قبل سنوات سُئل المؤرخ والمستشرق برنارد لويس عن تصوره لصورة العالم العربي في القرن الـ 21. كان مختصر الجواب في كتاب موسع هو صعود وهبوط "صعود دور إيران وتركيا والهوية الوطنية للأقليات الإتنية من الكرد والبربر"، و"انتهاء القومية العربية" التي ازداد هبوطها "بعد نهاية الحرب الباردة". تصوره للصعود صار واقعاً. وتصوره لانتهاء القومية العربية كان خاطئاً، لأن الشعور القومي العربي استعاد زخمه وأهميته وضرورته في مواجهة التنافس الإقليمي بين إيران وتركيا وإسرائيل على النفوذ والأدوار في الصراع الجيوسياسي على المسرح العربي. وليس قليلاً ما تميز به عام 1919 الراحل، وهو الأخير في العقد الثاني من القرن الـ 21. لكن البارز بين اتجاهات الأحداث الأساسية فيه ثلاثة. الأول هو انفجار الانتفاضات والثورات الشعبية بقوة في إيران والعراق ولبنان والجزائر والسودان، بعدما تحولت ثورات ما سمي بـ"الربيع العربي" في مطلع هذا العقد إلى حروب أهليّة وإقليمية ودولية في اليمن وسوريا وليبيا. أمّا في مصر، فإن الجيش استعاد السلطة من الإخوان المسلمين الذين سطوا على الثورة الشعبية. وأما في تونس، فإن التجربة كانت الإستثناء الديمقراطي من القاعدة، لكنها لا تزال خاضعة للامتحان العملي في تلبية مطالب الناس الاجتماعية، كما في قابلية حركة "النهضة" الإسلامية للاستمرار في تعلم الدرس المصري.
والثاني هو الإنكشاف الكامل للطموحات الأمبراطورية لدى القوى الإقليمية التي ترى "فجوة" في الأفق الدولي تسمح لها بأن تلعب أدواراً كبيرة خارج حدودها، وأن تكون لها مناطق نفوذ. إيران لا تكتم تدخلها في أكثر من ساحة اشتباك، وتفاخر بأنها "تحكم" في أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء من طريق التدخل المباشر أو بالواسطة عبر ميليشيات "حزب الله" في لبنان و"الحشد الشعبي" في العراق و"الحوثيين" في اليمن، و"الحرس الثوري" و"ميليشياته" في سوريا. تركيا تتدخل عسكرياً مباشرة في سوريا والعراق وليبيا وتقيم قاعدة عسكرية في قطر، وكانت تخطط لإقامة قاعدة عسكرية على جزيرة "سواكن" في البحر الأحمر، لكن إسقاط نظام الإخوان المسلمين برئاسة عمر البشير في السودان ألغى المشروع. إسرائيل تضم الجولان بعد القدس وتتحدث عن ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، وتشن هجمات متكررة على مواقع إيرانية في سوريا والعراق. وإذا كان "نظام الملالي" في إيران يغطي أحلام الأمبراطورية الفارسية الصفوية بطابع إسلامي، فإن تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان تتحدث بصراحة عن أحفاد السلاجقة والعثمانيين وبناء "العثمانية الجديدة". وأقل ما برر به أردوغان اتفاق الحدود البحرية مع "حكومة الوفاق" في طرابلس الغرب، هو أن تركيا لها "حق" في الوجود في دول عدة كانت "جغرافيتنا القديمة"، وأن الإتفاق "صحح شيئاً من معاهدة سيفر عام 1920 التي سلخت أرضاً عن السلطنة". لا بل أن بريت ماكغورك الموفد الأميركي السابق إلى التحالف الدولي ضد "داعش" يروي أنه سمع أردوغان يقول إن "400 ميل مربع بين حلب والموصل هي منطقة أمنية تركية". أمّا إسرائيل، فإن التبرير المعلن لاحتلال الأرض العربية وضمها هو شعار "الأمن القومي" الذي كان شارون يقول إنه يمتد "من المتوسط إلى أفغانستان".
والثالث هو تبلور التعدد على قمة العام من دون إقامة نظام عالمي واضح بديل من نظام الأحادية الأميركية، الذي كان البديل من نظام الحرب الباردة بين الجبارين الدوليين. أميركا، بصرف النظر عن الانكفاء الذي يمارسه الرئيس ترمب تحت عنوان "أميركا أولاً" بعد الرئيس أوباما، لا تزال تقاتل في أفغانستان وتنشر قوات في سوريا والعراق وتقيم قواعد في قطر ودول خليجية أخرى وتواجه روسيا في شرق أوروبا، والصين وكوريا الشمالية في المحيط الهادي وبحر الصين. روسيا حاربت في جورجيا وفصلت إقليمين عنها، وضمت شبه جزيرة القرم وسلحت الانفصاليين في شرق أوكرانيا وتدخلت عسكرياً في سوريا وأقامت قواعد جوية وبحرية، واستعادت عربياً دور القوة العظمى. والصين تبني قوة عسكرية واقتصادية كقوة عظمى تخرج من "استراتيجية البر الصيني" إلى اليابسة والبحار والمحيطات في آسيا وأوروبا وأفريقيا عبر مشروع "الحزام والطريق". وأبسط ما قاله وزير خارجية فرنسي سابق هو أوبير فيدرين في مؤتمر "حوارات أطلسية" إن "العالم في حال من الفوضى، ليس هناك نظام عالمي في ظل اضطراب عالمي".
وكل ذلك تحت لافتة الحرب على الإرهاب. ولو انتهى "داعش" لجرى خلق تنظيم إرهابي أشد تطرفاً. أمّا الإتجاهات الثلاثة البارزة، فإنها متداخلة. الطموح الأمبراطوري للدول الإقليمية يضغط على الثورات الشعبية. تركيا ساهمت في تحويل الانتفاضة السلمية في سوريا إلى حرب ودفعت إليها عشرات آلاف المتطرفين التكفيريين ولا تزال، بحيث تربط الإرهاب بقوة تخيفها هي قوة الكرد. وتساهم حالياً في حرب ليبيا. "نظام الملالي" قمع التظاهرات في المدن الإيرانية وأوقع 1500 قتيل وعشرات آلاف الجرحى، بعدما قال المرشد الأعلى خامنئي لقادة الأمن "إفعلوا كل ما هو ممكن لإنهاء التظاهرات. هذا أمري لكم". ساهم في استخدام العنف والخطف والسجن ضد الثوار في العراق. ولم يقصر في رعاية الذين اعتدوا على الثورات في لبنان ولا في الحرب مع النظام في سوريا. وإسرائيل ضد كل ما يُخرج العالم العربي من الجمود والانقسام ونقص الحربات وزيادة العصبيات إلى الأنظمة الوطنية المدنية الديمقراطية القادرة على بناء مجتمعات وجيوش قوية بالفعل. وفي المقابل، فإن سياسات التوسع لدى القوى العالمية الكبرى ستقلل من قدرة القوى الإقليمية على التصرف بحرية في أرض الآخرين. أميركا لن تترك لإيران الهيمنة على العراق. روسيا لن تسمح لطهران بالسيطرة على سوريا. وأميركا وروسيا والصين سترسم "حدوداً" لسيطرة "الكيان الصهيوني". والأهم هو يقظة القوة الشعبية العربية الجديدة.