توفي المفكر السوريّ محمد شحرور تاركاً وراءه آراء فكرية أثارت العميق والواسع من الجدل. ووُصفت دوماً بـ"الجريئة" على اختلاف تعاطينا مع الجرأة بين من يعدّها تعدّياً ومن يعدّها تجديداً. وكما هو متوقع، اشتعلت الساحة بعد شيوع خبر وفاته بالمناكفات المعتادة بين الخصوم الأيديولوجيين. وكأن الخبر كان وقوداً إضافياً لحرائق اضطرمت في مراحل مختلفة من مسيرته الفكرية، رحمه الله. فشحرور كان أحد الأصوات القليلة التي غاصت كمبضع في جسد التراث المقدّس وحاولت أن تعيد تشكيل الخريطة التراكمية لمئات السنوات من الأفكار التي تحوّلت إلى مبادئ، والمبادئ التي تحوّلت إلى مسلّمات، والمسلّمات التي تحوّلت إلى عقائد. في سلسلة من التفاعلات الزمنية التي تحوّل كل مأثور إلى أثير. وكل قديم إلى عظيم.
والحقيقة أن أفكار شحرور بغضّ النظر عن حياته ووفاته، قد أخذت حقها من الجدل وإن ظلّ حقها من التدوير والتدبر والتفكير والمساءلة منقوصاً لأسباب ثقافية وحضارية، تعطّل السيرورة الطبيعية لأي فكرة حرة. فمن ناحية الكم، يكاد يكون جل التراكم الجدليّ الذي أحدثته أفكار شحرور ركاماً من التصعيد والمناكفات ما بين التيارات الإسلامية والفكرية في مناخ فكريّ عام، مشوبٍ بالخوف والارتياب وهوس حماية المقدس والمأثور من مآلات وهمية لا وجود لها إلاّ في عقلٍ تراثيّ مأزوم. عقل نشأ على التحذير والتوجس واستعداء المختلف وشيطنة المخالف. عقل حاول شحرور قدر استطاعته حثّه على التفكير خارج صندوق التراث وإعادة مساءلة الماضي على ضوء الحاضر. فنجح تارة وفشل تارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحقيقة، أن حدث وفاة شحرور هو مناسبة مهمة ليس لإعادة مناقشة أفكاره، بل إن الأكثر إلحاحاً من ذلك هو مناقشة سلوكنا الجمعيّ والفرديّ تجاه أفكاره. مناسبة لطرح أسئلة جديدة في طورنا الحضاريّ القادم حول إمكانية الخروج من عقلية التلقي التصنيفي التي تسارع بشكل هستيري إلى تصنيف الفكرة فور تلقيها وكأن التأخر في تصنيفها سيؤدي إلى انفلات فكريّ خطير. العقلية التي ترى كل فكرة جديدة متهمة حتى تثبت براءتها. هذه العقلية التي استفزها شحرور، فألقت عليه ما ألقت من التهم هي التي ينبغي أن يسلَّط عليها الضوء هذه الأيام. لماذا؟ وإلى متى؟ وغيرها من الأسئلة التي نريد منها أن نقف أمام مرآة الوعي وقفة طويلة لنرى ما تركته الوصاية الفكرية من آثار على ملامحنا كمجتمعات وأفراد. الأميال التي أصبحت تفصل بيننا وبين غيرنا. والدائرة المُحْكمة ذات العمق الخالي تماماً التي نصرّ على حمايتها بلا جدوى ولا سبب.
برأيي، أن الأثر التنويريّ الأهم الذي تركه شحرور ومضى ليس واحداً من أفكاره المجددة ولا رؤاه الثاقبة، بل إنه نضاله الفكريّ الطويل. إنّ الطريق التي سلكها شحرور نفسه أهم من كل المحطات التي وقف عندها ووصل إليها. إنّ الإلهام الذي تركه شحرور في نفوس مفكرين آخرين قادمين منجزين هو الذي سيظلّ عصياً على الإبطال والتفنيد. وإنّ الأثر الخالد لشحرور وغيره من المفكرين المجددين هو أن لا شيء يمكن أن يمنع فكرةً من أن تولد وتكبر وتنمو وتجرب حظها في هذا العالم. وإنه من الجميل والعذب والرائع أن يقضي المفكر حياته في مساءلة ما حدث قبلها وتشكيل ما سيحدث بعدها. وإذا وُلد من رحم التجربة الشحرورية مفكرون يخالفون شحروراً في كل ما ذهب إليه ولكن يتفقون معه في النضال الفكريّ والإيمان بسلطة العقل، فهذا مجد كاف.
اتخاذ المواقف الحادة من شحرور بعد إعلان وفاته، والمبالغة في إظهار هذه المواقف بشكل إعلانيّ، ليس إلاّ متلازمة نفسية وليست فكرية. فهناك من يرى في اتخاذ الموقف، بغض النظر عن ماهية هذا الموقف، غذاء لبنيانه المعنويّ، وقرباناً لانتمائه العقديّ، وبهما يشعر بالأهمية والحضور بقدر ما ينتبه الآخرون إلى موقفه ويشهدون له به. وتتحقق له الفائدة من سلوك اتخاذ الموقف ذاته وليس من جدوى هذا الموقف أو حتى مدى إسهامه في مصير الجدليات المحيطة به. وهذا أمرٌ ينبغي أن يكون مرصوداً بدقة بأعين المنفعلين في الجدل الفكريّ، لأنه تشويش سطحيّ لا قيمة له، يمنعنا من التركيز في لبّ الفكرة وأبعادها.