أدى الحجب الصارم من جانب النظام الإيراني لخدمات الإنترنت على مدى أسبوع، خلال الاحتجاجات المناهضة للحكومة على مستوى البلاد، إلى تكبّد الاقتصاد الإيراني المتعثّر ما يُقدّر بنحو 1.5 مليار دولار هذا الشهر. لكن هذا الثمن قد لا يكون الجانب الأكثر ضرراً في عملية القطع، فبحسب خبراء وجملة تسريبات، قد تكون هذه الخطوة مؤشراً إلى تطورات أسوأ من شأنها أن تحصل في المستقبل، بحيث يسعى النظام إلى تقييد وصول المواطنين الإيرانيّين إلى العالم وتواصلهم معه.
ويعتبر الرئيس التنفيذي لإحدى شركات التكنولوجيا في شمال وسط طهران، وعدد العاملين فيها 10 موظّفين، أن "التأثير الجانبي الأسوأ لا يتمثّل في الخسائر المالية المباشرة. فما هو أسوأ الآن، هو أن أغلب أصدقائي يبحثون عن أيّ وسيلة لمغادرة البلاد".
الهدف من التعتيم على الإنترنت هو وقف نشر معلومات عن الاحتجاجات الحاصلة، ومنع تسريب أشرطة الفيديو التي تظهر مدى غضب المحتجّين الذين يواجهون قوى النظام من الارتفاع المفاجئ والكبير لأسعار الوقود.
وعلى الرغم من رفع السلطات الإيرانية الدعم عن المحروقات وزيادة أسعار البترول جزئياً لدعم الاقتصاد، فإن حملة القمع التي عقبت تلك الإجراءات، قد تؤدّي إلى إلحاق ضرر أكبر به. فقد تسبب العنف الذي تمارسه قوى الأمن في مقتل 143 شخصاً على الأقل، وفق أرقام "منظّمة العفو الدولية". وكان من بين الضحايا بويا بختياري، الشاب البالغ من العمر 27 عاماً، الذي تردّد أنه قضى برصاص قوّات الأمن في السادس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) في مدينة كرج شمال البلاد، حيث قُتل ما مجموعه 9 أشخاص. وجاء اغتياله بعدما سجّل فيديو، ينتشر الآن على الإنترنت، حضّ فيه مواطنيه الإيرانيّين على النزول إلى الشوارع.
مناورة قطع الإنترنت نجحت إلى حدّ كبير في فصل البلاد عن باقي أنحاء العالم، ما شل القدرة على التواصل ما بين أفراد الأسر الإيرانية، ووضع حدّاً لاتصال الأصدقاء بعضهم بالبعض الآخر، وحال دون إجراء أي أعمال تجارية.
وبالنسبة إلى كثير من المواطنين، أظهرت الإجراءات الصارمة المدى الذي يمكن أن تذهب إليه النخبة الحاكمة الممسكة بالنظام في الإجراءات التي تتّخذها للتشبّث بالسلطة، والتستر عن الجرائم التي تُتّهم قوى الأمن بارتكابها. وقد أيّد حتى الرئيس الإيراني حسن روحاني المعتدل نسبياً القمع السياسي، مخيّباً أمال غالبية سكان المدن من الطبقة الوسطى الذين صوّتوا مرّتين لمصلحته في الانتخابات، ضدّ مرشّحين معروفين بتشدّدهم.
وفيما اكتفى مسؤولون غربيون بإدانة هذا الإغلاق لشبكة الإنترنت في إيران، قامت الولايات المتحدة وحدها بفرض عقوبات. فقد وضعت وزارة الخزانة الأميركية هذا الأسبوع قيوداً على التعاملات مع وزير الاتصالات الإيراني محمد جواد آذري جهرمي.
وجاء في بيان الوزراة أنه "على الرغم من التصريحات التي أدلى بها آذري جهرمي وقال فيها إنه يدعم توسيع نطاق الوصول إلى الإنترنت في بلاده، فقد غطّى مراراً التدابير التقييدية المتزايدة التي اتّخذتها وزارته، باعتبارها ضرورية للحفاظ على الأمن القومي الإيراني، وادّعى كذلك أن وراءها تهديدات أجنبية بإطاحة النظام".
