بغض النظر عن المواقف التصعيدية الصادرة عن العديد من قيادات النظام الإيراني ردا على قرارات الترويكا الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بالذهاب إلى تفعيل آلية فض النزاعات المنبثقة عن الاتفاق النووي، ولا سيما في المادة 37 منه، وما تعنيه من فتح الباب أمام نقل الملف الإيراني والاتفاق إلى مجلس الأمن وإعادة تفعيل العقوبات الدولية ضد إيران، من دون أن يكون للدول الخمس دائمة العضوية - وهنا بالتحديد روسيا والصين- حق اللجوء إلى استخدام الفيتو على هذا القرار، إلا أن تحذيرات جديّة، ومن داخل التيار المحافظ، ومن قلب البرلمان وعلى لسان الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية، حشمت الله فلاحت بيشه، تكشف ارتفاع منسوب الخوف في الشارع الإيراني.
وهذه المرة لا تقتصر المخاوف على المعارضة والتيار الإصلاحي، من سيطرة لغة وخطاب مختلف وأكثر تشددا عما هو سائد حاليا، على خطاب النظام المتشدد أساسا، وهي تحذيرات تستبطن مخاوف لدى هذه الشريحة من هيمنة المؤسسة العسكرية والقوى المتطرفة على مقدرات النظام، وتعتبرها بمثابة "جرس إنذار". وعلى قيادة النظام الانتباه لخطورة هذا التوجه على مسار ومصير النظام في المستقبل.
أمام هذه التحذيرات التي أطلقها فلاحت بيشه، يبرز التهديد الذي أطلقه رئيس البرلمان، علي لاريجاني، بإمكانية تقليص إيران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأن مشروع القانون المتعلق بهذه الخطوة جاهز وعلى طاولة المجلس، مطالبا المجتمع الدولي والترويكا بالتعامل العادل مع إيران حتى لا تكون مجبرة على ذلك. موقف ذهب وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى خطوة أكثر تشددا منه، عندما هدّد بإمكانية انسحاب بلاده من معاهدة الحدّ من انتشار أسلحة الدمار الشامل "NPT"، ما أثار ردود فعل رافضة حتى من الدول الحليفة، مثل روسيا على لسان مندوبها في الاتفاق النووي سيرغي ريابكوف.
ولعل المسؤولين الإيرانيين اختاروا هذا المسار الذي قد يعيد النقاش حول الملف النووي وأزمته مع المجتمع الدولي إلى النقطة الأولى، ربما في محاولة للانسجام مع التوجه المتشدد الذي تبناه المرشد الأعلى للنظام آية الله علي خامنئي في صلاة الجمعة في 17 يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما كاد أن يعلن العدول عن الفتوى الدينية السابقة التي سبق أن أعلنها بحرمة صناعة واقتناء الأسلحة النووية والكيماوية، عندما أكد في ختام خطبته الفارسية أن "الجهود الوطنية لتعزيز قوة إيران هي الطريق الوحيد لاستمرار مسيرة العزة. وبفضل الله، هذا الشعب وهذا البلد سيصلان في المستقبل القريب إلى نقطة أو مرحلة لن يكون العدو قادرا على امتلاك حتى الجرأة على التهديد".
