تعلقت الأنظار خلال الأيام القليلة الماضية بقطب الإعلام الملياردير مايكل بلومبيرغ الذي أعلن بعد تراجع وتردد، دخوله حلبة السباق الرئاسي في الولايات المتحدة عبر الحزب الديموقراطي، ليثير جدلاً واسعاً في صفوف الديموقراطيين بين مؤيد يراه وسطياً وعصامياً ناجحاً، ومعارض يراه راغباً في شراء البيت الأبيض، فما الذي دفع ثامن أغنى رجل في أميركا إلى خوض غمار منافسة غير مضمونة، ولماذا يعتقد أنه سيفوز بترشيح الحزب الديموقراطي في نهاية المطاف ليواجه الرئيس الحالي دونالد ترمب الذي قال عنه إنه لا يمتلك السحر المطلوب لإدارة حملة رائعة مثله.
يعتقد كثير من الديموقراطيين أن حملة مايكل بلومبيرغ غير المحدودة وإنفاقه السخي في وسائل الإعلام الذي بلغ 34 مليون دولار في مرحلته الأولى، وخبرته على مدى 12 عاماً عمدة لنيويورك أكبر مدينة في الولايات المتحدة، وكونه عصامياً بنى نفسه بنفسه لينتقل من الطبقة المتوسطة إلى أعلى طبقة ثرية في البلاد، فضلاً عن سجله المعروف في العمل الخيري عبر تبرعاته التي بلغت أكثر من ستة مليارات دولار، كل ذلك سيجعل منه مرشحاً رئاسياً منيعاً وخياراً مقبولاً من الناخبين.
غير أن ثروة بلومبيرغ التي تصل إلى 54 مليار دولار وفقاً لمجلة فوربس، وعمره الذي تجاوز 77 عاماً، يجعلانه مليارديراً أبيض آخر لا يتميز عن أقرانه مثل الملياردير توم ستاير المرشح الديموقراطي أو الملياردير دونالد ترمب الذي قد ينافسه في نهاية السباق، في وقت تلعب فيه الشعبوية الاقتصادية دوراً مركزياً متنامياً على أجندة المرشحين التقدميين داخل الحزب الديموقراطي مما قد يضر بحظوظه.
تجنب الصراع الداخلي
استخدم بلومبيرغ في أول إطلالة له عبر سلسلة من الإعلانات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي استراتيجية تجنب الصراع مع منافسيه من المرشحين الديموقراطيين، فصب اهتمامه على الرئيس ترمب الذي اعتبره سبب ترشحه لأن أميركا لا تتحمل 4 سنوات أخرى من أفعاله المتهورة واللاأخلاقية حسب وصفه، قائلاً إن الرئيس الحالي يمثل تهديداً وجودياً على الولايات المتحدة وقيمها.
كما تحدث بلومبيرغ عن نفسه وسنوات خبرته في إدارة أكبر مدينة أميركية على مدى 12 عاماً، وكيف استطاع أن ينهض بنفسه من الطبقة الوسطى ليصبح رجل أعمال ومليارديراً ومديراً ناجحاً لم يعرف الفشل.
هجوم وارين وساندرز
غير أن تجنب بلومبيرغ الدخول مبكراً في صراع أيديولوجي ضد منافسيه، لم يجنبه تلقي انتقاداتهم السريعة التي تعبر عن قدر من الانزعاج، فقد عبر السيناتور بيرني ساندرز عن امتعاضه من ترشح بلومبيرغ أو أي ملياردير آخر يعتقد أن باستطاعته تطويق العملية الانتخابية وإنفاق ملايين الدولارات لشراء الأصوات.
أما السيناتور إليزابيث وارين التي تنتقد الأثرياء باعتبارهم خطراً على السياسة الأميركية، واستطاعت جذب الكثيرين بخططها المعادية لرجال المال والأعمال في وول ستريت، فقد رحبت بترشح بلومبيرغ إذا كان يتطلع لتنفيذ سياسة تحدث فارقاً للطبقة العاملة في أميركا.
استقطاب الليبراليين
يعرف بلومبيرغ أنه إذا لم يكن المرشح الديموقراطي ليبرالياً فعليه أن يكون مقبولا لدى الليبراليين الذين ينشدون العدالة الاجتماعية والمساواة، ولهذا سارع في خطوة ترشحه الأولى إلى التعهد بزيادة الضرائب على الأثرياء مثله وتوسيع نطاق التأمين الصحي ليشمل غير المؤمن عليهم ولكن من دون إلغاء التأمين الصحي الخاص، كما تعهد باتخاذ موقف صلب لتقييد امتلاك السلاح في الولايات المتحدة وباتخاذ إجراءات بشأن التغير المناخي.
