تحتل المنطقة الجنوبية من سوريا أهمية خاصة من ناحية عدد المواقع الأثرية وكثرة الأوابد والمكتشفات التاريخية فيها، وتعد "بصرى الشام" من أغنى وأعرق مدنها المصنفة عالمياً كموقع أثري رئيسي ذي قيمة مرموقة في تاريخ الفن والفكر، إذ ترك الأنباط والرومان والبيزنطيون والأمويون آثارهم في هذه المدينة التي تُعد بتخطيطها الروماني المميز وآثارها المسيحية والإسلامية متحفاً مفتوحاً في الهواء الطلق.
فلسفة المدينة الرومانية
تتصف المدينة ذات التخطيط الهلنستي بتكوين شطرنجي على شكل مربع تقريباً، تتموضع في منتصف كل ضلع من أضلاع المربع بوابة، ويخترق المدينة شارع رئيسي يسمى "كاردو" على جانبيه أروقة ظليلة، يتقاطع معه شارع رئيسي آخر "ديكومانوسي"، وينتصب عند نقطة تقاطع الشارعين صرح معماري مؤلف من أربعة أعمدة يعرف باسم "المصلبة" أو "التترابيل"، كما تتعامد شوارع فرعية مع الشارعين الرئيسيين لتحصر في ما بينها مساحات مربعة أو مستطيلة من الأراضي التي تقوم عليها الدور والمنازل والمباني الرسمية.
ومن أهم المباني العامة التي تبرز معمارياً في المدينة الرومانية المعبد الرئيسي والمعابد الصغيرة والحمامات العامة والمسرح وقصر الحكم.
جولة سريعة
يستقبلك عند وصولك إلى المدينة القديمة بناء أثري ضخم مبني بألواح حجرية محلية، يمثل مدخلها الغربي الذي تتوسطه بوابة متصلة من الجانبين ببقايا سور قديم، ويشكل سقفها عقد حجري يزينه قوسان منحوتان على شكل عارضة بسيطة الزخارف، أما واجهته فهي ذات تصميم متناظر مؤلف من دعامتين بارزتين يتوسطهما محراب تعلوه جبهة هرمية صغيرة مزينة بنقوش يونانية.
ثم تقودك طريق رئيسة تسمى "الطريق المستقيم" الذي تشكله أعمدة ذات تيجان أيونية، وتتوزع على جانبيه المعالم الأثرية، بدءاً بالسوق الأرضية مروراً بـ "قوس النصر" ذي الثلاثة أقواس، ليأخذنا بعدها شارع متعامد مع الطريق المستقيم إلى "معبد حوريات الماء" الذي تمثله واجهة من أربعة أعمدة، ثم يقابل معبد حوريات الماء مبنى "الحمامات المركزي" وهو عبارة عن بهو مثمن، وإلى شمال المعبد نجد أعمدة أسطوانية تمثل بقايا "السوق الرئيسة" حيث تواجهها واحدة من أشهر آثار المدينة وهي "الكليبة" أو ما يعرف بحسب الأسطورة بـ "سرير بنت الملك"، وهو معبد لم يبق منه سوى الجدار الخلفي مع عمودين تعلوهما عتبة وإفريز مزينين بثراء بنقوش منحوتة، ثم تنتهي الطريق أخيراً إلى "البوابة النبطية".
المسرح الروماني
ويصنف مسرح بصرى الأثري، ومعه مسرح "Aspendus" في تركيا، من بين أفضل المسارح التي ما زالت ماثلة للعيان في العمارة الرومانية بأكملها، ويعد أضخم مسرح لا يزال سليماً بالكامل، فهو مطوق بشكل متلاصق بكتلة معمارية ثانية هي "القلعة الأثرية" التي شَكّل اندماجها المعماري مع كتلة المسرح بناء واحداً ذا دعم وتحصين قوي حوّل المسرح الروماني إلى ما يشبه المعقل، وربما كان هذا واحداً من الأسباب التي جعلت المسرح يصمد على مر الزمن، إضافة لكونه مشيداً من الحجر البازلتي المحلي (حجر بركاني أسود)، وهو حجر مضغوط غير مسامي، أكسب البناء صلابة تحدّت الزلازل والعوامل الطبيعية، كما أكسبه ميزة إكسائية مختلفة عن مسارح روما التي شيدت معظمها من الحجارة الرملية المغطاة بالجص الأبيض.
