شهدت ساحات الانتفاضة على حضور لافت للأطفال الذين نزلوا مطالبين بحقوقهم، فشكلوا نقطة فارقة في التظاهرات، طالبوا بمستقبل أفضل ومنهم من وضع التظاهر ضمن أولوياته واضعاً الدراسة جانباً، في مساع لإحداث تغيير إيجابي على صعيد الوطن.
كثر هم الأطفال الذين تحمّلوا مسؤولية تفوق أعمارهم الصغيرة ولا تشبه طفولتهم عندما شعروا بقدرتهم على إحداث الفرق. حيال هذا الموضوع حصلت تجاذبات، خصوصاً عندما أشرك الأطفال الصغار بشكل زائد في نزاعات لا شأن لهم فيها. وأتت قصة عمر ابن الشهيد علاء أبو فخر، الذي شهد على مقتل والده أمام عينيه، لتزيد الجدال حول هذا الموضوع، إذ شدد الخبراء على أهمية حماية الطفولة ووضع الحدود اللازمة منعاً للتخطيات التي تسيء إلى الطفل بشكل آني وفي المستقبل.
حس المواطنة
من اليوم الأول للثورة، حرص كثير من الأهالي على اصطحاب أطفالهم إلى الساحات، علّهم ينمون لديهم الحس بالوطنية وعشق الوطن. من الأطفال الصغار إلى أولئك الأكبر سناً، رأيناهم في الساحات يتفاعلون مع ما يحصل من حولهم ويطالبون بحقوقهم وبمستقبل أفضل في وطنهم. كما أتت الثورة الطلابية التي لعبت دوراً لافتاً في الثورة، بمشاركة مدارس وجامعات، فكان للطلاب الحضور الأبرز خلال أيام عدة، نظراً للدور الإيجابي الذي لعبوه.
لكن في مرحلة من المراحل، تضاربت ردود الفعل حول مبدأ مشاركة هؤلاء الأطفال في التظاهرات. فبعض الأهالي يشجعون على مشاركة أطفالهم ليتعلموا حب الوطن، والبعض الآخر فضّل إبعادهم عن هذه الأجواء.
تشجيع الأهل
أما بالنسبة للسيدة نانسي المرّ فهي ترحب بمشاركة ابنتيها في التظاهرات، وقد شجعتهما من أول أيام الثورة لتزيدهما عشقاً للوطن، وقالت "أنا أؤيد مشاركة الأطفال في أي تحرك يتعلّق بالوطن، خصوصاً إذا كانوا يساهمون في خدمة الوطن وفي إحداث تغيير صوب الأفضل ولمستقبل أفضل لهم. أنا وزوجي لا نؤيد حزباً سياسياً معيناً، وأردت أن أبعد ابنتي غيرينا (13 سنة) وغيريتا (14 سنة) عن مبدأ الانتماء الحزبي، لا سيما أنهما قد تتأثران في المستقبل بالأجواء الحزبية في الجامعات ما لم تكونا محصنتين". وانطلاقاً من ذلك أرادت السيدة أن تشارك ابنتاها في أجواء التظاهرات وأن تدركا المعنى الحقيقي للوطنية بعيداً من الانتماءات الحزبية.
وتابعت "أذكّر ابنتي دائماً بأن الأهم ليس الزعيم الذي نتبعه بطريقة عشوائية ولا يقدم لنا شيئاً، بل ذاك المسؤول القادر على تأمين مستقبل أفضل لكما". علماً أن ابنتاي تدركان صعوبة الوضع المعيشي والضغوطات التي نتعرض لها، ما يؤثر سلباً علينا جميعاً. لذلك تعتبر مشاركة غيرينا وغيريتا خطوة طبيعية، علّها تؤمن أبسط حقوقنا. "فدعم الأطفال جزء لا يتجزأ من التظاهرات، ونحرص على المشاركة شرط أن تكون سلمية وخالية من الاستفزازات. مع الإشارة إلى أن الطفل قد لا يشعر فعلاً بمعاناة الأهل وبما يمرون به من مصاعب بشكل كامل، لكن تبقى مشاركته فاعلة لمستقبله".
