ملاءة لف ومنديل للرأس وسرداب طويل لمنزل يقف في تحدٍ خلف قسم اللبّان القديم، تتصاعد منه أدخنة نفّاذة من البخور العتيق، واختفاء غامض لبعض النسوة يهزّ أرجاء مدينة الإسكندرية طولا وعرضا. يتكرّر الغموض وتتكرر معه تلك الأبخرة خلف "الكراكون". سيناريو نهايته الوحيدة المؤكدة الإعدام شنقا، لكن سقوط "ملاءتي لفّ" لم يحسم الجدل حول حقيقة السيدتين اللتين تخفّتا وراءهما، الشقيقتين "ريا" و"سكينة".
مئة عام تحوّل مسرح الأحداث لأثر
الساعة تعلن الواحدة بعد الظهر بشارع "عليّ بك الكبير" في حيّ اللبان بالإسكندرية. الهدوء يخيّم على مسرح أحداث "ريا وسكينة"، إلا من بعض المارة الذين يسيرون دون اكتراث، ووريقات شجر تدور إثر هبوب عاصفة هواء باردة لتستقر بأرض خاوية على عروشها لم يبقَ بها سوى أربعة جدران، ونافذة حديدية ليست سوى زنزانة قديمة خاصة باحتجاز المتهمين، هي آخر ما تبقى من قسم اللبان القديم بعد هدمه، يواجه أرضه الفضاء منزل "ريا وسكينة"، الذي لا زال مستقرا شاهدا على حكاية الشقيقتين.
أول القصة
اختفاء غامض للعشرينية "ناظلة أبو الليل"، ينتج عنه أول بلاغ إلى حكمدار الإسكندرية في 15 يناير (كانون الثاني) 1920، من والدتها، التي أكدت في بلاغها أن هناك شكوكا حول اختفائها بسبب مصوغاتها الذهبية، لافتة إلى عدم وجود نقصان بمحتويات شقة ابنتها.
حكاية بدأت كواليسها نهاية عام 1919، ليسجل أول بلاغ رسمي عقب الاختفاء الغامض لنساء الإسكندرية منتصف يناير 1920، وبهذا يكون قد مرّ مئة عام على حكاية هزّت أرجاء البلاد.
جلبابان باللون الأحمر... ورواية "عشماوي"
21 ديسمبر (كانون الأول) 1921، حبل يتدلى من سقف غرفة ينتهي بحلقة مستديره، كتب على لافتتها "غرفة تنفيذ حكم الإعدام"، وجلبابان باللون الأحمر صنعا خصيصا للمرة الأولى في السجون المصرية من أجل سيدتين ينفذ فيهما الإعدام للمرة الأولى، في قضية قُيّدت بجدول النقض تحت رقم 1937 سنة 38 قضائية، ويتم تعديل قانون الإجراءات الجنائية المصري بمرسوم ملكي، حيث لم يكن ينصّ ضمن قانون الإجراءات على إعدام النساء.
بملامح باردة، تطلق "ريا" ضحكات ساخرة تواجه بها حبل المشنقة لحظة إعدامها في مشهد نادر، تلك اللحظة المهيبة التي تزلزل الأرض تحت أقدام أكبر عتاة الإجرام. لم تكن تلك المفاجأة الأولى التي شهدتها لحظات الإعدام، بل يتفاجأ عشماوي بشقيقتها "سكينة"، وهي تواجه حبل المشنقة وهي تقول "يلا يا أخينا شوف شغلك قوام".
مفارقة غريبة أيضا في مشهد تنفيذ حكم الإعدام على أكثر رجال "ريا" و"سكينة" ضخامة وبنيانا، ورغم ما عرف عنه من قوة وضراوة، كانت لحظة إعدامه تناقض المشهدين السابقين في مشهد ساخر، حيث بمجرد دخوله غرفة تنفيذ الحكم، والتي عرفت قديما بـ"الغرفة السوداء" ورؤيته لحبل المشنقة يتدلى أمام عينيه يصاب بذعر شديد وخوف هيستيري ينطلق معه بجسده الهائل كثور جامح في لحظات ذبحه ويتغلب وحده على الحراس، ما أدى إلى استدعاء رجال أشداء يسيطرون عليه، ليشنق مكبّل اليدين، بعد أن أرهق رجال الشرطة في محاولة السيطرة عليه.
لم يكن سلوك "ريا" الغريب في مواجهة حبل المشنقة وحده المثير للدهشة، بل أيضا تعاملها "الشاذ" ضد غريزة الأمومة، حين سمعها الضابط "محمود قبودان"، القائم على حراستها وهي تقول لابنتها "أنتي مش ناوية يا بت تنشنقي بدال أمك؟"، وذلك حين كانت تأتي لزيارتها في الحبس عقب إيداعها ملجأ للأيتام بعد القبض على والدتها، وفق ما جاء في حوار مع الضابط أجرته معه مجلة المصور عام 1953.
