأعمال الإيراني رضا صراف. كما كانت الأنباء تدور حول كون وزير شؤون الاتحاد الأوروبي، ونجلِ رئيس الوزراء (آنذاك) رجب طيب أردوغان من بين الذي تطاولهم الاتهامات.
وأجبرت ردود الفعل القوية من الرأي العام، رئيسَ الوزراء (آنذاك) أردوغان، على إقالة أربعة من وزرائه الذي وُجِهت التهم إليهم، وهم، وزير شؤون الاتحاد الأوروبي، ووزير الداخلية، ووزير الاقتصاد، ووزير البيئة والعمران.
وكان لهذه الأحداث دويٌّ مهم في الرأي العام التركي والدولي، لكن كانت هناك نقطة مهمة في هذا الحدث لم تحظَ بالقدْر الذي يليق بها من الاهتمام، حيث إن رجل الأعمال الإيراني رضا صراف كان قدَّم لهؤلاء الوزراء الأربعة إضافة إلى نجل الرئيس أردوغان هدايا/ رشاوي بمبالغ باهظة. كما تبرَّع هذا الإيراني لجمعية تابعة لزوجة أردوغان.
وهل من المعقول أن تَحْدُث كلُّ هذه الأمور في محيط أردوغان من دون أن يكون لديه أي علم بها؟
ومن المفارقات العجيبة أن "حزب العدالة والتنمية" سرعان ما تحوَّل بعد هذا الحدث الصادم، من الخطاب الليبرالي ليولي وجهه شطر خطابٍ راديكالي رافعاً شعارات الإسلام السياسي.
وفي هذا السياق، أود أن ألفت النظر إلى دور إيران على الساحة السياسية التركية في هذه المرحلة بالذات.
بادئ ذي بدء، أود القول إن إيران بلدة مجاورة لتركيا، وتتقاسمُ معها حدوداً شاسعة بطول 560 كيلومتراً، وليس معقولاً أن نتمنى على تركيا أن تحاربها وتصطدم بها في أي حال من الأحوال، وبالفعل لم يحصل بين هاتين الجارتين صِدام جاد منذ أن وقَّعا معاهدةَ "قصر شيرين" في عام 1639، باستثناء بعض الأزمات السياسية العابرة. وفي الوقت الحالي، تحتل تركيا المرتبة الرابعة في قائمة الدول التي تستورد الصادرات الإيرانية بعد الصين والهند وكوريا الجنوبية. كما تحتل تركيا المرتبة الثالثة في قائمة أكثر الدول التي تصدِّر إلى إيران. وليس هناك ما يُستغرب في أن تقيم دولتان جارتان علاقات إيجابية وتُوقِّعا اتفاقيات تساهم في تطوير العلاقات التجارية والثقافية والسياحية. بالتالي يمكن تفسير هذا كله من هذا القبيل.
ولكن الأمر الذي يحتاج إلى تفسير هو أن ينبري أردوغان وحزبه للدفاع عن إيران بوجه المجتمع الدولي في كل مرة تواجه فيها عقوبات من شأنها أن تردعها عن تصرفاتها الهوجاء في المنطقة.
نعم، نحتاج، من أجل إيضاح خلفية هذا الموقف، إلى الرجوع إلى الوراء، لنعلم ما تعنيه إيران بنظر أنصار الإسلام السياسي في تركيا.
فعندما اندلعت في إيران عام 1982 "ثورة الخميني" - أعارض، بشدة، تسميةَ هذا الحدث بـ"الثورة الإسلامية"- تبوأت إيران مكانة مهمة في أعين مُناصري الإسلام السياسي، إذ رأوا فيها نموذجاً مثالياً لتحقيق أحلامهم. وبالفعل وجدت إيران في هذه العاطفة الإيجابية أرضيةً مناسبة لتصدير فلسفة "الثورة" إلى تركيا.
وأُتيحت أمام هؤلاء وسيلتان مهمتان لتحقيق هذا الهدف:
الوسيلة الأولى وهي أن إيران استطاعت أن تتواصل مع أبناء العائلات الشيعية في تركيا لتُقدِّم لهم الدعم المالي الذي يخوِّلهم الحصول على مؤهلاتٍ تُوصِلهم إلى مناصبَ مهمة في الدولة.
أما الثانية، وتلك أخطر من الأولى، هي أن إيران كَّثفت نشاطاتها في المحافظات والبلدات التي يغلب على سكانها التديّن، وذلك من خلال فتح مراكز ثقافيةٍ جاذبة قرب المؤسسات التعليمية، ولكن المثير للاهتمام هو أن غالبية مرتادي هذه المراكز كانوا من أبناء العائلات السُّنِّية.
