الحضارة نسق ثقافي ومنظومة تتسم بتقاليد مستمرة وقيم ثابتة، وهي تختلف من عصر إلى عصر، لكنها تتميز في النهاية بدرجة عالية من الانسجام بين النسب المختلفة لأبعادها وأعماقها، فالحضارة كيان تاريخي عرفته البشرية منذ بدايات الصحوة، واستلهمت منه قوة الدفع التي عاشت بها، لكي تتواصل مع غيرها من الحضارات، وتشتبك إيجابياً مع روح عصرها الذي تعيش فيه.
ولذلك فإن الدول قد تتناحر وتتصارع، لكن تبقى الحضارات في تواصل مستمر وتعاون دائم، فالأصل في تعبير الحضارة أنها حالة إنسانية بالدرجة الأولى تسعى لغيرها لمزيد من التعاون بل والاندماج، وكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت تفاعلت مع غيرها وارتبطت بسواها، ولم تكن أبداً معادية لغيرها.
كما أن التقوقع والانعزال ليسا من سمات الحضارات البشرية الكبرى، بل هما دليل على العزلة التي تؤكد أن عمرها قصير، لأنها تصاب بحالة عنصرية تفتقد فيها القبول العام، وتتحوّل إلى كيان هلامي يسقط مع أقرب مواجهة مع غيرها، وإذا كانت الحضارات هي حاضنة الثقافات الأرضية والديانات السماوية وغير السماوية، إلا أنها في المقام الأول تمثّل ركائز كبرى لصنع السلام.
ولنتذكر ما أطلقنا عليه السلام الروماني (Pax Romana) عندما سيطرت الإمبراطورية الرومانية على قلب العالم، وتحكّمت من منظور حضاري في التأثير على كل الأطراف من خلال الخريطة السياسية لتلك المرحلة، فكانت بحق مركزاً للاستقرار في منطقة البحر المتوسط وما حولها.
ولا عجب في ذلك، فهي وريثة تقاليد الحضارة اليونانية وقبلها الحضارة الفرعونية الملهمة، ولذلك فإن الحضارات تتحاور بمنطق كل عصر ووفقاً لتقاليده وظروفه.
ونستطيع أن نرصد هنا عدداً من الخصائص التي تتميز بها الحضارات الكبرى، التي إذا ما طبقناها على الحضارة العربية الإسلامية لخرجنا منها بتجارب كبرى وملاحظات مهمة منها:
أولاً: إن المكون الأساس في الحضارات هو مكون إنساني بالدرجة الأولى، وهو متصل بالعنصر البشري ونوعيته وكفاءته ومهاراته، فليست الحضارة هي التقدم التكنولوجي، ولا يمكن أن يكون أحدهما مرادفاً للآخر، بل هي في نهاية الأمر رداء تتميز به الأمم، وتتحدد معه شخصية الشعوب.
لذلك فإن النزعات الفاشية والأفكار النازية لا تتمشى مع المكون الإنساني الحضاري، بل تبدو نقيضاً له، لأنها تقوم على التعصب والانغلاق ونبذ الآخر، فالحضارات تواصل وليست صراعاً كما توهم صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير، وهي أيضاً أخذ وعطاء، لذلك فإن كل حضارة تقوم منذ البداية استناد إلى فلسفة معينة تصبح هي الركيزة التي يستند إليها الكيان الحضاري، وهي المحور الذي تدور حوله المفاهيم الأخلاقية والقيم الإنسانية التي تنتمي إليها الحضارة في مجملها.
ثانياً: إن التفوق العلمي والتكنولوجي لا يعني بالضرورة الوصول إلى مجتمع متحضر، فالعبرة تكون بالمضمون الذي أشرنا إليه، إذ إن بعض من يتحدّثون عن الحضارة لديهم بالإشارة إلى المباني الضخمة والإنفاق العمراني المهول إنما هم واهمون تماماً، فما أكثر المدن (الشمعية) التي تبهر الأبصار وتشد الانتباه بما تملكه من مبانٍ عالية ومنتجعات راقية، لكنها تفتقد في الوقت ذاته دفء الإحساس وحميمية العلاقة مع الإنسان، لأنها حديثة العهد به، ولأنها لم تمتلك تراكماً حضارياً بفعل عامل الزمان، حتى أصبحت بعض الدول التي نتحدث عن تفوقها كالجسد بلا روح، لأنها قطعت شوطاً طويلاً في البناء والعمران، لكنها عجزت عن بناء الإنسان، فالعبرة في دراسة الحضارات لا تكون بالكيان المؤسسي بقدر ما يمكن قياسها بالمضمون الفلسفي.
