عندما يجلس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى طاولة المفاوضات قبالة نظيره الروسي فلاديمير بوتين في باريس يوم الاثنين، فسيفعل ذلك -بالكامل إلى حدّ ما- بشروط الأخير.
فمنذ تولّي السلطة في شهر أيار (مايو)، عمل زيلينسكي بجهد كي تُعقد قمة "النورماندي" الرباعية التي تضمّ كلاّ من فرنسا وألمانيا وأوكرانيا وروسيا. وينظر الرئيس الصاعد إلى لقائه بندّه سيّد الكرملين، على أنه جزء مهمّ من مرحلة ما قبل الانتخابات لإنهاء الحرب في أوكرانيا التي دامت زهاء خمسة أعوام، في 12 شهرا. وبالحرص نفسه الذي عمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تأمين عقد لقاء يجمع وجهاً لوجه كلاً من زيلينسكي وبوتين، كان الرئيس الأوكراني حريصاً على ترك بصمته في العالم وبناء علاقات أفضل مع موسكو.
لكن الاتفاق على الموعد مع بوتين أثبت بما لا يقبل الجدل، أنه استغرق ستة أشهر واستدعى تقديم تنازلات أوكرانية عدة "لبناء الثقة". والأمر الأكثر إثارة للجدل أنه يعني موافقة كييف على المسار السريع للأمور من خلال منح عفوٍ وإجراء انتخابات في مناطق النزاع في دونباس.
ويعتبر الرئيس الأوكراني من جهته، أن مجرد دفع روسيا إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات هو في حدّ ذاته انتصار. وقد أكّد ليل الجمعة لجمهور لقاءٍ حواري، أن محادثات باريس ستسمح له "بالتفهّم والشعور بأن الجميع يريد إنهاء هذه الحرب المأسَاوية".
وكان الرئيس الروسي قد أظهر طوال تلك الحرب التي كلّفت آلافاً من الأرواح، موهبة في التفاوض من موقع القوة ومن موقع المتقدّم والواثق الذي يمتلك أوراق اللعبة.
فقد وقّع أول اتفاق سلام "مينسك 1" في سبتمبر (أيلول) من العام 2014، بعد تصعيد استمر ثلاثة أسابيع قامت به القوّات المدعومة من موسكو، التي أحبطت القوّات الأوكرانية وأضعفتها. ووقّع اتفاقا آخر هو "مينسك 2" في فبراير (شباط) من العام 2015، بعد ليلة إحراق النفط ووقوع معركة دموية في مدينة السكك الحديد الاستراتيجية ديبالتسيف.
وترى موسكو اليوم أن المدّ يتحوّل مرّة أخرى في مصلحتها، بحيث أشار معلّقون محلّيون إلى أن مسارعة الطرف الآخر إلى التفاوض، قد أتاحت الفرصة للتوصل إلى اتفاق مبكّر بشأن العقوبات. ويقول الديبلوماسي الروسي السابق فلاديمير فرولوف إن "بوتين يحمل جميع الأوراق إلى هذا الاجتماع، في حين أن زيلينسكي وماكرون قد خسرا أي موقع قوي في التفاوض من خلال سعيهما الحثيث إلى التوصل إلى اتفاق." وأضاف: "من الخطأ الاعتقاد بأن موسكو تعرّضت لأي ضغط كي تصل إلى هذه النقطة."
الأمر لا ينطبق طبعاً على زيلينسكي الذي تعرّض لهجوم شديد من الداخل الأوكراني ولا سيما من المعارضين السياسيّين الذين انتقدوا اندفاعه نحو حضور الاجتماع. وقال بافلو كليمكين الذي تولّى منصب وزير الخارجية الأوكراني حتى صيف هذه السنة لصحيفة "اندبندنت" إن زيلينسكي "فشل في تقدير الأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل لبوتين" من خلال الموافقة بسهولة على الشروط الروسية لعقد القمّة. وسيجبر الرئيس الروسي كييف الآن على القيام بتفسير "جامد" لاتفاقيتي مينسك اللتين "تعرّضان أمن أوكرانيا للخطر"، بحسب رأي الديبلوماسي الأوكراني.
ويضيف كليمنكين: "يعتقد زيلينسكي بطريقة ما أنه سيفوز على بوتين بجاذبيته، وهذا أمر ساذج بشكل لا يُصدّق. إنه بحاجة إلى فهم أن الرئيس الروسي يريد تقسيم أوكرانيا باستخدام اتفاقيتي مينسك نواةً لنوع جديد من الفيدرالية. إنه يحاول فرض سلسلة جديدة من الحقائق في أوكرانيا."
ويشعر جزء من الجمهور الأوكراني، على الأقل، بقلق من احتمال تقديم كييف تنازلات لموسكو. فوفقاً لاستطلاعٍ للرأي العام أجراه مركز الأبحاث الأوكراني "رازومكوف سنتر"، تعارض غالبية الأوكرانيّين (59 في المئة) مشروع العفو ومسألة منح وضع خاص لمنطقة دونباس (56 في المئة). وقد اجتذبت الاحتجاجات على خطط السلام التي اقترحها الرئيس زيلينسكي بالفعل عشرات الآلاف من المتظاهرين، في حين أعلن الرئيس السابق بترو بوروشينكو وآخرون إطلاق مسيرة أخرى يوم الأحد.