العلم اللبناني فقط
أسوة بعائلة المرّ، كثرت العائلات التي شاركت في التظاهرات بوجود الأطفال وإن كانوا في سن صغيرة. فقد حرص السيد سليم حكيمة على اصطحاب ابنه إيلي-جو البالغ من العمر أربع سنوات، للمشاركة في التظاهرات بعد أن شرح له الأمور بطريقة مبسطة تلائم سنّه الصغيرة. فاندفع إيلي-جو بحماسة ينشد النشيد الوطني اللبناني ويحمل العلم عالياً. "شرحت له تفاصيل صغيرة في حياتنا تدفعنا إلى المطالبة بما هو أفضل لنا. كما حدثته عن الفقراء والمحتاجين وعن زحمة السير التي تزعجه بشكل خاص، وغيرها من المشاكل التي نواجهها في حياتنا. شرحت له أنه ولد وسيكبر في هذا الوطن ولا بد له من المشاركة في المسائل التي تعنيه للتصحيح باتجاه الأفضل. أوضحت له أننا سنشارك في التظاهرات حاملين العلم اللبناني فقط".
انقسام الآراء
في المقابل، يبعد السيد حكيمة ابنه عن المسائل كافة التي لا تناسب سنّه. فيكفي أن يحب وطنه ويشارك من أجله وأن يعي معنى الاستقلال. وهذا الهدف الأساسي بعيداً من أي تفاصيل أخرى لا تعنيه وتسيء إلى طفولته. "ثمة حدود لا يمكن تخطيها مع الطفل ولا بد من الحفاظ عليها، وإن شرحنا له هذه الوسائل في التعبير. كما أنه ثمة أوقات مناسبة له للمشاركة في التظاهرات، فشخصياً لا يمكن أن أصطحبه ليلاً أو في حال وجود مشاكل أو استفزازات".
انقسمت الآراء في الفترة الأخيرة حول مبدأ مشاركة الأطفال في التظاهرات، فكما أن البعض حبّذ الفكرة، وجد آخرون أن مكان الطفل ليس في الساحات، خصوصاً إذا كان في سن صغيرة. وهذا أيضاً رأي السيدة إليسار خوري التي تعتبر أن أطفالها لا يزالون في سن صغيرة حتى ينخرطوا في هذه الأمور، وتفضل أن تبقيهم بعيدين من هذه الأجواء. فقد اصطحبتهم مرة ليشاركوا لكنها تفضل أن تبعدهم من هذه الأجواء كافة التي لا تناسب أعمارهم.
مشاركة الأطفال إيجابية بشروط
وبحسب الاختصاصية في المعالجة النفسية شارلوت خليل، تختلف النظرة إلى الأطفال المشاركين في التظاهرات بحسب الشريحة العمرية وما إذا كان الطفل دون سن الـ 15 سنة أو أكثر. "لا يمكن أن ننكر أن السياسة تشكل جزءاً لا يتجزأ من حياتنا كلبنانيين. شئنا أم أبينا يتأثر الأطفال بأجواء المنزل ولا يمكن استبعادهم فجأة. لا يمكن أن نتواجه فجأة مع المراهق مثلاً الذي هو فوق سن الـ 15 ونبعده من الأجواء السياسية، خصوصاً أن المراهقة هي بذاتها ثورة على الأهل وعلى المعتقدات وعلى المجتمع، ويمر فيها المراهق بصراع حول الهوية، ما يزيد من صعوبة إبعاده عن هذه الأحداث المصيرية في البلاد. مجرد المواجهة معه كافية ليغوص أكثر في التظاهرات".
وتشير خليل إلى "المراهقين الذين نزلوا إلى الساحات حاملين هموم أهلهم ومنهم من خالفوا آراء أهلهم ومنهم من نزلوا لمرافقة الأصدقاء، إضافةً إلى الذين نزلوا لأنهم فعلاً معنيون بالشأن العام".
تعددت الأسباب التي دفعت الأطفال إلى المشاركة بالتظاهرات، لكن سواء أراد الأطفال التعبير عن رأيهم أو نزلوا إلى الساحات لأي سبب آخر، تبقى إحاطة الأهل لهم ضرورية لينطبع ما يحصل في ذاكرتهم واللاوعي لديهم بشكل إيجابي، بحسب خليل، ولا يؤثر سلباً عليهم في المستقبل.
