لبنان محكوم بأزمة بنيوية عميقة يراد لها أن تكون هي الحل من خلال التكيف معها، وأحدث مشهدين على سطح الأزمة هما حكومة "إلى العمل" وشعب "إلى الشارع"، حكومة نالت "ثقة" كبيرة من النواب الذين تباروا في الحديث عن سوء الأوضاع وأعلنوا الحرب الشاملة على الفساد الذي كان ولا يزال شاملاً. وناشطون من أحزاب يسارية ومجتمع مدني نزلوا الى الشارع تحت عنوان "لا ثقة" يطالبون بإصلاحات جذرية للأزمة البنيوية. ولا أحد يعرف الى أي حد يصح بناء الأمل في حدوث معجزة اصلاحية على أيدي القوى التي عطّلت تأليف الحكومة على مدى ثمانية أشهر تحت عنوان الصراع على الحصص من دون اي تركيز على برامج ومشاريع. ولا أحد يجهل اننا نزيد في الانحدار بدل الصعود من الطائفية والمذهبية لكي نصبح بالفعل شعباً واحداً ويصح فينا المثل الصيني القائل "إذا أردت سنة من الازدهار إزرع قمحاً، إذا أردت عشر سنين من الازدهار أغرس اشجاراً. وإذا أردت مئة سنة من الازدهار نمّي شعباً".
لا نحن مثل تونس
ذلك أن لبنان ليس أرض ثورات، ولا حتى أرض تطورات وتغييرات هادئة الى أمام. فلا نحن مثل تونس التي أشعل إحراق محمد بو عزيزي نفسه "ثورة الياسمين" فيها، مع اننا نفاخر بأن اميرة من لبنان هي أليسار أقامت قرطاج. إذ أحرق جورج زريق نفسه امام مدرسة أولاده لعجزه عن دفع أقساطهم، فتحركت موجة التعاطف أياماً ثم هدأ كل شيء. ولا نحن، مع اننا في نظام ديموقراطي برلماني حسب الدستور، تمكّنا من تطوير النظام وتحديثه سلمياً بالوسائل الديموقراطية كما هي الحال في معظم الأنظمة الديموقراطية ولا مجال، في نظام طائفي، لأن يحقق النشطاء النازلون الى الشارع رهانهم على "التراكم" حسب القاعدة الماركسية القائلة "التراكم الكمي البطيء يؤدي الى تحوّل كيفي سريع". حتى الأحداث التي سميت ثورات وانتفاضات وعاميات في القرن التاسع عشر، فإنها كانت توظيفاً متبادلاً بين صراعات محلية وصراعات ومنافسات قوى خارجية. ولم يكن ما شهدناه في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين سوى سلسلة من حروب حارة أو باردة لها اسباب محلية مفتوحة على صراعات اقليمية ودولية. والمفارقة اننا نواجه، في مثل هذه الحال، تحديات مهمتين: مهمة انقاذ لبنان من الإفلاس الاقتصادي والمالي. ومهمة الحفاظ على الموقع الجيوسياسي التقليدي للبنان. الأولى يبدو عنوانها المختصر تنفيذ تعهدات مؤتمر "سيدر" لجهة الاستثمار العربي والدولي مع القطاع الخاص اللبناني في مشاريع بقيمة ١٧ مليار دولار، كما لجهة الإصلاحات المطلوبة في السياسات المالية والاقتصادية وهيكل الإدارة العامة. وهذه تصطدم بصعوبة الإقدام على "جراحات اصلاحية" واسعة، وحرص معظم التركيبة السياسية على الهرب من تغيير حقيقي في السياسة الضريبية المصممة منذ الاستقلال لخدمة الاقتصاد الريعي. والثانية تصطدم بالإصرار المنهجي والمرحلي على استكمال نقل لبنان من موقعه الجيوسياسي التقليدي إلى المحور الذي عنوانه "المقاومة والممانعة" بقيادة الجمهورية الاسلامية في إيران.
مصير لبنان يرسم في ساحات المنطقة
ولم يكن أمراً عادياً أن تكون قراءة الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني في الانتخابات النيابية الأخيرة انها نقلت حزب الله من "حزب مقاومة" الى "حكومة مقاومة". ولا كان الأمين العام للحزب حسن نصر الله يقرأ في الغيب عندما أعلن ان مصير لبنان يُرسم في ساحات المنطقة. أليس القول داخل المجلس النيابي، ولو اعتذرت كتلة الوفاء للمقاومة عنه وطلبت شطبه من المحضر، ان "بندقية المقاومة" كانت وراء وصول العماد ميشال عون الى الرئاسة إشارة الى ما سيأتي مع التذكير بما حدث؟ أليس هذا مبدأ قائد الثورة الشيوعية في الصين ماوتسي تونغ القائل "السلطة تنبع من فوهة البندقية"؟ مفهوم أن يكرر نصر الله القول إن الحكومة ليست حكومة حزب الله، كما هو الانطباع السائد. فالمشروع الايراني يتقدم في المنطقة بأكثر مما يوحيه الانسحاب الأميركي من شرق الفرات والمطالبة في بغداد بسحب القوات الأميركية وضمان فريق المشروع الايراني الأكثرية في المجلس النيابي اللبناني. والظاهر ان حزب الله يفضل في هذه المرحلة "التحكم" على "الحكم" في لبنان. ولا فرق سواء كان السبب هو المرحلية وانتظار ما تنتهي اليه الأوضاع في العراق وسوريا واليمن أو هو التوقف أمام صعوبة الحكم المباشر في لبنان حيث التوازن الطائفي والمذهبي، والتحسب للمقاطعة العربية والدولية.
"الممانعة المعاكسة"
فالواقع ناطق: كلما تقدم مشروع "المقاومة والممانعة" في لبنان والمنطقة وبدا خصومه بلا مشروع متكامل له حاضنة عربية ودولية ثابتة، لجأ الخصوم الى مشروع "الممانعة المعاكسة" للمشروع الإيراني "الممانع" للمشروع الاميركي رسمياً. والتجربة أكثر من ناطقة: حزب الله الذي يشارك في حرب سوريا فرض بالقوة تسليم القوى السياسية اللبنانية في معظمها بما يفعله خلافاً لسياسة "النأي بالنفس" رسمياً، والاكتفاء بما سماه الرئيس سعد الحريري "ربط نزاع" بالنسبة الى سلاح الحزب خلافاً للقرارات الدولية. لكن الحسابات المالية والاقتصادية في الأزمة التي يصعب الخروج منها بلا دعم عربي ودولي فرضت على حزب الله وحلفائه التسليم بصعوبة نقل لبنان بالكامل من موقعه الجيوسياسي التقليدي الى المحور الإيراني. وهكذا جاء وزير الخارجية محمد جواد ظريف الى بيروت وعاد مع عروضه التي بقي الباب اللبناني مغلقاً أمامها. وهكذا تأتي وفود عربية وأميركية وأوروبية بما يشبه زحام الأدوار في لبنان. فهل نحن في مرحلة "ربط نزاع" على المستوى الإقليمي والدولي أيضاً؟ ومتى نقترب بالفعل من حكومة "إلى العمل" وشعب "الى الشارع"؟