في مقالتي الموسومة "شباب العراق يقتلع أوتاد إيران"، المنشورة في "اندبندنت عربية" بتاريخ 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، كتبت في النص الأخير ما يلي:
"إنّ تحرك الشباب العراقي باقتلاع الأوتاد الإيرانية، سيكون رد الفعل قويّاً ومدويّاً داخل إيران نفسها، وفعلاً بدأت اليافطات تكثر في طهران بتأييدها للتظاهرات العراقية. فالشعوب داخل جغرافية إيران تمور وتغلي أيضاً من طغمة العمائم الحاكمة. وبالضرورة، سيمتد رد الفعل بقلع الأوتاد لينهي المشروع الإيراني وسياسته الداعمة للإرهاب في المنطقة العربية خصوصاً، وفي العالم عموماً".
وفعلاً، كان الوضع الشعبي داخل إيران يراقب ويتابع انتفاضة شباب العراق، خصوصاً أنها انطلقت من المناطق ذات الكثافة الشيعية، ويتابع كيف أن قاسم سليماني ذهب إلى بغداد، وتولى بنفسه قيادة القمع الوحشي، لكن القتل والاعتقال والاختطاف لم ترهب شباب العراق، بل أثبتوا قدرتهم على الصمود وتقديم التضحيات، وأنهم ماضون سلمياً في تحقيق أهدافهم بإسقاط الطبقة السياسية برمتها، واستعادة وطنهم المسلوب منذ 16 عاماً.
وهكذا حفّزت انتفاضة العراق الشارع الإيراني، وأثرت بصورة أو أخرى في تسريع الحراك الشعبي، الذي يعاني أصلاً من ضغوطات اقتصادية وسياسية مزمنة بسبب الطبقة الدينية الحاكمة. وما إن بدأت حكومة إيران يوم الجمعة المصادف 15 من الشهر الحالي نوفمبر، بتقنين البنزين، وأعلنت رفع سعره من 50 إلى 300 في المئة وفق كمية الاستهلاك الشهري، في خطوة تهدف إلى خفض الدعم، حتى تفجرت في اليوم التالي تظاهرات في مُدن عدّة. وبعد يومين، ازداد الوضع غلياناً شعبياً عارماً في أكثر من مئة مدينة، عندما أصّر المرشد الأعلى علي خامنئي على هذه الزيادة.
في الواقع، إنّ رفع سعر البنزين مجرد شرارة أحرقت صدور السواد الأعظم من الإيرانيين، فاندفعوا بدورهم لحرق ما يزيد على 100 من المصارف الحكومية أو التابعة إلى الحرس الثوري الإيراني، ونحو 50 من المتاجر الكبيرة، ومئات من سيارات الشرطة، إضافةً إلى إشعال النيران في الصّور الجدارية للخميني وخامنئي وتكسير تماثيلهم، وغلق عددٍ كبيرٍ من الطُرق السريعة في المدن الرئيسة ومهاجمة الممتلكات العامة.
في إيران، التدهور الاقتصادي متأزم، والفساد يزداد استفحالاً، ونسبة الفقر والبطالة تتصاعدان، وتتراجع الجوانب الخدمية والصحية والتعليمية...الخ. وفوق هذا وذاك، استمرار الدعم المالي والتسليحي في سياسة النظام للمجموعات المرتبطة به في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ناهيك عن الخلايا النائمة، إذ إنّ إجمالي كلفة هذا الدعم، يأتي على حساب جميع الإيرانيين وحقوقهم المشروعة.
عندما يسقط أكثر من 300 قتيل في غضون 72 ساعة من التظاهرات، ونحو 4 آلاف مصاب، وما يزيد على 5 آلاف معتقل، يعني أن الحراك الشعبي لا يستهدف نطاق المشكلة الاقتصادية فقط، بل الجانب السياسي أيضاً. فالنظام القائم منذ أربعين سنة، لم يقدم للبلاد غير المزيد من التدهور في المجالات كافة والفساد المستشري لدى الطبقة الدينية الحاكمة ومواليهم من السياسيين والعسكريين، والفتك والعنف ضد كل مَنْ يعترض، فقد استُخدم الرصاص الحيّ ضد المتظاهرين المدنيين، وقُطعت شبكات التواصل الاجتماعي في عموم إيران.