تخطي الموروثات
"إذا كان الهدف من الثورة تخطي الموروثات التي لدينا، ثمة مسؤولية كبرى تقع على عاتق الأهل وتستدعي عدم التعاطي مع الأمور بالطريقة السابقة نفسها. فإذا كانت مشاركة الأطفال في سن معينة مهمة، تبرز الحاجة إلى التعاطي معها بالشكل الصحيح تجنباً لتكرار أخطاء الماضي وحماية الأطفال في المستقبل. هذا إضافة إلى أهمية مرافقة الأهل للأطفال إلى التظاهرات بهدف حمايتهم أو عدم اصطحابهم أصلاً إذا كانوا في سن صغير جداً، خصوصاً أنه ثمة مشاكل أو تدافع قد يحصل ما قد يؤثر في الطفل الأصغر سناً، لا من الناحية الجسدية فحسب بل النفسية أيضاً، لاعتبار أن نظامه النفسي لا يزال هشاً ويتأثر بالعوامل المحيطة بسهولة".
كما تنصح خليل بتجنب اصطحاب الأطفال في الأوقات التي يزيد فيها قطع الطرقات والاشتباكات، التي يجب ألا يشهدوا عليها. وتلفت النظر أيضاً إلى أن وسائل الإعلام لم تُحسن التعاطي مع الأطفال في هذه المرحلة ولم تحترم طفولتهم. فمجرد أسئلة كتلك التي تطرح على الأطفال الصغار ونراها على الشاشات هو انتهاك لحقوق الطفل.
عمر أبو فخر لم يرحمه المجتمع
وهنا تذكّر خليل بعمر ابن الضحية علاء أبو فخر، الذي شكل حالة خاصة تعاطف معها الكل، بينما برزت في الفترة الأخيرة آراء معارضة لانخراط هذا الطفل البالغ من العمر أحد عشر عاماً، في نزاعات لم تحترم طفولته ولا فترة حداده على والده الذي قتل أمام عينيه.
شاء القدر أن يشهد عمر على مقتل والده، فمسّت دموعه كل من رآه وانغرست صرخاته في القلوب. لكن بعد هذه اللحظات القاسية بحق طفل، كان من المفترض أن يلقى الإحاطة اللازمة والدعم النفسي لمساعدته على تخطيها. "لم يكن هذا ما شهدناه بل على العكس أتى من يصب الزيت على النار، ولم تحترم طفولته وحزنه وجرى استغلالها. شكّل مقتل علاء بهذه الطريقة القاسية صدمة لكل من عرفه وبشكل خاص لأفراد عائلته. في لحظة مقتله حاولت زوجته أن تغمض عيني ابنها وهو رد فعل طبيعي لتخفف من وطأة الصدمة عليه. لكن كانت لحظات صعبة ولها تداعيات لا بد من معالجتها. يضاف إلى ذلك الأذى النفسي للطفل عندما طُلب منه الانتقام لوالده. يضع هذا عبئاً كبيراً على عمر ويمكن أن يحوّله إلى مجرم إذا أراد تحقيقه أو يسبب له الإحساس الدائم بالذنب والتقصير ما لم يفعل. ساهم كثر في زيادة الأعباء والأذى على عمر، خصوصاً وسائل الإعلام التي ركزت على الطفل غير الجاهز لتحمل هذه الأعباء الملقاة على عاتقه. كان من المفترض تركه يعبر عن ألمه بشكل أفضل وربما أن يجلس مع نفسه ويبكي ويحزن، كما هو طبيعي في مثل هذا الوضع".
منحى آخر
من اللحظة التي قتل فيها عمر أخذت حياته منحى آخر. فمن طفل يعيش حياة طبيعية انقلبت حياته رأساً على عقب بسبب قساوة القدر. في مثل هذه الظروف تبدو العاطفة والدعم النفسي أكثر ما يحتاجه بعيداً من الصخب والأضواء التي تزيد الحمل على طفل فقد والده بقسوة.
مما لا شك فيه أن تنمية حب الوطن لدى أطفالنا مسألة حتمية لا بد من الحرص عليها. وقد شهدنا عبر التاريخ كما في الثورة اليوم، على دور الثورة الطلابية الإيجابي. لكن في التعامل مع الأطفال قواعد لا يمكن تخطيها احتراماً للطفولة، خصوصاً أن الوضع النفسي للطفل عامةً يكون أكثر هشاشة وثمة تداعيات خطيرة قد تؤثر في حياته في المستقبل ولا يمكن إهمالها.