وتتحلى واجهة المسرح بصياغة معمارية جميلة، وتتألف من محاريب وثلاثة طوابق من الأعمدة الرخامية البيضاء التي دعمت جمالياً حجر البازلت ذا اللون الداكن، الذي كان من المرجح أن يُضفي استخدامه وحده في بناء ضخم كهذا رتابة مزعجة غير مرغوبة في العمارة، كما يتميز بناؤه بتقنية هندسية فريدة لتوزيع الصوت والضوء، ينسبها العديد من المؤرخين إلى المعماري "أبولودور الدمشقي" الملقب أيضاً بمهندس روما والذي تُرجِعُ بعض المصادر تصميم المدرج إليه.
المعالم الإسلامية
على الرغم من أن شهرة المدينة الأساسية قادمة من مسرحها الروماني الشهير، إلا أنها تتميز أيضاً بتأثيراتها المعمارية الإسلامية الواضحة، خصوصاً الأيوبية منها، فهي تحتوي على جوامع كالجامع العمري وجامع ياقوت وجامع فاطمة ومسجد الخضر، ومدارس كمدرسة الدباغة ومدرسة أبي الفداء، إضافة للقلعة والحمام.
كما أن للمدينة (بحسب المراجع) ارتباطاً وثيقاً بتاريخ النبي محمد الذي يُروى أنه زارها مرتين، والتقى بإحداها بالراهب "بحيرا" الذي أخبر عمه أن محمد هو النبي المذكور في الأناجيل الأصلية، وهناك دير ذو نمط بازيليكي مميز مسمى باسم هذا الراهب، ويقع بالقرب منه موقع يقال إن ناقة النبي محمد بركت فيه وبني عليه مسجد سُمي "مبرك الناقة".
الكاتدرائية البيزنطية
تعد كاتدرائية بصرى مثالاً فريداً للكنائس المخططة مركزياً من حيث تاريخ تطور الأشكال المعمارية للكنيسة الأولى، وهي عبارة عن مربع يحيط بدائرة مطوقة بمثمن تعلوه قبة، تتلامس الدائرة مع أضلاع المربع من ثلاثة جوانب، وتشغل الزوايا المتشكلة محاريب عريضة على شكل تجويف كبير نصف دائري، وهناك ثلاثة مداخل مفتوحة في الدائرة في منتصف كل ضلع من أضلاع المربع ما عدا الشرقي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يذكر أن بناء "آيا صوفيا" في إسطنبول صمم على مثالها، مع تفادي الأخطاء الإنشائية التي ارتكبت في تصميم كاتدرائية بصرى والتي جعلت القبة تنهار مرات عدة بسبب سوء دعائمها.
المتحف الأثري
تم اختيار بعض أبراج القلعة مقراً لصالات المتحف نظراً للأهمية المعمارية لهذا المكان، حيث خصصت ثلاثة مواقع رئيسة لعرض الآثار، فضم البرج الخامس متحف التقاليد الشعبية الذي يقدم صورة عن حياة سكان المنطقة والأدوات والمعدات المستخدمة، إضافة لغرفة العروس وطقوس الزواج، ونماذج أزياء شعبية من فلكلور المنطقة المحلي، وخصص البرج السابع لمتحف الآثار الكلاسيكية والإسلامية، وهو مقسم لخمس صالات على نمط أواوين مجهزة بـ 12 خزانة خشبية لعرض المجموعات الأثرية من لقى فخارية وخزفية، أما المتحف المكشوف فهو على شكل ساحة سماوية واسعة تقع خلف المسرح يحيط بها ثلاثة أبراج الرابع والعاشر والحادي عشر، ويحتوي على التماثيل والمنحوتات والنقوش والكتابات الحجرية التي تعود لحضارات مختلفة، فنجد تماثيل مثبتة على قواعد "بيتونية" أو كتل حجرية أثرية، ومنحوتات زخرفية وكتابية وضعت على الأرض مباشرة، إضافة للوحة كبيرة من الفسيفساء معلقة على جدار الساحة.