وهو تلميح يحمل على الاعتقاد بأن القيادة الإيرانية، وبعد انهيار حالة التهدئة القائمة بينها وبين المجتمع الدولي، بدأت نقاشا جديا حول إمكانية الذهاب إلى خيار إنتاج سلاح نووي وتعزيز قدراتها الصاروخية القادرة على حمل هذه الأسلحة إلى مسافات بعيدة من خلال العمل على إنهاء التجارب على النسخة الأولى من صاروخ "شهاب 4"، الذي يبلغ مداه نحو 3000 كليومتر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد يكون الهدف من المواقف الصادرة عن لاريجاني وظريف هو صرف الأنظار عن هذا الموقف للمرشد، وبالتالي تقديم مادة للجدل الدولي، قد تساعد القوى المتزنة داخل النظام على إعادة توجيه البوصلة وقطع الطريق على التيار الساعي للانتقال إلى التصنيع العسكري النووي وإنهاء كل التعاون مع المؤسسات الدولية المعنية بالرقابة على أسلحة الدمار الشامل، ما يعني إشغال الدوائر الدولية في مواقف جدلية قابلة للتفاوض والمساومة بعيدا عن التهديد المبطن الذي أطلقه المرشد، والذي يحمل على تفسيره بالتفكير باعتماد خيار السلاح النووي الذي سيشكّل مظلة تردع الاعتداء على إيران من أي من الأطراف "الأعداء"، وتسمح لها بالتفاوض من موقع القوة، حسب اعتقاد هذه القيادات ومؤيدي هذا التوجه.
ويمكن القول إن الأوساط العقلانية داخل إيران، ليس أمامها سوى توجيه الاتهام للدول الأوروبية، وتحديدا الترويكا، بأنها وجهت ضربة للخطاب الدبلوماسي في التعامل مع أزمة انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي والعودة إلى فرض عقوبات اقتصادية ضد إيران، وعدم قدرة هذه الدول على تفعيل وعودها بإنشاء آلية تعامل اقتصادي ومالي بعيدا عن واشنطن، وهي بالتالي اتخذت مواقف محايدة أو أقرب إلى واشنطن في محاصرة إيران.
وخلفيات هذا الاتهام وهذا التصعيد تعود أسبابه للمخاوف التي يستشعرها هؤلاء من الآثار والتداعيات السلبية التي قد تشهدها الساحة الداخلية، والتي تتجه نحو الترسخ بشكل سريع من خلال سيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصل النظام ومؤسساته الدستورية والموازية من سياسية واقتصادية ومالية وإدارية، ما سيسهم في تغليب لغة وخطاب مختلف عن الخطاب العقلاني والسياسي. والذي يعني في النهاية أن هذه الدول ستكون مجبرة في نهاية هذا المسار على التفاوض فقط مع المؤسسة العسكرية.
ولعل الدعوة التي وجهتها النائبة الإصلاحية عن طهران، والتي عزفت عن الترشح للانتخابات المقبلة، بروانه سلحشوري، للمؤسسة العسكرية بالعودة إلى ثكناتها وعدم التدخل في المجالات الأخرى الاقتصادية والسياسية والمالية وغيرها، ستنتهي إلى ضعف دورها العسكري، والذي قد يجد أحد تعابيره في الخطأ الذي ارتكبته بإسقاط الطائرة الأوكرانية أخيرا.
وإذا ما كانت إيران قد استنفدت خطوات تقليص التزاماتها في الاتفاق النووي تحت المادة 36 منه، وتعتبر نفسها أنها أيضا استنفدت كل الجهود الممكنة في آلية فض النزاعات المدرجة في الاتفاق النووي بعد قرار الرئيس ترمب الانسحاب منه، والتي تهدد دول الترويكا بتفعيلها حاليا، فلم يبق أمامها سوى اللجوء إلى التهديد بخطوات الانسحاب من معاهدة الانتشار النووي أو وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خصوصا ما يتعلق بوقف دخول المفتشين إلى أراضيها.
كل هذه المور تجعل من إمكانية العودة عن خطوة تقليص الالتزامات التي يشدد عليها ظريف في مفاوضاته مع المجتمع الدولي أمرا صعبا بعد انتقال إيران إلى نقطة اللاعودة مع المجتمع الدولي، وبالتالي عليها انتظار عواقبها التي قد لا تقتصر على استكمال دائرة العقوبات والحصار الاقتصادي بمشاركة دولية واسعة إلى جانب واشنطن، بل من المحتمل أن تجعل من خيار العمل العسكري قائما وبتحالف دولي، وما يعنيه ذلك من خسارة كل ما تبقى لديها من أوراق قوة داخليا وإقليميا.