لا منطق محدداً يحكم سياقات العرض المسرحي "ظل الحكايات" الذي يقدمه حالياً مسرح "الغد" في القاهرة، للكاتب إبراهيم الحسيني، والمخرج عادل بركات. ذلك فقط لأن العرض عبارة عن حلم مزعج يتعرض له بطله، وبالتالي كان على أجوائه وعوالمه أن تتداخل بشكل مربك، وإن كان ذلك محسوباً ومتعمداً، وإلا فقد العرض مبرر وجوده، وفقدت الحكاية ظلها.
إن لكل حكاية ظلالاً كثيفة تأخذنا إلى عوالم غريبة، لا أحد يدري متى بدأت وإلى أين تنتهي، وفي هذا السياق حفل العرض بتداخلات ورموز كان على المشاهد فك شفراتها لاستيعاب ما يدور أمامه، كل حسب قدرته وفهمه لطبيعة الحلم.
وإذا كان الحلم فقيراً في نحوه، بحسب مصطفى صفوان في تقديمه لترجمة "كتاب تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد، فإنه غني في بلاغته، بمعنى أن السياق العام قد يبدو غريباً ومرتبكاً ولا معقولاً، أو من دون سياق أصلاً يمكن الإمساك به وتتبعه، فإن صورة الحلم نفسها مبدعة ولها دلالاتها ومعانيها ورموزها.
على هذا النحو تعامل كاتب النص الذي تاخم حدود الشعر في كثير من جوانبه. لقد فرضت شعرية النص هنا نفسها، اختارت التجربة لغتها الأكثر قدرة على التعبير عنها. التجربة يصعب على الكلام العادي والمتداول النفاذ إلى طبقاتها التحتية، وأكثر ما يمكنه عمله هو الوقوف عند السطح، لذا توافقت لغة النص مع طبيعته، وجاء الاثنان من نهر واحد.
رحلة سفر
يبدأ العرض بـ"منصور" الذي يتعرض لحلم مزعج أثناء سفره إلى مدينة ما تلبية لدعوة صديق له لحضور حفلة عرسه. يلتقيه شخص في محطة القطار ويحمل عنه حقيبته لتوصيله إلى منزل هذا الصديق، ثم نكتشف أن هذا الرجل غير موجود أساساً وأنه فارق الحياة منذ زمن بعيد، وأن هذه المدينة، التي يعاني سكانها جميعاً تشوهات جسدية ونفسية، لا أحد فيها يساعد أحداً أو يحمل عنه حقائبه. وتتوالى الأحداث في شكل متجاور لا متنام، إذ لا دراما تقليدية تحكمها، فهي أشبه بقطع البازل التي عليك إعادة تركيبها بطريقتك لتخرج في النهاية بشكل محدد له معنى، أو مغزى. "منصور" هو الوحيد الذي يحمل اسماً، أما الشخصيات الأخرى فلا أسماء لها، وكل منها له أكثر من وجه (ماسكات فتحي مرزوق)، تارة نرى "منصور" يدفن جثته، وأخرى نعرف من السياق أنه قتل والده وذهب لدفنه ولم يوفق. وهكذا تتداخل الأشياء في شكل غامض ومموَّه وربما خال من المعنى. وإذا كانت الأحلام- كما يرى فرويد- وسيلة تلجأ إليها النفس لاشباع رغباتها ودوافعها المكبوتة، بخاصة تلك التي يصعب إشباعها في الواقع، فإن "منصور" الذي تعنفه زوجته، في أحد المشاهد المسترجعة، بسبب عجزه الجنسي، نراه يمارس الحب - في حلمه- مع عروس صديقه التي تعلن سعادتها بفحولته، وتطلب منه المزيد.
إنها اللحظة المربكة التي يعيشها البطل هنا والآن، العالم الممتلئ بالأزمات والصراعات والاحباطات، والذي يلخصه بطل العرض المطارد دائماً بظل حكاياته، غير القادر على الهروب من أزمته، ولا على الإفاقة من حلمه المزعج، وعندما يتعرض للسقوط من علٍ، في كابوسه، يصرخ طالباً المساعدة، ولا يد تمتد إليه.
هناك أيضاً ذلك الملك الذي لايدري هل هو الذي أكل أبناءه الخمسة حتى يتقي التنبؤ الذي يقول إن أحدهم سيقتله ويسيطر على الحكم، أم أن هؤلاء الأبناء هم الذين صنعوا منه تمثالاً من "العجوة" وقاموا بالتهامه. وهناك كذلك السيدة التي تقتل الآخرين وتحتفظ بأجزاء من أجسادهم. وهناك صوت الجدة الذي يطالب "منصور" الإمساك بحكايته، وهناك التوأم الملتصق بجسد واحد ورأسين، وغيرها من الشخصيات المشوهة جسدياً ونفسياً.
