ثلاثة عشر عاماً مضت على الصيغة الأولى من مسرحية "فوضى"، تأليف وإخراج عبد المنعم عمايري، وهو العرض الذي حاز جوائز عديدة في مهرجانات عربية ودولية، كان أبرزها جائزة أفضل عرض في مهرجان القاهرة التجريبي- 2007" وأُنتجت منه نسخة باللغة التركية في إسطنبول عام 2009، هاهو يعود إلى واجهة الحياة المسرحية السورية بتوقيع المخرج رائد مشرف، لينال جائزة أفضل عرض في الدورة السادسة والعشرين من مهرجان المسرح الجامعي الذي أقيم في مدينة حلب.
يقوم العرض على ما يشبه تجاور ستة مونولوغات مطوّلة لست نساء يقطنَّ بيتاً واحداً في دمشق القديمة، حيث تتدفق قصص هؤلاء النسوة في مناخ جعله "مشرف" أقرب إلى أجواء "العنبر رقم ستة" قصة (أنطون تشيخوف 1860- 1904) الشهيرة التي تناولها مسرحيون عرب وأجانب في عروض قاربت أجواء المصحات النفسية، مع فارق أن لا وجود لشخصية الطبيب "أـندريه أفيمفيتش" في هذه "الفوضى" التي عوّض فيها المخرج شخصيات تشيخوف بشخصيات نسائية يلبسن روبات المصحات النفسية الأقرب إلى سجون العصور الوسطى.
في هذا الجو المتوتر والمشحون تتصاعد حكايات نساء "فوضى" فنتعرف إلى صاحبة النزل ( نجاة محمد) التي فقدت جمالها مع تقادم السنين، وتعيش على أمجاد قصة حب جمعتها بفرّان الحارة، الرجل الذي كان يرتكب الجرائم والقتل من أجلها، ضارباً بخنجره كل من توسوس له نفسه بالاقتراب منها، إذ تمارس هذه المرأة سلطتها المباشرة على نزيلات بيتها المذعنات لواقعهنّ، فمنهنّ من لاتزال تفتقد أبيها الميت في تشريح نفسي لعقدة إلكترا، في حين تشكو ثانية من عقد الخوف من النوم في حقل ذرة، المكان الذي كان شاهداً على لقائها مع رجل عشّمها بالحب والزواج ليختفي بعد أن نال وطره منها.
بالمقابل نطل على شخصية الفتاة التي تتعرض للتهديد بالذبح بعد قيامها بعلاقة غير شرعية، لتبدو كل الأبواب مغلقة في طريقها، ولنجدها تائهة في ظلام لا تلمع فيه إلا أحداق القتلة وسكاكين الشرف الرفيع. مجابهة نتابعها مع شخصيات تجلس على كراسٍ تشابه كراسي الاعتراف، أو كراسي التحقيق والصعق الكهربائي مع كل مونولوج تتلوه واحدة من الممثلات الست، واللاتي تبدين في العرض وكأنهنّ يؤدين ست مونودرامات تقترب أحياناً من أسلوب تعددية الأصوات:(البوليفونية) وتبتعد لتصبح محض صراخ وزعيق هستيري ضد العنف والاغتصاب والتعذيب الجماعي.
إنها أجواء تعكس الحال الذي وصلت إليه نساء هذا المصح- السجن، ووفق توترات صوتية وجسدية تتهدم بسرعة لتبني أسلوباً غابراً كان عبد المنعم عمايري العراب له، ولكن على وقع خطوات عروض مسرح المؤلف، حيث المساحة الفارغة إلا من كراسٍ وأرجوحة مسلط عليها إضاءة حمراء فاقعة، في إشارة إلى مسرح متقشف في ظاهره، غني في عوالمه النفسية المتضاربة والصاعقة. هنا النساء الست يكدن يصبحن امرأة واحدة تتكلم بطبقة الصوت ذاته، وبالانفعال نفسه، جسد نسائي تتقاسمه ست نساء يمضين إلى نبش دواخلهنّ الشقية، وجروحهنّ الغائرة من غدر الرجال، أو من حبهنّ الضائع المتواري خلف ستائر الخوف والعادات والتقاليد البالية.
