في روايتها الجديدة "عبء الزمن" (نوفل/ هاشيت أنطوان)، ترصد الروائية اللبنانية نازك سابا يارد تأثير الزمن على الإنسان، لا سيما حين يُصبح وحيداً وقد انفض عنه الأحبة والأصدقاء الذين يُخففون بوجودهم من وطأته الثقيلة، ويُساعدون في تحمل نوازله الكثيرة، حتى إذا ما تفرقوا وشطت بهم السبل، يكون على الإنسان أن ينوء بعبء الزمن وحيداً.
هذا ما تفعله الكاتبة من خلال حكاية سامية، الشخصية المحورية في الرواية، التي تعيش مجموعة من الوقائع هي نقاط تحول يكون لها مضاعفاتها وتداعياتها على هذه الشخصية. تُشكل واقعة خطف الزوج نبيل دقداق، في بداية الرواية، نقطة التحول الأولى في مسار الأحداث، تجعل سامية تتردى في مهاوي القلق والخوف على مصيره، وهي الأم لولدين صغيرين، غير أن وقوف الأصدقاء إلى جانبها يُساعدها في تحمل نازلة الزمن الأولى. وتُشكل واقعة قتله ورميه أمام باب شقته وقد اخترقت رصاصة قلبه نقطة التحول الثانية التي تزلزل حياة سامية، وتجعلها تطوي النفس على حزنها وعزلتها وتخلي أصدقاء الزوج عنها، ولا يخرجها من هذه العزلة سوى عثورها على عمل في شركة خاصة وانخراطها في علاقة صداقة مع زميلة العمل هدى، فيأتي العمل والصداقة الجديدة ليساعداها في تحمل نازلة الزمن الثانية.
في علاقتها مع هدى، تتعرف سامية إلى شقيقها فادي العائد من السفر، فَيُعجَب بها ويعرض عليها الزواج، غير أن وجود ولدين صغيرين لديها وفارق العمر بينها وبينه يجعلانها تعيش صراعاً داخلياً بين أمومتها وحبها يتمخض عن إيثارها الأمومة على الحب والزواج، فتنصح فادي بالبحث عن غيرها، لا سيما أنها تكبره بستة أعوام، فيعيش بدوره صراعاً بين حبه لها ورغبته فيها وبين خوفه من فقدانها، ويكون فراق بين الاثنين، حتى إذا ما ماتت أمه بعد مدة طويلة، تقوم سامية بواجب التعزية، ويلتقيان مجدداً، فيجدد عرضه السابق، لا سيما أن ابنتها سهى قد تزوجت وابنها طارق أصبح أكثر تفهماً لحق أمه في حياة طبيعية، فتقبل عرضه، وتستقر حياتها، وتعيش أياماً هانئة بين العمل والأصدقاء، وتشعر بسعادة لم تشعر مثلها منذ فقدت زوجها الأول نبيل. وتأتي واقعة هروب ابنتها سهى، خلال هذه الفترة، مع حبيبها أحمد للزواج في قبرص، لتشكل نقطة تحول أخرى في حياة سامية يكون لها نتائجها، إلا أن تفاعلها مع هذه الواقعة لم يكن على قدر أهميتها، وهي مسألة تتعلق برسم الشخصيات، وقد طغت على تفاعلها الإيجابية والعمل على استيعاب النتائج المترتبة عليها.
الزمن بالمرصاد
لم يكد الزمن يبتسم لسامية بزواجها من فادي ودخولها في مرحلة من الاستقرار حتى كان لها بالمرصاد مجدداً، فيشكل مرض فادي المفاجئ بسرطان الرئة نقطة تحول أخرى يكون لها وقع الصاعقة عليها، وتكون الطامة الكبرى حين يموت فادي تاركاً سامية وحيدة في مواجهة الزمن وقد مات زوجها وسافر ولداها، وتجد نفسها على شرفة منزلها "تتأمل غابة الصنوبر في الأفق البعيد"، وتحس بعبء الزمن أكثر من أي وقت مضى. ومع هذا، لا تستسلم لواقعها الجديد، فتبادر إلى الاتصال بصديقاتها القديمات وتدعوهن إلى الغداء، في إصرار منها على أن تعيش حياتها رغم أنف الزمن.
