تعكس بعض الطيور النافقة المتناثرة هنا وهناك في شوارع مدينة هونغ كونغ، حال الانكسار التي تعيشها المدينة. ويُعزى السبب إلى الغاز المسيّل للدموع الذي استخدمته الشرطة في هذا المشهد الطاغي الذي لم يقتصر على الطيور فقط. فكل شىء تقريباً آل إلى التدهور بصورةٍ متسارعة في الأسبوع الماضي، وبات سكان المدينة يشعرون بقلق لأن حملة بكين تسعى في ما يبدو إلى قمع معارضتهم، تماماً كما فعلت في الماضي في ساحة تيانانمن الصينية الشهيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع عودة المدارس إلى فتح أبوابها يوم الأربعاء لأول مرّة منذ نحو أسبوع، قبضت شرطة مكافحة الشغب المسلّحة على عدد من اليافعين ونقلتهم إلى أماكن مجهولة في شاحنات نوافذها معتّمة. وبثّت إحدى النشرات الإخبارية المحلية إرشاداتٍ للآباء والأمهات قدّمها استشاري أمني متخصّص، قام بتفصيل احتياطات السلامة لإرسال أبنائهم إلى المدارس. وتضمّنت ما لا يجب وضعه في حقائب الأطفال التي يمكن أن تخضع لتفتيش الشرطة، وقدّمت شرحاً يتعلّق بطريقة التعامل مع الغاز المسيّل للدموع. أما المستشفيات فدعت ذوي الحالات غير الطارئة إلى الابتعاد عن أقسام "الحوادث والطوارىء" التي تغصّ بمحتجّين مصابين بجروح خطيرة. أمام كلّ ما يجري، لا يسع أحد بعد الآن حسبان أن ما يحصل هو مجرد وضع استثنائي.
وقد طغى حصار الشرطة لجامعة هونغ كونغ للعلوم التطبيقية الذي بدأ مساء الأحد، على تقارير وسائل الإعلام الرئيسية، لكن التغطية تشير في مضمونها إلى أن الأحداث الجارية في المدينة، هي مجرد مواجهة بين الشرطة وجزء متطرّف من الشبّان العنيفين. وهذا مضلّل وخطير.
وهذه الأزمة تؤثّر على الجميع في كل زاوية من زوايا هونغ كونغ. ففي وصف للوضع الحاصل، قال أحد الموظّفين الماليين الذي يعمل في القطاع الأوسط من المدينة الأسبوع الماضي، قبل أن تستخدم شرطة مكافحة الشغب المسلّحة الغاز المسيّل للدموع ورذاذ الفلفل، لتفريق تظاهرة سلمية أخرى نظّمها رفاقه في المكتب خلال وقت الغداء: "كلنا خاسرون".
والتوتر طاغٍ على الجميع هنا. فمعظم المواطنين الذين أتحدّث معهم ليسوا خائفين من المحتجّين، بل من الشرطة والعصابات المسلّحة المؤيّدة لبكين. فهم يتخوّفون من تعرض أبنائهم لإطلاق نار أو الاعتقال أو مجرّد اختفائهم من دون أي أثر. إنهم يخشون التعرّض للضرب أو للغاز المسيّل للدموع أو لرذاذ الفلفل. ويعبّرون دائماً عن قلقهم من كيفية مواصلة عملهم والعودة إلى المنزل. ويشعر سكان المدينة بخوفٍ من احتمال فقدان وظائفهم بسبب نشرهم آراء سياسية على وسائل التواصل الاجتماعي، أو لمجرد عدم الالتقاء مع رئيسهم في الموقف ممّا يحصل.
وفي الأيام القليلة الماضية، قُبض على أكثر من 1100 شخص، وإذا ما صدرت أحكام بالسّجن على غالبية الذين اعتُقلوا خلال الأشهر الخمسة الأخيرة من حركة الاحتجاج، فمن الأكيد أن هونغ كونغ ستكون بحاجة إلى الشروع في بناء مزيدٍ من السجون.
ولا تبذل الحكومة المنفصلة عن الواقع التي تديرها كاري لام الرئيسة التنفيذية لهونغ كونغ، جهداً للبحث عن حل أو عما يساهم في تنفيس احتقان الأزمة الراهنة. وعلى خلاف ذلك، يبدو أنها راضية عن إطلاق يد بكين في ترويع المواطنين، من خلال استخدام الشرطة سلاحها الرئيسي في هذه المواجهة. فيما يسمّيه السكّان المحليون هنا: "الإرهاب الأبيض".
ويتمثّل جزء من استراتيجية المواجهة التي تديرها السلطات، في تكوين انطباع مفاده أن العنف المدني والاضطراب، يساهم في استمرارهما متطرّفون عدميّون وعنيفون، وأنه يجب استعادة القانون والنظام.
وفي أثناء حصار جامعة هونغ كونغ للعلوم التطبيقية، أمكن رؤية سلسلة بشرية طويلة تنتشر على طول الطريق الرئيسية في كاولون، شكّلها أشخاص عاديون في هونغ كونغ من مختلف الفئات العمرية. وقد مرّرت هذه السلسلة يداً بيد اللوازم الضرورية إلى خطّ المواجهة في الجامعة. هذا الكفاح لا يظهر طبعاً أن هؤلاء الأشخاص هم من "مثيري الشغب" أو من "الغوغائيّين العنيفين الغاضبين". ومع ذلك، فقد أدت هذه المصطلحات التحذيرية إلى تلويث محتوى وسائل الإعلام الرئيسية. إنه منحى غادر، لأنه بمجرد أن تتمكّن السلطات من إثبات ما ترويه عبر وسائل الإعلام، فستصبح يد بكين مطلقة في إبادة هؤلاء الناشطين الشباب من دون أي عقاب.
هذا لا يعني طبعاً أن الجميع هنا يدعمون الأفراد الموجودين عند الخطوط الأمامية أو نهج المواجهة لديهم. ولا يعني كذلك أنهم يستسيغون ما يقوم به المحتجّون لجهة تعطيل نظام النقل في المدينة. وفي بعض الأحيان، تحوّلت المساعي النبيلة للمتظاهرين نحو الديموقراطية إلى تخريبٍ صُنّف في إطار الرهاب المناهض للصين.
ومع ذلك، ما زال الملايين من مواطني هونغ كونغ معجبين بهؤلاء الشبّان لتحدّيهم تسلط بكين. فقد شاهدتُ مواطنين من كبار السنّ في أحياء متواضعة من المدينة يعبّرون عن غضبهم، ويلقون باللوم في إشعال فتيل الأزمة على عاتق وحدات الشرطة التي تعمل على إطلاق غازٍ مسيّل للدموع ورصاصٍ مطّاط بشكل عشوائي. وقد استمعتُ أيضاً إلى موجات تصفيقٍ تلقائية من المارّة، لدى مرور إحدى فصائل المواجهة على الخطوط الأمامية أمامهم. حتى أولئك الذين لا يوافقون على تكتيكات المحتجّين، فإنهم لا يحمّلونهم المسؤولية عن المشكلة الراهنة.
وما يمكن استنتاجه أن قلة من مواطني هونغ كونغ، تنظر بعين الرضى إلى احتمال أن يستكين الناشطون السياسيّون أو أن يرقدوا في شوارع المدينة كتلك الطيور الصغيرة النافقة.
© The Independent