وكالعادة، اتّهمت جهات رسمية أطرافاً خارجية، منها أميركا وإسرائيل، بالسعي لإخلال النظام العام. فالحرس الثوري الإيراني قال إن السلطات الأمنية ألقت القبض على مَنْ سمّاهم قادة التحركات التخريبية ومثيري الشغب في أربع محافظات، كانوا على صلة بجهات استخبارية أجنبية.
أمَّا مرشد إيران علي خامنئي، فقد حمّلَ "الأعداء" مسؤولية التخريب، قائلاً في خطاب بثه التلفزيون الإيراني، إنه "تم دحر العدو خلال الأحداث الأمنية في الأيام الأخيرة". وعلى هذا المنوال، اتّهم الرئيس الإيراني حسن روحاني، "الأعداء والأجانب" بالوقوف وراء الاحتجاجات.
وشبّه نائب رئيس الحرس الثوري علي فدوي، الاحتجاجات بعملية "كربلاء 4" التي تكبّدت فيها إيران خسائر كبيرة وفادحة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وقال إن 28 محافظة تورّطت في الاحتجاجات، ولقد "حاربنا لمدة 48 ساعة" وتمكنّا من احتوائها.
وبالنسبة إلى قائد الباسيج سالار آبنوش، فقد وصف تلك الاحتجاجات العارمة والواسعة، التي طغت في عموم إيران، بأنّها "حرب عالمية حقيقية" وبأنّ "إخمادها كان معجزة".
إن ما يميّز هذه التظاهرات والاحتجاجات الشعبية في إيران عن سابقاتها في 2017 و2009 وما قبلها، أنها ليست داخلية بحتة، وإنّما لها صلتها بما يجري من حراك شعبي مضاد لسياسة إيران في العراق ولبنان. فعندما تُكتب لافتات في طهران تأييداً للانتفاضة القائمة في العراق، أو تُردَّد هتافات: "لا غزة لا لبنان، روحي فدا إيران"، وغيرها من المواقف، فإنها تعكس وضعاً شعبياً مضاداً لسياسة النظام الحاكم، الذي له مشروعه السياسي السلبي في البلدان العربية.
بلا أدنى شك، يوجد تأثير ملحوظ لانتفاضة شعب العراق في شعوب إيران. وإذا استطاع النظام الإيراني أن يقمع المحتجين، وبطريقة سريعة قياساً لحجم الاحتجاجات الهائل، فإن صموّد المنتفضين العراقيين واستمرارهم بتقديم التضحيات وصلابة التلاحم الشعبي، سيؤثر مرة أخرى في تسريع الحراك الشعبي داخل إيران، خصوصاً أن القوات الإيرانية ومجموعاتها الطائفية المسلحة ما زالت تقتل الشباب العراقي المنتفض.
وتجاه هذه الاوضاع، يستمر نظام الملالي على النهج الأمني ذاته، وذلك باستخدام القوة بشكل طردي، تتصاعد وتنخفض بحسب حدة التظاهرات والاحتجاجات. لكن مستقبلية هذه السياسة القمعية لن تسعف النظام الإيراني، لأنه لا يواجه "الأعداء" كما يزعم خامنئي وروحاني، بل شعوب تنتفض ضد سياسة الطبقة الدينية الحاكمة، جراء الفساد والتسلط ونفي الآخر.
إن لم نُشر إلى أن المشروع الإيراني الذي تمدّد في بعض البلدان العربية، فإنه آخذ بالتآكل التدريجي. فما يجري منذ أسابيع في العراق ولبنان من ثوران شعبي، وما سيترتب عليه في سوريا واليمن، فضلاً عن الدور الذي تلعبه السعودية سياسياً وعسكرياً، كل ذلك سيؤثر في المشروع الإيراني، ولا محال سيؤدي إلى تراجعه عاجلاً وليس آجلاً.