هكذا، نكون أمام شخصية قوية، إيجابية، تواجه النوازل برباطة جأش، وتنهض بالأعباء في إطار قدرتها على النهوض، ولا تستسلم للأقدار. غير أنه لا بد من ملاحظتين اثنتين تتعلقان برسم هذه الشخصية؛ الأولى ترتبط بعدم معرفتها بعلاقة الحب التي تربط ابنتها الوحيدة برفيقها أحمد منذ سنتين وآلت إلى فرارها معه، وهي التي تُقدمها الرواية منقطعة للاهتمام بولديها ورافضة الزواج لأجلهما. والثانية تتناول رد الفعل البارد الذي لا يتناسب مع وضعية أم فرت ابنتها الوحيدة مع حبيبها في غفلة منها، فَتُصورها الرواية بالقول: "سكتت سامية دقائق لتستوعب النبأ" (ص 114). وفي غمرة المفاجأة، تعلن عن رغبتها في استقبالهما في بيتها ريثما يتدبران أمرهما. والأمر نفسه ينسحب على شخصية الابن طارق الذي يزعم عدم تأكده من رغبة أخته في الفرار ويراهن على أن تغير رأيها، ثم يعطي أمه عنوان الفندق الذي ستقيم في الأخت في قبرص (ص 114 و115).
إلى ذلك، تدور الشخصيات الأخرى في فلك هذه الشخصية المحورية، وتتفاوت في مساحة حضورها النصي وحجم مدلولاتها، فنجد بينها الوفي وقليل الوفاء والانتهازي والصادق والعاق والبار والمنافق مما يزخر به العالم المرجعي الذي تُحيل إليه الرواية.
في الخطاب الروائي، تضع نازك سابا يارد روايتها في أربعة أقسام وخمسة وعشرين فصلاً، بوتيرة ثمانية فصول للقسم الأول، سبعة فصول للثاني، ثمانية فصول للثالث، وفصلين اثنين للرابع. ويتراوح طول الفصل الواحد بين صفحتين وربع الصفحة، في الحد الأدنى، وتسع صفحات ونصف الصفحة، في الحد الأقصى. ويغلب عليها الحوار الرشيق، وتسلسل الأحداث التي تتخذ مساراً خطياً، أفقياً، تراكمياً، وإنْ تخللته طلعات ونزلات، هي بمثابة نقاط التحول التي سلفت الإشارة إليها، والتقشف في تقنيات السرد، فيقل فيها الاسترجاع والاستقدام والتداعي وسواها... وعلى الرغم من العلاقة التسلسلية التي تنتظم الفصول المختلفة، نجد أن الصفحات الثلاث الأخيرة من الفصل الخامس، من القسم الأول، المتعلقة بحفل تخرج سهى من الجامعة تكسر التسلسل، وتبدو مقحمة على السياق العام، ونابية داخل الفصل، وبين الفصول المختلفة. ولعل حذفها يحرر النص من هذا النبو. والأمر نفسه ينطبق على الفصل الرابع من القسم الثالث الذي تذيله الكاتبة بنص للشاعر الفلسطيني محمود درويش، هو لزوم ما لا يلزم، ولا يضيف شيئاً إلى الفصل.
تستخدم يارد في روايتها لغة سلسة، رشيقة، قصيرة الجمل ومتوسطتها. وتوشحها بالتراكيب المحكية، والأمثال الشعبية، والأقوال المقتبسة. ولكل من هذه التوشيحات أثره الإيجابي أو السلبي في النص؛ ففي حين تضفي التراكيب المحكية الحكائية والتلقائية والعفوية على لغة السرد، كما في: "راحت أيام وجاءت أيام" (ص 88)، "في النهاية الإنسان... وحيد" (ص 82)، "قطعت الأمل" (ص 72)، "أغلق الخط" (ص 72)، "طول بالك، فادي" (ص 87)، "أهلين، سهى" (ص 93)، تضفي الأمثال الشعبية على النص الواقعية الشعبية، غير أن لجوء الكاتبة إلى تفصيح المحكي فيها يطيح بعفويتها، وحبذا لو أوردتها كما هي، فنراها تقول على سبيل المثال لا الحصر: "إن كان حبيبك من عسل فلا تلحسه كله" (ص 82)، ما يطيح بشعبية المثل. أما استخدام الأقوال المقتبسة فكان له أثره السلبي الموضعي في النص.
على الرغم من ذلك، فإن البنية الروائية العامة في "عبء الزمن" هي بنية بسيطة، رشيقة، سلسة، يسهل هضمها، ويُستساغ تناولها، فلا يعود القارئ من القراءة بالإياب، بل يعود بغنيمتي المتعة والفائدة معاً.