وبينما تبدو مواقف بلومبيرغ ليبرالية في القضايا الاجتماعية مثل حق الإجهاض ومنح الجنسية للمهاجرين المقيمين القدامى الذين لا يملكون أوراقاً رسمية، إلا أن مواقفة من السياسة الخارجية والقضايا الاقتصادية تظل معتدلة.
دوافع بلومبيرغ
قد تبدو دوافع بلومبيرغ الحقيقية من الترشح للسباق الرئاسي غير مؤكدة، لكن كونراد بلاك في موقع ناشيونال ريفيو الأميركي، اعتبر أن بلومبيرغ يسعى لانقاذ الحزب الديموقراطي من السقوط في يد المدافعين عن دواء الاشتراكية الذين يسعون لفرض ضرائب باهظة على الأكثر دخلاً في الولايات المتحدة ويقدمون تعويضات مالية للأميركيين الأصليين وللأميركيين الأفارقة، فقد بات واضحاً أن نائب الرئيس السابق جو بايدن يترنح في الانتخابات، بينما يفقد بيت بوتيجيج عمدة مدينة ساوث بيند السابق في ولاية إنديانا مكانته بين المتنافسين ويحاول جاهداً التعبير عن التيار الوسطي، في حين أن السيناتور إيمي غلوباتشير تتسم بالرتابة، وظل المرشح والتر موندال يبدو مخدراً خلال المناظرات الانتخابية.
ولأن المشهد الحالي للمرشحين الديموقراطيين والمعتدلين منهم على وجه الخصوص لا يبدو خلاباً، ولا يجمع بينهم سوى عدائهم للرئيس ترمب الذي يتقبل بحرارة امتعاضهم منه، فقد وجد بلومبيرغ أنه قد يكون الحل المناسب لمواجهة ترمب.
إعادة الحلم الأميركي
تردد بلومبيرغ في دخول السباق الرئاسي قبل فترة طويلة، فمنذ ثمانية أشهر، أوضح في بيان أنه لن يترشح وسط سباق مزدحم، وربما فعل ذلك لأنه لم يكن يرغب في أن يكون إضافة غير مرحب بها أو أن يبدو خاسراً، لكنه بعدما شاهد ما آلت إليه أوضاع المرشحين من عدم بروز أي منهم ليتصدر المشهد، قرر إعادة الثقة إلى الحلم الأميركي، فهو ليس كغيره ممن سعوا للاستحواذ على المقعد الرئاسي بمن فيهم رجل الأعمال والملياردير نيلسون روكفلر الذي أصبح نائباً للرئيس جيرالد فورد بين 1974 و1977.
وحسب جون أليس في صحيفة "بوسطن غلوب"، يستطيع بلومبيرغ إنفاق ملياري دولار ليكسب جائزة الرئاسة، بل وإنفاق أكثر من ذلك إذا تطلب الأمر في بلد تفعل فيه الحملات الانتخابية الكثير، بسبب عدم وجود شعبية له داخل الحزب الديموقراطي في الوقت الراهن.
ديموقراطي أم جمهوري؟
تقول "سليندا ليك" الخبيرة الاستراتيجية في الحزب الديموقراطي، إن أكبر مشكلة تواجه بلومبيرغ هي وضعه كديومقراطي متردد، وهو أمر قد يفيده في المرحلة الأخيرة ضد ترمب لكنه سيضره خلال الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديومقراطي حيث لن ينظر إليه الديموقراطيون باعتباره ديموقراطياً مثلهم.
وكان بلومبيرغ قد تخلى عن الحزب الديموقراطي عام 2001 ليرشح نفسه لعمدة نيويورك كجمهوري، وبعد إعادة انتخابه عام 2004 سجل نفسه مستقلا عام 2007، وفاز مرة أخرى بالمنصب قبل أن يسجل نفسه ديموقراطيا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
ويشير "بيت كينغ" وهو صديق قديم لبلومبيرغ إلى أن هناك تشابهاً بين ترمب وبلومبيرغ في بعض الجوانب، ذلك أن ترمب لم يكن في الحقيقة جمهورياً لكنه استخدم الحزب الجمهوري ليترشح للرئاسة، وهو ما يفعله بلومبيرغ الآن ولكن مع الحزب الديموقراطي.