أجواء غرائبية تدفع المشاهد إلى أن يكون جزءاً من العرض ويردد أسئلة بطله، ولا يدرك متى كان المشهد أمامه حلماً أو واقعاً، فكل الأشياء متداخلة ويصعب الفصل بينها، فقط عليك أن تتقبل لا منطق العرض حتى تستطيع التواصل معه والخروج منه بشئ.
كان على مصمم الديكور (محمد فتحي) أن يعكس هذه الأجواء بما يناسبها، ويناسب كذلك قاعة مسرح "الغد"، لا مكان محدداً تدور فيه الأحداث، أحاط جوانب القاعة، أو مدينته المتخيَّلة برسومات شبحية ، بعضها يصور جماجم الموتى والمقابر، والبعض الآخر يصور كائنات مشوهة تعبيراً عن تشوه العالم ولا منطقيته، وفي العمق بانوراما شفَّافة تمَّ استخدامها لعرض المادة الفيليمة (قدَّمها طارق شرف)، كما تمَّ استخدامها للتمثيل خلفها في بعض الأحيان، ومن خلف جدران المدينة تطل أشباح وكائنات متحركة، وإن جاء تنفيذها في شكل ساذج أقرب إلى عروض الأطفال المدرسية، ولعلها الإمكانات لم تسمح بالتنفيذ في شكل أكثر احترافية وإقناعاً.
وضعية الجمهور
قسَّم المخرج قاعة العرض إلى منطقة للتمثيل في مربع ناقص ضلع، وجعل الجمهور في الضلع الرابع مواجهاً لمنطقة التمثيل وكأننا في مسرح علبة، وربما كان من الأفضل تغيير وضعية الجمهور، وجعل القاعة كلها منطقة تمثيل، ونثر الجمهور في شكل عشوائي بما يناسب منطق العرض وأجوائه، خصوصاً أن مثل هذه العروض النوعية لا يشاهدها جمهور كبير، لكن المخرج آثر السلامة ولعب على المضمون أو ركن إلى الوضع التقليدي، في حين أنه يقدم عرضاً غير تقليدي، كان يستوجب عليه أن يكون أكثر جرأة ومغامرة.
على أن ذلك لا يقلل من الجهد الذي بذله المخرج في تقديم صورة مسرحية ممتعة رغم قتامة الموضوع وقسوته وأجوائه الكابوسية، وحافظ على إيقاعه الذي جاء "على الشَعرة" كما يقولون، ففي مثل هذه العروض يلعب الإيقاع دوراً مهماً في ضبط ما لا يمكن ضبطه، كيف تنتقل بسلاسة من هذا المشهد إلى ذاك من دون أن تحدث فجوة تضرب العرض في مقتل، وكيف تمزج الغناء البسيط (أشعار إبراهيم الحسيني، موسيقى صلاح مصطفى) بالتمثيل، ثم تنتقل إلى المشاهد السينمائية، ومنها إلى تلك الأصوات الآتية من الماضي، وغيرها مما يصعب "تضفيره" معاً... كيف تفعل ذلك من دون ارتباكات أو أخطاء تفسد كل شئ.
فريق التمثيل هو الآخر كان على قدر صعوبة الموضوع. رامي الطمباري (منصور) بدا مقنعاً وواعياً، ليس بطبيعة الدور فحسب وإنما بطبيعة العرض ككل. أدرك أزمة الشخصية التي يقدمها، وعلى أي نحو تكون انفعالاتها واستخدامها لجسدها، يقظة ومناماً وحلماً، وكيف يفصل بين هذا وذاك، وكذلك محمود الزيات (الملك والعرَّاف) الذي فقد بصره ولم يفقد بصيرته، كان راسخاً في أدائه وبليغاً في استخدام جهازه الصوتي بما يناسب أجواء القاعة، وتعبيرات وجهه ما بين الحدة واللين، وعبير الطوخي (الزوجة اللعوب، والسيدة القاتلة)، متنقلة، هي الأخرى، ما بين الطبيعتين بحرفية ممثلة صاحبة خبرة، ومعهم خالد محايري، وأسامة جميل، ومحمود خلفاوي، وغادة صفوت، وعلي أيمن.
العرض، بمنطق السوق، ليس جماهيرياً، ويحتاج مشاهداً نوعياً قادراً على فك شفراته والامساك بأسئلته، لكنها تجربة تحسب لصناعها، رغم بعض هفواتها التي كان يمكن تجنبها، لولا الخوف من أن تتحول إلى كابوس مثل الذي تعالجه.