قد يكون الروائي المصري علاء الأسواني من أوفر الروائيين العرب حظاً فيما يخص "العالمية"، فهو بات من أشدهم رواجاً في ميدان الترجمة والشهرة خارج تخوم اللغة العربية، وهو غالباً ما يدعى إلى أبرز المهرجانات الأدبية والمؤتمرات في العالم بصفته ممثلاً للرواية العربية الجديدة أو الراهنة، عطفاً على الترحاب الذي تناله رواياته في الصحافة والإعلام الغربيين، وهذا ما لم يحظَ به نجيب محفوظ قبل نوبل.
ويتنعم الأسواني الآن برعاية شركة "ويلي" البريطانية التي تعد من أهم الشركات التي تروّج الأدب في سوق الترجمة العالمية والنشر العالمي، وتضم لائحتها أسماء كبيرة جداً مثل كواباتا وميشيما اليابانيين.
هذه الشركة تتولى أمور الأسواني ترجمة ونشراً وترويجاً وتملك حتى حقوق نشر كتبه عربياً. وبعد منع روايته الأخيرة "جمهورية كأنّ" في مصر لأسباب سياسية وتخلي دار الشروق ناشرته الأولى عنها، لم تجرؤ على نشرها أي دار ولو قرصنةً جراء قوة القبضة الرقابية، وعندما قررت دار الآداب نشرها عربياً وليس مصرياً، كان عليها أن تنال الموافقة من شركة "ويلي" وليس من المؤلف.
وقد لا يكون مستهجناً أن "يحسد" روائيون عرب كثيرون علاء الأسواني على هذه الصفة "العالمية" التي حازها بسرعة وخلال سنوات قليلة. لكن "الذنب" لا يقع على صاحب "عمارة يعقوبيان" بل هو "الحظ" الذي ابتسم له ابتسامة عريضة.
وبعيداً عن علاء الأسواني وحظه السعيد الذي لا يمكن اعتباره حافزاً على العالمية الأدبية، لا بد من طرح سؤال حول المفهوم العالمي للأدب وحول معايير هذا المفهوم وأسراره. وهذا السؤال قد يحملنا إلى طرح سؤال آخر حول موقع الأدب العربي حيال العالمية أو المرتبة التي يحتلها في هذه الخانة. ولئن بدت الرواية العربية الراهنة تشهد حالاً من الرواج اللافت في حقل الترجمة العالمية على خلاف العقود الماضية، فهل يعني هذا الرواج أن الرواية العربية أضحت عالمية وهل تركت حقاً أثراً في الروائيين والقراء العالميين؟ هل يكفي انتقال الرواية العربية إلى لغات عالمية لتصبح هذه الرواية عالمية؟
يرى بعض النقاد أن نجيب محفوظ لم يصبح عالمياً إلا بعدما حاز جائزة نوبل التي أدرجت اسمه بين أبرز أدباء العالم. تُرى ألم يكن أدب محفوظ عالمياً قبل الجائزة؟ هل الجائزة هي التي نقلت أدبه، بين ليلة وضحاها كما يقال، إلى مرتبة العالمية؟ معروف أن معظم كتب محفوظ لم تنقل إلى اللغات الأجنبية إلا بعد نيله الجائزة، فما ترجم له من قبل كان قليلاً وقليلاً جداً، لكنّ الجائزة ليست هي التي صنعت عالميته بل جاءت لتعلنها وتحتفي بها. هل كان صاحب "أولاد حارتنا" ليحرم من صفة العالمية لو لم يفز بجائزة نوبل؟ هل يمكن القول إن علاء الأسواني حقّق عالميته من دون جائزة نوبل، وأنه استطاع أن "يسابق" محفوظ إعلامياً بل أن يسبقه بعدما حظي بما لم يحظ به سيد "الحرافيش" من احتفاء؟ ولكن أين الأسواني من محفوظ؟ هل أدب الأسواني عالمي وفق المعايير التي يُقاس بها رواد الرواية العالمية؟ ألم يأتِ رواج روايات الأسواني استجابة لما يسمى حاجة سوق النشر العالمي وحاجة القراء الغربيين إلى ما يدغدغ مخيلتهم الجماعية في زمن تقاطع "سكك" التاريخ والحاضر؟ وإن كان أدب محفوظ ينتمي وفق التقييم الغربي -لا العربي - إلى مدارس القرن التاسع عشر، فلا شك في أن روايات الأسواني تنتمي إلى مرحلة الحداثة الزمنية وليس إلى الحداثة التجديدية والإبداعية.
لا يكفي إذاً أن يترجم بعض أدبنا الحديث إلى اللغات الأجنبية حتى يصبح أدباً عالمياً. فالترجمة أولاً فعل خيانة كما يقول المثل، وهي غالباً ما تخضع لشروط أو غايات غير بريئة تماماً، والدليل هو المقياس الذي يعتمده المترجمون ومَن وراءهم، للحكم على الأعمال الصالحة للترجمة وتلك غير الصالحة.
وبينما يتمتع بعض الكتاب العرب بـ "نعمة" الترجمة يرتع بعض الكتاب الكبار في ظلال لغتهم الأم وأقصد العربية، وهم يستحقون أن يترجموا مثل سواهم وربما أكثر. وقد دفعت "شهوة" العالمية أو النزعة العالمية - هذا ما يجب تكراره - الكثيرين من الكتاب إلى التخلي عن بعض قناعاتهم وأساليبهم وقضاياهم بحثاً عن قناعات وأساليب وقضايا تغري القارئ الغربي، وتمهد لهم الطريق للوصول إلى اللغات الأجنبية. بل إن بعض الكتاب باتوا يركزون على قارئ غربي يجهلونه تماماً، قبل أن يشرعوا في الكتابة وخلال الكتابة نفسها. وفي حال من الاغتراب المماثل تستحيل "نعمة" العالمية إلى لعنة توقع أولئك الحالمين والمتنطحين إلى الشهرة العالمية في شرك الضلال والافتعال والمجانية. ولعل رواج الأدب العربي "الأكزوتيكي" أو الاستغرابي المكتوب بالفرنسية أو بالعربية خير دليل على الرغبة الشديدة في التحرر من ربقة الأدب العربي وكسر "جدار" المحلية والإقليمية.
كم من روائيين عرب، تجدهم عالميين من غير أن يترجموا إلى أي لغة أجنبية، لأسباب عدة، في مقدمها أصالة تجربتهم وبعدهم عن "البروباغاندا" على اختلاف أنواعها، وعدم خوضهم مجال العلاقات العامة التي باتت تتحكم في شروط الترجمة... وكم من روائيين عرب، تترجم أعمالهم بوفرة وإلى أكثر من لغة، لا تجد في قراءتهم أثرا للأدب العالمي.
أما أسباب رواج روايات هؤلاء (هم وهنّ) فمعروفة ومكشوفة، وعلى رغم كل ما يثار من فضائح ويكشف من "خزعبلات" و"تلفيقات"، يظل هاجس العالمية شبه طاغ على الكتّاب، حتى الأصفياء منهم. والطريق إلى العالمية يجب أن تمر في حقل الترجمة، وقد يكون الإقبال على الترشح إلى بعض الجوائز العربية، في وجه من وجوهه، بحثا عن سبيل الترجمة. وهذا حق ولو بدا مريراً في أحيان، لاسيما في المرحلة الراهنة، مرحلة التواصل "العولمي" التي شّرعت أبواب الأدب على العالم.