ثالثاً: كنا نتصور قديماً أن للحضارات فترات ازدهار يعقبها ركود، وأن لها أعماراً كالبشر ما بين البداية والنهاية، لكن الواقع خرج عن هذا الإطار، وجعلنا نتشكك كثيراً في إمكانية سقوط الحضارات بنفس المعدل الذي كانت تنتهي به أو الأسباب التي استندت إليها.
فالتقدم التكنولوجي منح قبلة الحياة لبعض التجارب الدولية الكبرى، فشهدنا تقدماً تقنياً على الصعيد التكنولوجي، لكننا شهدنا في الوقت ذاته تراجعاً على الصعيد الإنساني، ولأن الحضارة هي الإنسان بالدرجة الأولى فإنه يكون من العسير أن نقبل بالتفوق العلمي وحده بديلاً للعنصر الإنساني، فالإنسان هو صانع الحضارات وهو سيد الكون وهو العقل الذي يقود، والفكر بدوره هو الذي يحدد الطريق أمام المجتمعات البشرية في كل العصور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رابعاً: قد نندهش أن دولاً مثل الصين والهند والعراق ومصر وغيرها من دول الحضارات القديمة ليست هي الأكثر ثراءً أو رفاهية، إذ إن الأمر يتوقف على الظروف المحيطة والأسباب التي انتهت إليها تلك الحضارات القديمة، بل إننا نشهد حالياً حالة تقدم اقتصادي واضح في دول لم تعرف في تاريخها حضارة ذات قيمة.
إذ تبدو تلك الدول الصغيرة الجديدة نموذجاً للتقدم التكنولوجي والتفوق الصناعي، لأنها بدأت من حيث انتهى الآخرون، فالرصيد قد لا ينهض وحده سبيلاً للصمود أمام التيارات الفكرية والأيديولوجيات المعاصرة أو القوميات الراسخة التي تطل علينا من كل اتجاه.
وإذا تأملنا وضع الأمة العربية في المشهد المعاصر فسوف نجد أنها حاولت بقدر ما تستطيع اللحاق بركب التقدم العلمي والتكنولوجي معتمدة على خلفية طويلة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية والتي أسهم فيها مسيحيون ويهود عرب.
ولقد أدرك الجميع أن التعايش المشترك والانصهار الإنساني هي مظاهر حضارية لا يمكن إغفالها، لذلك ظلت الحضارات القديمة ذات أصداء خارج دولها حتى وإن شاخت أو ترهلت، فالعبرة دائماً تكمن في مجموعة القيم والتقاليد التي تميزت بها تلك الحضارات القديمة، وما زالت أصداؤها قائمة لدى شعوبها.
خامساً: ما زال العرب متهمين بأنهم عبء على العصر كله لأن إسهامهم التكنولوجي ودورهم الثقافي لا يؤدي إلى ما يتناسب مع تاريخهم العريق وإسهامهم في علوم عصر النهضة عندما نقل الغرب عن الفارابي وابن سينا والرازي وابن الهيثم وغيرهم مجموعة ضخمة من العلوم والمعارف التي ساعدت على انطلاق أوروبا في عصر النهضة.
وقد يعاب علينا كعرب أننا ماضويون نعيش مع أمجاد الماضي، ولا نفكر كثيراً في المستقبل، إذ تستغرقنا مشاعر قوية تشدنا نحو ذلك الماضي، وتجعلنا أسرى فترات الازدهار الذي مضى دون أن نعمل بجدية لاستعادة تلك الفترات مكتفين بالتباكي على ما فات وتكريس الشعور بالتهاوي والسقوط بالنسبة لغيرها من الأجيال الجديدة والاستغراق في جلد الذات، وكأنها تكفير عن خطيئة ترسبت في قاع الذاكرة العربية.
والأمر ليس كذلك، لأن الظاهرة الاستعمارية وسياسة الاستغلال الغربي للعرب وظهور البترول في أرضهم، إضافة إلى قيام دولة إسرائيل. كل هذه العوامل تؤثر سلباً في بقايا البناء الحضاري العربي، وتجعل العلاقة بين العرب وحضارة العصر محكومة بحالة التراجع المرتبطة بالآثار السلبية لهذه المجموعة، التي أشرنا إليها والعوامل التي أثرت فيها.
إننا نقول الآن صراحة: إن علينا كعرب أن نفتح الأبواب والنوافذ، لكي ننطلق إلى حياة العصر وروحه، ونتحوّل إلى شريك فاعل فيها بالأخذ والعطاء في تفاعل وحيوية مع شركاء الحضارات من مختلف الشعوب وشتى الأمم.