لكن استطلاعات رأي أخرى أشارت إلى أن الغالبية العظمى من الأوكرانيّين تؤيّد جهود زيلينسكي لكسر الجمود بعبارات أكثر عمومية. فصبر هؤلاء كان قد نفد مع الحكومة السابقة التي لم تتمكّن من بلورة استراتيجية للسلام. حتى الديبلوماسيّين الأوروبيّين الودودين يئسوا من التعنّت المتزايد في شأن قضايا إنسانية مثل دفع الرواتب التقاعدية لأولئك الذين يعيشون في مناطق يسيطر عليها الانفصاليون.
وترى ناتاليا غومينيوك الصحافية الأوكرانية البارزة التي أعدّت تقارير مكثّفة من منطقة النزاع أن "من الجيد جدّاً أن يصف بوروشينكو وحلفاؤه الوضع الراهن بأنه على ما يرام. فجميعهم يعيشون في كييف، لذلك ربما يكون الأمر جيّداً بالنسبة إليهم. لكن ماذا عن أولئك الذين يعيشون في الشرق؟ الحرب هناك مستمرة والناس يموتون كلّ أسبوع. وعلى نقيض بوروشينكو، فإن لدى زيلينسكي خطة لإنهاء تلك الحرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويصرّ فريق الرئيس الأوكراني في الوقت نفسه على التأكيد أنه يدخل المفاوضات "بعيون مفتوحة بالكامل". واستناداً إلى المستشار الرئاسي نيكولاي بوتوراييف، يركّز الجانب الأوكراني على تحقيق "حلول براغماتية وواقعية" في ثلاثة مجالات. أولا، أن يحصل تبادل كامل لجميع السجناء. ثانيا، تحقيق وقف لإطلاق النار على خط المواجهة البالغ طوله أكثر من 400 كيلومتر. ثالثا، التحضير لانتخابات في منطقة النزاع "فقط بموجب القانون الأوكراني على أن يسبقها انسحابٌ للوحدات العسكرية".
ويعرب بوتوراييف عن ثقته في أن يتضمّن البيان النهائي بشكل شبه مؤكد جدولاً زمنياً لتبادل الأسرى. وقد ناقش الطرفان أيضاً موضوعي الانتخابات ووقف النار - لكن الأمر متروك للرئيسين للاتفاق على التفاصيل. وأعرب عن اعتقاده بأن "روسيا ستستجيب لمقترحاتنا البنّاءة. لأن الجمود وعدم القيام بشيء ليس خيارا".
وتبقى نقطة الخلاف التي تتكرّر وهي كيف ومتى تستعيد أوكرانيا سيطرتها على حدودها الشرقية التي هي تحت السيطرة الروسية الفعلية منذ صيف العام 2014. فاتفاقيتا مينسك للسلام لا تنصّان بوضوح على تسلسل زمني لقضية الحدود. لكن وفقاً للترتيب الذي تظهر به على الأوراق الموقّعة، فإن الموقف الروسي يريد إعطاء الأولوية لإجراء الانتخابات. ولطالما جادلت كييف بأن هذا التسلسل من شأنه أن يقوّض شرعية أي انتخابات يمكن أن تُجرى.
وفي البرنامج الحواري ليل الجمعة، أكد الرئيس زيلينسكي أن حكومته تخطّط لإعادة النظر في هذه المسألة الحاسمة، مشيراً إلى خطط لديه لإعادة فتح اتفاقيتي مينسك. وأوضح أنه أعدّ "خطّة أخرى للحدود وكيف يتمّ نقلها إلى سلطة بلاده ومتى تتحكّم فيها أوكرانيا لوحدها".
لكن من شبه المؤكد أن موسكو ستقف حائلاً من دون تحقيق هذه المساعي. فهي تعتبر اتفاقية "مينسك 2" التي تم التفاوض عليها أثناء التراجع الأوكراني، ضرورية لتحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثّل في الحفاظ على نفوذ لها داخل جارتها الدولة السوفياتية السابقة.
ويتوقّع الديبلوماسي الأوكراني السابق فلاديمير فرولوف في حديثٍ مع صحيفة "اندبندنت" أن "يصطدم زيلينسكي بجدار صلب عندما يبدأ الحديث عن تغيير في اتفاقيتي مينسك، أو عندما يطرح تغيير التسلسل الزمني من خلال تأمين الحدود أولا. وقد يفاجأ أيضاً عندما يكتشف أن الرئيس ماكرون سيكون في هذين الموضوعين إلى جانب فلاديمير بوتين".
من الواضح أن الرغبة المتزايدة لدى الرئيس الفرنسي في الوقوف إلى جانب موسكو قد سبّبت قلقاً في كييف. لكن في المقابل، من المرجّح أن تظلّ المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أكثر تعاطفا، خصوصاً بعد أحداث الأسبوع الماضي التي شهدت طرد ألمانيا ديبلوماسيَّين روسيَّين بعد اعتبارها أن موسكو تقف خلف "القاتل الدرّاج" الذي اغتال في وضح النهار ناشطاً جورجيّاً في برلين.
ومن المتوقّع أن تفضي النتيجة إلى مأزق جديد، على الرغم من إنهاء الأطراف مفاوضاتها بتبادل عبارات المودّة وبإظهار علامات الارتياح. ويؤكد بوتوراييف أن الجانب الأوكراني "سيعتبر أن اللقاء حقّق نجاحاً حتى لو تحدّث البيان الختامي عن أن الجانبين اتّفقا على مواصلة التفاوض. ففي الواقع، هذا يعني أن الديبلوماسية قد استعادت نشاطها".
© The Independent