نسخة ثانية
النسخة التي قدّمها "مشرف" هنا مختلفة تماماً عن نسخة عمايري فهي تفتقر إلى حساسية توزيع الأدوار، والتلاعب بكمية الصمت والنطق المعطاة، ناهيك عن ديكور المنزل ونوافذه التي تظهر الشخصيات النسائية منه وتغيب، تبعاً للحالة التي يتم روايتها من امرأة إلى أخرى، فمسرح المؤلف- المخرج هو بنية لا يمكن تجزيئها، ولا يمكن التعامل مع نص "فوضى" على أنه نص أدبي قابل لرؤيا إخراجية ثانية، بكونه نصاً مكتوباً بالأصل للخشبة مباشرة، ما جعل النسخة الجديدة من "فوضى" تزداد هستيرية ورغبة في ملامسة مناطق حميمة في الذات الإنسانية العميقة، من دون التركيز على إدارة محكمة لطاقة الممثلات الست، ما أدى إلى فقدان التلوين في الأداء الذي ظل فردياً ومتجاوراً إلى حدٍ كبير، فصعوبة هذا النوع من الأعمال المتعددة لا يمكن تقديم الحل لها ببقاء الممثل في مقدمة الخشبة والتكلم بوجهه وجسده للجمهور فحسب، بل التعويل أكثر فأكثر على تفادي هذه المجابهة الرأسية مع الصالة، والذهاب نحو حلول فنية تبتعد عن مسرح الحكي، نحو مسرح محايد، مسرح لا يستجدي الشفقة والتعاطف، بقدر ما يطمح نحو تشريح هادئ لمأساة النساء في هذا الشرق السعيد!
من هنا يبدو لنا "فوضى" قد لقي مصيراً مشابهاً للتجربة التي قام فيها الفنان الراحل نضال سيجري بإعادة إخراجه هو الآخر عرض "صدى" لعبد المنعم عمايري، التجربة التي قدمها المخرج السوري- الفلسطيني عام 2001، ببطولة كل من غسان مسعود وسلافة معمار، وقعت هي الأخرى في هذا اللبس مع نسخة "سيجري" عام 2008، وبمشاركة فرقة المسرح الجامعي باللاذقية، حيث النص هنا هو مادة العرض النهائية، أي نتاج البروفة، الزمن الأصلي للكتابة في هذه النوعية التي لمع فيها اسم "عمايري" مع بداية الألفية الثالثة، وهي نصوص لا تتيح مساحات لعب من خارجها، كونها تُكتب وتنمو وتتطور على المنصة، ولا تقبل إعداداً أدبياً كما فعل "المشرف" مع "فوضى" عمايري.
أسلوبية المونولوغ
قد يبدو هذا إشكالياً من ناحية الصعوبة في تطويع النص مرةً أخرى، حيث تنتمي نصوص وعروض هذا النوع من الكتابة إلى زمن تأليفها، وهو زمن متعدد الولادات سواء بالنسبة إلى كاتبه ومخرجه، أو سواء في إعادة كتابته مع الممثل. وهذا ما كان يمكن أن يحدث لو خضع نص "فوضى" إلى تطوير من قبل الممثلات الست، لكنه ظل رهين التصور الأول، ليستغرق في أسلوبية أحادية، قوامها المونولوغية وخطاب الذات، من دون الأخذ بما قاله الشاعر ت.س إليوت في قصيدته الشهيرة "الأرض اليباب": "لأني لا أومن بالإياب، ولأن ما يصدق، يصدق لمرة واحدة وللأبد". مقولة قد تنسحب هنا على زمنية عروض مسرح المؤلف، ليس في جميعها طبعاً، بل في معظم تلك التجارب التي نهلت بشكل لاهث وإيقاعي من اللحظة، محاولةً تخليق نمط من عروض لا تلتزم بالوحدات الأرسطية الثلاث: "الزمان والمكان والحدث"، بل تحيلها إلى مستويات رمزية في معالجة الموضوع، ناسفةً كل الحدود الفاصلة بين عمل المخرج والممثلات الست: "تاتيانا أبو عسلي، هبة ديب، غزل حنون، ميس ضوا، مريم زمام، وفاء الحسين".
هذه هي النقطة التي كانت برأيي مطباً لإعادة عرض مكتوب مثل "فوضى" لكنها تجربة مهمة على صعيد نسخ استعادية لمسرح ما قبل الحرب في سورية، والذي كان يبحث عن ذاته عبر مجموعة من المخرجين الشباب آنذاك. كان ذلك طبعاً قبل وقوع الكارثة الوطنية الكبرى، وقبل تذرر شمل المسرحيين السوريين بين داخل وخارج، وصولاً إلى إعادة استظهار قاسية من الذاكرة، ومحاولة إنعاش تلك الأصوات التي خفتت مع علوّ صوت المعركة!