أما مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي فاتّهم في مقابلة إذاعية هذا الأسبوع السلطات الإيرانية بإغلاق الإنترنت، حتى تتمكّن من القيام بأنشطة تحديداً تحت جنح الظلام، ومن دون أي اتصالات".
وبحسب وثيقة مسرّبة بدت صحيحة نشرتها شبكة "بي بي سي" البريطانية، فإن من الممكن أن تكون السلطات الإيرانية في طهران بصدد التخطيط للسيطرة بشكل أكبر على شبكة الإنترنت لديها، والعمل فعلاً على وضع خططٍ مع مؤسّسات الدولة تتيح لها الوصول إلى أدواتٍ ومواقع في الشبكة العالمية تساعدها على منع الإيرانيّين العاديّين من الوصول إلى خدماتها، على أن يتم توجيههم نحو استخدام شبكة إنترنت محلية تخضع كليّاً لإشرافها.
ويرى خبراء أنه في الوقت الذي يستخدم فيه مسؤولون في طهران، وسائل التواصل الاجتماعي الغربية للترويج لجدول أعمالهم الجيو سياسية، يضعون الأسس لعزلٍ محتملٍ لمواطنيهم الإيرانيّين العاديّين عن شبكة الإنترنت الأوسع نطاقا، من خلال ما تُسمّى رسمياً في الداخل "شبكة الإنترنت الوطنية"، وينفي هؤلاء المسؤولون أن تكون شبكة الإنترنت هذه، هي الوحيدة التي ستعمل في البلاد.
وتقول مهسا علي مرداني الباحثة في جامعة أكسفورد في مجال حرية استخدام الإنترنت، والعضو في المنظمة البريطانية، "المادة 19" (19 آرتيكل)، التي تدافع عن حرية التعبير، إن "مسار التطورات في إيران على مدى الأعوام العشرة الأخيرة، مهّد لسيناريو يمكن للسلطات من خلاله أن تنفّذ هذا الإغلاق الكبير للشبكة. وعلى مدى العامين الماضيين تحديداً، أشارت السياسات والتطورات المستحدثة ولا سيما منها ما يتعلق بـ"شبكة المعلومات الوطنية"، إلى أن الأمور ستؤول إلى مثل هذا الاغلاق".
وتضيف علي مرداني إن "كل حركة احتجاج جماهيرية حصلت في إيران منذ أول تحرّك في عصر الإنترنت في 2009، نجم عنها مزيد من مركزية التحّكم بشبكة الإنترنت في البلاد وزيادة القيود الناظمة عليها".
وفيما يصرّ وزير الاتصالات الإيراني آذري جهرمي على نفي وجود مثل هذه الخطط، قال إمام صلاة الجمعة المتشدد محمّد جواد حاج علي أكبري، لجمع تابع للنظام الإيراني في جامعة طهران، إن إغلاق الإنترنت كان "اختباراً واعداً" في انتظار التنفيذ الكامل لـ "شبكة المعلومات الوطنية" التي رأى وجوب التعجيل في إتمامها والبدء في العمل بها.
وسعى بعض العلماء والمحللين إلى التحقّق من التأثير المالي المباشر على البلاد نتيجة الإغلاق الأخير لشبكة الإنترنت. وقدّر هؤلاء الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الوطني بنحو 370 مليون دولار في اليوم، إلى ما مجموعه أكثر من مليار دولار أميركي. ونشرت صحيفة "مردم سالاري" التابعة للتيّار الإصلاحي تقريراً قدّر تلك الأضرار بنحو 1.5 مليار دولار.
وأدّت الاضطرابات الأخيرة إلى إزهاق أرواح وإلى دخول التجارة في حالٍ من الفوضى. فاستناداً إلى إحصاءات رسمية، يستخدم قرابة 62 مليون شخص من أصل 82 مليوناً في إيران، الإنترنت على أجهزتهم المحمولة. ووصف تقرير مفصّل نشرته صحيفة "مردم سالاري" في الثالث والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) الأضرار التي لحقت بالتجارة، بأنها "تفوق التصوّر".
