تجمّدت أيدي المهرة من صنّاع "القيشاني" في العاصمةِ السورية، بعدما أغلقت ورش الحرفة أبوابها، وهي الشهيرة بإنتاج أجمل الخزف الملوّن في المنطقة، مكتسبةً هويتها التراثية من فنها المعجون بين الطين ويد حوّلتها إلى تحف لا تُقدَّر بثمن.
حرفة انزوت على نفسها بعدما كانت بوصلة أمهر الفنانين والرسامين والحرفيين، أنتجوا على مر الزمان أجمل اللوحات والتُحف في البيوت الدمشقية القديمة وحمامات المدينة ودور العبادة.
الياسمين القيشاني
من لا يعرف "حمام القيشاني" في دمشق وهو المرصّعُ بلوحات أبدعها في العهد العثماني والمملوكي، الحرفي الدمشقي وارتبط بالمدينة القديمة الضاربة في عمق التاريخ والحضارة.
مكانة "القيشاني" ألهمت منتجي الدراما السورية، صناعة عمل درامي يحمل اسمه لأهمية هذا المكان قبل عقود. تحدّث هذا العمل وقتها عن حِقبٍ عدّة من التاريخ الاجتماعي والسياسي لسوريا الذي يُعتبر من أيقونات الدراما السورية، إذ امتد لخمسة أجزاء.
عددٌ من المحلات المنتشرة في المدينة تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، موجودة في الأماكن السياحية تَعرضُ التحف واللوحات الزرقاء أو الخضراء، معشّقةً بخطوطها النباتية كأنها تحاكي ياسمين الشام ورائحته الممزوجة بقيشانها الشهير.
الفرن البارد
في مقابل ذلك، عزفت ورش الخزف الدمشقي عن العمل، مغلقةً أبوابها لأسباب مالية بحتة بعدما وضعت الحرب بصمتها على أكثر الحرف اليدوية شهرةً، فنالت منها، من دون طائل من عودتها إلاّ باستقرار الأوضاع في بلد استُنزِفت مقدراته الاقتصادية.
وزادت الأزمة المالية وغلاء الأسعار من الفتك بالحرفة وطمسها وكانت أشدّ وطأة على معلّمي الحرفة وصنّاعها. في أحد أماكن عرض التحف في دمشق، يجلس أحمد الرباط، متحسراً على حرفته التي سادت ثم بادت، فلا وجود لتحف القيشاني سوى تلك المصنوعة في السابق أو عدد قليل منها صُنِع حديثاً وذلك لأسباب تتعلّق بمستوى الطلب وعدد الزبائن.
واقع الصنعة
يرى رباط أن واقع حرفته لا ينبئ بالخير، إذا ظلت الأسواق تعاني الجمود وتصريف المواد غير متاح. ويقول "الحرفة وصلت إلى درجة الصفر، ولا يوجد أي إنتاج وهناك نضوب في تصريف المنتجات".
صعوبات تواجه الحرفيين، من بينها، كما ذكر حرفي القيشاني، وأبرزها، عدم توفر الكهرباء وعوامل الطاقة لإنتاج العمل، موضحاً "لا بُد من أن يبقى العمل في الفرن مدة لا تقل عن 12 ساعة متواصلة وهذا الفرن يعمل على التيار الكهربائي، لكن هذا الأمر غير ممكن بسبب ساعات التقنين الطويلة. وإذا انقطعت الكهرباء عنه، سيُلقى كل العمل إلى الخارج ويُهمَل. وإن تحولت إلى المولَّد، فإن تكلفة الكهرباء ستكون عالية مع عدم توفر مادتَيْ البنزين أو المازوت وحتى الغاز".
ويعيد أصحاب الورش حساب تكاليف البلاطة الواحدة من القيشاني بعد صنعها، إذ كانت تكلّف حوالى 100 ليرة سورية قبل عام 2011 حين كان الدولار يساوي 50 ليرة سورية، أي ما يعادل دولارين، وكان سوق التصريف والشراء منتعشاً أمام السياح، عدا عن أهل البلد ممَن يودّون اقتناء القيشاني.
اليوم، زاد سعر تكلفة البلاطة الواحدة الضعف، وسط فقدان الحركة السياحية من الزوار الأجانب ممَن يغدقون الأموال لشراء هذه التحف الفنية. بالتالي، فإن جمود الأسواق أدى إلى انخفاض الإنتاج وانعدامه وعزوف الحرفيين عن صناعة القيشاني ومنهم مَن هاجر، لا سيما مع انهيار الليرة وغلاء المواد الأولية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من تراب "الزبداني"
يشرح الحرفي رباط طرق إنتاج القيشاني، بعد أن يأتي بالتراب الذي يطلق عليه "تربة المزر" وتُستقدم من تراب "الزبداني" و"مضايا" في ريف العاصمة دمشق: "نضعها في براميل من أجل عملية التصويل مع الماء. وبعد نقاء التربة من الشوائب، تأتي مرحلة التنشيف ونضعها ضمن قوالب لتخرج منها "مزهريات" سائل أو ننشفها ونكيسها لنصنع منها البلاط".
ويضيف: "إن المرحلة الثانية، يطلق عليها "شوي البسكوت"، أي شوي القطعة في الفرن في مرحلة أولى لتجف الماء فيها، بعدها نرسم بقلم الرصاص لوحات نباتية أو كتابية وبعد تلوينها بـ"أكاسيد" زجاجية، كانت في ما سبق أحجاراً ملوّنة".
والمعتاد في تحف ولوحات القيشاني وخزفه، اعتماد اللون الواحد الأساسي وهو الأزرق أو الأخضر و"بتنا نضيف لوناً آخر هو القرميدي من جديد".
وبعد وضع الألوان والتنشيف مجددا،ً تدخل القطع إلى الفرن ويقول الحرفي في معرض حديثه "تُشوى لتذوب الأكاسيد، ثم توضع في الفرن على درجة حرارة تصل إلى ألف. بعد ذلك نطفئ الفرن وننتظر حتى يصل إلى درجة الصفر، ثم نخرج القطع".
كما يمكن للحرفي تعتيق القطع بواسطة دهن مادة من الزفت مع مادة المازوت، ما يعطيها لوناً يحاكي اللوحات القديمة.
صناع "القيشاني" ممّن بقوا في البلاد ولم يسافروا أو يهاجروا، ينتظرون الفرصة السانحة لاستئناف عملهم، فالشوق لإنتاج القطع الفنية ما زال حلماً يراودهم، لإحياء حرفة الآباء والأجداد.