وشكّل جيل الثمانينيات، القاعدة الشبابية المهمة لحركة "ملِّي كوروشْ" المعقل الأكبر لفكر الإسلام السياسي. وبمرور الأيام انخرطوا في الأحزاب الإسلامية والجامعات والإعلام ليَصلوا في نهاية المطاف إلى مفاصل الدولة ومراكز اتخاذ القرار. وها هم هؤلاء يدافعون عن إيران بكل ما أوتوا من قوة في كل المواقف الخطرة.
ووصل بهم الأمر إلى أنهم تغاضوا عن كل التقارير الأمنية التي كانت توجِّه أصابع الاتهام إلى تواطؤ إيران في قضايا اغتيال بعض المفكرين والكتَّاب الأتراك، بل وبعضِ الهجمات التي نفذتها بعض المنظمات الإرهابية في أواخر الثمانينيات وبدايات التسعينيات.
فماذا عن الوقت الحالي في تركيا؟ نعم، إن الشباب الذين كانوا في الثمانينيات على مقاعد الدراسة هم الآن يتقلدون مناصب عليا في الحزب الحاكم وفي الدولة، ومنهم وزراء ومستشارون للرئيس أردوغان.
وسنحت لهم "فرصةً ذهبية" عندما تورط حزب العدالة والتنمية في عمليات الفساد عام 2013، ووَجد نفسَه مضطراً إلى طرد المعارضين عن مفاصل الدولة. وبلغ الأمر ذروته بعد مسرحية الانقلاب التي أجريت في 15 يوليو (تموز) 2016، حيث تم زرع عشاق الخميني في الوظائف الشاغرة، بعد طَرْدِ ما يزيد على مئة ألف موظف.
ولإيضاح الموضوع أريد أن أذكر نموذجاً واحداً من هؤلاء؛ بدأ الرجل مسيرته كطالب عادي ثم تدرَّج في المراحل الأكاديمية إلى أن أصبح "أستاذ-دكتور" ثم انخرط في الحزب إلى أن انتهى ليصبح كبير مستشاري الرئيس أردوغان: ياسين أقطايْ.
التقيت به في مصر في عام 2007، التي جاء إليها لحضور مؤتمر، ووصل بنا الحديث إلى القضية الإيرانية. وعندما أعربت عن قلقي حيال تدخلات إيران في تركيا واختراقاتها، فوجئتُ بأنه لا يرى بأساً في ذلك، بل ويتخذُ موقف المدافع عنها ويرى فيها مثالاً إسلامياً يُحتذى.
وهذا وأمثاله من النماذج يفسرون لنا سر مسارعة أردوغان ورموز حزبه إلى الدفاع عن قضايا إيران في كل الملفات الإقليمية أو الدولية من دون تلكؤ.
ومن هنا ننصح مسؤولي الدول العربية والإسلامية أن يتبيّنوا، عندما يجلسون على طاولة مع أردوغان، ليعرفوا ما إذا كان هناك ظل إيراني يتابعهم في كل خطوة، وإن كان هناك "حصان طروادة" وكوادر مزروعة في هيكلية الدولة التركية، جاهزة لتنفيذ الأجندات الإيرانية وتسويقها في العالم الإسلامي بغلاف "سُنِّيٍ".
وأرجو ألا يفهم القارئ الحصيف أنني أتمنى بكلامي هذا صِداماً إيرانياً- تركياً بقدر ما أتطلع إلى التروي في تسيير العلاقات مع هذه الدولة التي بدأت تجر الويلات إلى هذه المنطقة. وإذا كان لا بد لتركيا أن تنحاز إلى كتلة إقليمية فإني أفضِّل أن تكون بجانب السعودية ومصر والإمارات.
فماذا يجبرني على الوقوف جنباً إلى جنب مع إيران التي تزرع الفساد في المنطقة من خلال المنظمات المتطرفة التي تدعمها في الدول الإسلامية؟ وهل من الضروري أن أكون مع نظام يَستخدم "حزب الله" و"حماس" و"الحشد الشعبي" و"الحوثيين" ليحول المنطقة إلى جحيم.
وإني على دراية بأن هذه القضية أكبر من أن يستوعبها مقال قصير. ولربما تسنح لي الفرصة أن أتناول جوانب أخرى منه في مقالات أخرى. وعلى الرغم من صعوبة الموقف، فإنني لا أزال أحمل آمالاً بتعافي تركيا من هذه الأشواك الخطيرة.