وأدّى إغلاق الإنترنت إلى عمليات بيع قياسية في بورصة طهران. وأسفر عن فقدان القدرة على التواصل ما بين السفن التجارية والموانئ الإيرانية. وعطّل في المقابل، خدمات تتبّع تسليم الشحنات، وأوقف حركة مكاتب تحويل العملات. أما طلاب الجامعات فباتوا غير قادرين على الوفاء بالتزاماتهم وبالمواعيد النهائية لتقديم طلباتهم للامتحانات. وساهم انقطاع الشبكة في تأخر السفارات الأجنبية عن منح تأشيرات، وعدم تمكّن وكالات السفر من إصدار تذاكر. وعجزت الصيدليات عن ملء الوصفات الطبّية لتأمين الدواء.
وقال سيد رازي حاج أقميري العضو في غرفة التجارة في طهران لصحيفة "اعتماد"، إن "الساعات والدقائق مهمّة في التجارة الدولية، وعندما نفشل في تأمين متطلّبات المستوردين لأي سبب من الأسباب، فإن بلداناً وشركات أخرى ستحلّ مكاننا".
وتوقّفت في المقابل، تطبيقات طلب سيارات الأجرة وخدمات توصيل الأطعمة التي يستخدمها الإيرانيّون ويعتمدون على الإنترنت بشكل متزايد في مجال استعمال تلك التطبيقات.
ويقول مسؤول تنفيذي في مجال الإنترنت، إن الإغلاق كلّف شركته الناشئة في مجال التجارة الإلكترونية قرابة 4 آلاف دولار من الخسائر في عائداتها، وهو "مبلغ كبير لشركة برمجيات إيرانية صغيرة". ويوضح أن شركته تحتاج إلى تكاليف تشغيل يومية قيمتها نحو 500 دولار، ولو استمر الإغلاق أكثر لكان قد أجبر على تسريح العاملين. ويقول: "أوقفنا جميع مشاريعنا، فتطوير البرمجيات من دون إنترنت هو في الواقع أمر مستحيل".
وقرّرت شركات أخرى تعاني من الوضع القائم، إغلاق متاجرها إغلاقاً دائماً، كما يقول أحد العاملين في صناعة تكنولوجيا المعلومات في إيران. ويشير في معرض حديثه عن الآثار المترتّبة عن إقفال شبكة الإنترنت، إلى أن "أحد زملائه لديه شركة صغيرة مبتدئة ظلّت تكافح لنحو أربعة أعوام، وجاهد بشقّ الأنفس لإبقائها قيد العمل، وظلّ يدفع رواتب 10 أشخاص. لكن الإنترنت معطّلة الآن وهو لا يكسب المال، لكنه لا يزال يدفع رواتب موظّفيه".
وزير الاتصالات الإيراني آذري جهرمي، وعد في بيان له هذا الأسبوع، بأن تحاول السلطات الإيرانية تعويض الشركات عن خسائرها. ونقلت عنه بعض وسائل الإعلام أن "بعض الخسائر يتعذر تعويضها، لكننا سنبذل وسعنا في تعويضها".
وعلى الرغم من أن هذا الوضع قد يكون مغرياً بالنسبة إلى السلطات الإيرانية، فإن عزل المواطنين تماماً عن شبكة الإنترنت سيكون أمراً صعب التحقيق. ويعود ذلك، إلى حدٍ كبير، إلى أن الاقتصاد يعتمد اعتماداً كبيراً على تطبيقات الشبكة العنكبوتية وأدواتٍ عالمية مثل تكنولوجيا التشفير "بلوكتشين" التي تُستخدم في التعاملات المصرفية. وتقول مهسا علي مرداني في هذا الإطار "لا يمكنهم عزل الإيرانيّين عزلاً كاملاً عن شبكة الإنترنت الدولية. فهذا يعني أن الاقتصاد والصناعة في البلاد سيعملان في معزل عن بقية دول العالم".
© The Independent