الماضي والمستقبل
وبينما يواجه بلومبيرغ مناوشات من خصومه ومن الإعلام عبر فتح ملفات قديمة تعود لفترة تسعينيات القرن الماضي من اتهامات نسائية بدعاوى التمييز ضدهن والادعاء بأن بلومبيرغ كان يبدي تعليقات غير مريحة حول مظهرهن، إلا أن عمدة نيويورك السابق يبدو غير مكترث بهذه المناوشات الانتخابية وقرر التركيز في المستقبل ليضمن فوزا على خصومه الديموقراطيين.
خطة مارس
ويعتزم بلومبيرغ الدخول في السباق بطريقة غير تقليدية، حيث قرر التخلي عمداً عن خوض جولات الانتخابات التمهيدية في ولايتي أيوا ونيو هامبشاير انتظاراً لانتخابات يوم "الثلاثاء العظيم" المقررة في الثالث من مارس (آذار) التي ستجري في 14 ولاية حاسمة منها ولايتي كاليفورنيا وتكساس، التي يعد لها حملة دعائية غير مسبوقة.
وترتكز خطة مارس على انتظار أن تسفر الانتخابات التمهيدية في المراحل الأولية عن خروج أغلب المرشحين من السباق، ليتبقى مرشحان اثنان، أحدهما يمثل التيار اليساري الثوري الساعي لإحداث تغيير عميق في السياسات الأميركية، والثاني يمثل التيار الوسطي المعتدل الذي يستهدف إطاحة الرئيس ترمب من البيت الأبيض وتأجيل الخلافات الأخرى لوقت لاحق.
لكن الخوف الذي يواجه الديموقراطيين يتمثل في إمكانية تكرار سيناريو انتخابات 2016 أي يفوز ترمب بأصوات المجمع الانتخابي رغم خسارته إجمالي أصوات الناخبين الأميركيين وبالتالي يظل في الحكم 4 سنوات أخرى.
سيناريوهات التصفية
لكن ما تؤكده استطلاعات رأي صدرت أخيراً عن مركز غالوب أن الناخبين الديموقراطيين من البيض على المستوى الوطني يميلون إلى تخلي المرشحين عن أفكارهم الأيديولوجية والتركيز بدلاً من ذلك على المرشح الأوفر حظاً والأكثر قدرة على جذب الناخبين، أي انتخاب من كانت لديه فرصة أكبر للفوز على ترمب حتى لو كان هذا الشخص لا يشاركهم الرأي بشأن القضايا الرئيسة.
من الناحية الافتراضية، يمكن لبايدن الفوز، لكن قد يخسر الانتخابات التمهيدية في ولايتي أيوا ونيوهامبشاير مما قد يحطم آمال بايدن ويدفعه للانسحاب من السباق ليبقى بوتيجيج ممثلاً عن التيار الوسطي المعتدل إلى جوار مرشح آخر من التيار التقدمي.
فرصة بلومبيرغ
وفي ظل هذا السيناريو المرجح، تكمن فرصة بلومبيرغ في القفز إلى الانتخابات التمهيدية يوم الثلاثاء العظيم، حيث يتوقع البعض أن يتراجع بوتيجيج لكونه من المثليين ومتزوجا من رجل (رغم أن أحداً لا يصرح بذلك)، وهنا سيكون بلومبيرغ مستعداً لتقديم نفسه بكفاءته وقدراته المالية مدعوما بعدد من المستشارين السياسيين لإظهار نفسه كمرشح وسطي قادر على نيل الأصوات.
ومع الفشل المتوقع لإجراءات عزل ترمب في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، سوف يصرخ القادة الديموقراطيون بحثاً عن ملياردير وسطي نظراً لتضاؤل فرص هزيمة ترمب من مرشح تقدمي بأفكار يسارية.
قد يكون ملياردير مانهاتن هو الوحيد المؤهل على الساحة الديموقراطية ليكون رئيساً في غياب مرشح وسطي قوي مثل بايدن قبل أن تغرقه اتهامات ترمب في وحل أوكرانيا، وقد ينجح بلومبيرغ ضد ترمب في معركة المليارديرات بين أبناء نيويورك، فكل منهما يعرف الآخر ويعلم نقاط ضعفه وقوته، لكن الأمور ستتوقف في النهاية على انعكاسات إجراءات عزل ترمب على حظوظه ومدى تماسك الحزب الديموقراطي خلف مرشح واحد قد يكون بلومبيرغ.