زنقة الستات... مصيدة الشقيقتين
ثلاث "بلاطات" فقط هي مساحة الحركة في "زنقة الستات" بمنطقة "المنشية" بالقرب من محطة الرمل بالإسكندرية، مساحة تعد أقل من نصف المتر المربع تتحرك فيها السيدات ذهابا وإيابا في خفة ملحوظة، يتراصّ على الجانبين العديد من المحال التجارية الصغيرة، بوصف أدق "دكاكين" على طول الممر، تلتقط عيناك بمجرد الوصول "مانيكانات" للرأس عرضت عليها " البيشة"، يتدلى إلى جوارها "مناديل بأوية" ملونة تلامس رؤوس المارة، اشتهرت نساء الإسكندرية بارتدائها، تقابلهم دكاكين الأقمشة التي كانت "مصيدة" استخدمتها "ريا" و"سكينة" في اختلاق القصص والروايات التي أجادتا حبكها للإيقاع بالضحايا واستدراجهن.
محمود الصايغ (38 سنة)، أحد أصحاب المحال التجارية في "زنقة الستات"، بسؤاله عما يعرفه عن قصة "ريا" و"سكينة"، يروي بثقة أنهما سيدتان كانتا تناضلان وتقوم باصطياد الجنود الإنجليز وقتلهم، يتابع "الصايغ" في استياء أن هاتين الشقيقتين برغم جهودهما في النضال ظلمتا بإعدامهما شنقا واتهامهما بالإجرام واعتبارهما سفاحتين. وبسؤاله عن مصدر معلوماته عن حقيقة قصة "ريا" و"سكينة"، يجيب "قالوا كده".
أما مصطفى أحمد، الشاب العشرينيّ، وأحد أبناء صاحب واحد من دكاكين "الزنقة"، يبتسم في تردد بسؤاله عن حقيقة رواية "ريا" و"سكينة"، يردّ "والله شوية يقولوا إنهم قتالين قتلة وشوية يقولوا إنهم أبطال كانوا بيناضلوا ضد الإنجليز، وإحنا منعرفوش فين الحقيقة".
الشاهد الوحيد يحسم الجدل
بحثنا بحارّة السكاكيني عن خيط لا زال يصلنا بالماضي، خيط واحد يحسم الجدل ويرجح كفة رواية من اثنتين، لنجد أخيرا الشاهد الوحيد على الرواية الحقيقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بملامحه الهادئة وتجاعيد خطت على وجهه سنوات عمره التي جاوزت السبعين خريفا، يقول الحاج متولي، حفيد الجار الملاصق لمنزل الشقيقتين ريا وسكينة، والمجاور لقسم اللبان القديم، لـ"اندبندنت عربية"، إن "ريا" و"سكينة" كانا جيرانا لعائلته، عاصرهما جده، وكذلك والده صغيرا.
يؤكد "متولي" أن الحديث عن قضايا ملفقة لريا وسكينة، الذي شاع أخيرا، ليس له أساس من الصحة، وأن الضحايا بالمحاضر التي أدانتهما، هن سيدات من عائلات معروفة بالإسكندرية ومعروف عناوينهن سواء بالمنطقة أو بالمناطق المجاورة، وذلك نقلا عن رواية جدّه، مشيرا إلى أن "كل اختفاء غامض لكل واحدة منهن كانت عائلتي تتابع ملابساته ويتناقل الجيران في خوف تطورات وتفاصيل حوادث الخطف والاختفاء والتي تطابقت مع ما جاء بالبلاغات الرسمية ووصف الضحايا بمحاضر الضبط والمعاينة لمسرح الجريمة بمطابقة مواصفات السيدات الغائبات مع الجثث التي أثبتتها محاضر المعاينة".
ويقول "متولي" إن ضحايا "ريا" و"سكينة" من السيدات، بحسب رواية جده، كان عدد منهن لهن علاقة مباشرة بهم، مثل خضرة اللامي وناظلة الخيّاطة، اللتين كانتا يترددان عليهم، وكانا ضمن الجيران الذين يعرفونهم ويعرفون عناوينهم التي وردت بالمحاضر الرسمية في تطابق مع الواقع.
ويتابع متولي "في رأيي الشخصي، أرى أن محاولة تبديل أدوار المجرمين لأدوار البطولة يعد عبثا وإشاعات من أجل تسليط الأضواء والاستفادة من البلبلة لأجل الشهرة، حيث إن كل ما ورد بالأوراق الرسمية والمحاضر كان أهل المنطقة من جيران ريا وسكينة شهودا على صحته ووقوعه بالفعل".