لبنان الرائد صار، من دون حرب، واحداً من مرضى المنطقة بالحروب. هو الذي كان مستشفى العرب بات في حاجة إلى سرير في مستشفى الشرق الأوسط. تشخيص مرضه واضح ودقيق. وعلاجه الموصوف ليس مقطوعاً. لكن دون الوصول إليه واستعماله عقبات وأهوالاً ومصالح قوى تصف له علاجات قاتلة. والمفارقة أن فيه قوى تتصرف على أساس أنها الطبيب القادر والمطلوب منه معالجة أمراض المنطقة بدواء واحد اسمه القوة.
والسؤال هو: ما الذي تستطيع فعله حكومة جديدة ولدت على الطريق وسط دخان القنابل المسيلة للدموع والمطفئة لعيون الثوار المطالبين بالتغيير الحقيقي لإنقاذ لبنان؟ حكومة جديدة في الشكل وقديمة في الجوهر. أهم جديدها تسلم ست سيدات حقائب فيها. وأبسط قديمها هو تأليفها بالطريقة التقليدية لجهة المحاصصة بين المتنافسين على الحقائب ضمن فريق اللون الواحد. حتى الوجوه النسائية والوجوه الشبابية الاختصاصية فيها، فإنها لم تأتِ بقوتها ولا بأهليتها ولا بكفاياتها، بل بقوة الأطراف السياسية التي رشحتها وفرضتها كممثلة لها. الرئيس الدكتور حسان دياب تحدث عن "مواصفات مميزة ضمتها الحكومة لمواجهة ظروف استثنائية"، وأعطاها أكثر من اسم: حكومة إنقاذ، حكومة اختصاصيين، حكومة شبان وشابات. لكن التوصيف الشعبي الشائع لها هو: حكومة برئاسة حسان دياب لصاحبها "حزب الله". وبالطبع هناك شركاء لحزب الله في أسهم الحكومة، أبرزهم بالطبع رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل.
ولا يبدل في الأمر أن "حزب الله" ينكر ذلك. فالواقع هو أنه تدرج في اللعبة الداخلية: حين قرر دخول الانتخابات النيابية للمرة الأولى احتاج إلى "فتوى شرعية" تجيز الترشح في نظام لا شرعي بمفهوم ديني. في أول دخول في الحكومة تمثل بوزير ليس عضواً فيه. ثم صار يختار وزراءه من الأعضاء، ويحرص على الابتعاد من الحقائب الحساسة. في حكومة الرئيس سعد الحريري، قرر للمرة الأولى نيل حقيبة مهمة هي الصحة. والآن صار يؤلف الحكومات، إلى حد أن الحكومة الحالية لم تكن لتولد من دون عمله في الكواليس على تنظيم اللعبة وترتيب التوازنات بين حلفائه.
والكل يعرف أنه لا شيء جدياً يحدث في لبنان من دون ارتباط ما بحسابات الصراع الجيوسياسي في المنطقة. من الصراع العربي – الإسرائيلي إلى الصراع الأميركي – الإيراني والصراع بين طهران وعواصم عربية مهمة أبرزها القاهرة والرياض. ومن الوهم تصور الحكومة الجديدة خارج حسابات الصراع. فهي جزء من مواجهة التحديات أمام لبنان في المرحلة الحالية. والتحدي الكبير أمام لبنان مزدوج: كيف يخرج من المأزق المالي والاقتصادي العميق؟ وكيف يوفق بين ما سميناه "النأي بالنفس" عن صراعات المحاور الإقليمية وبين ممارسة حزب الله دور اللاعب في اللعبة الإقليمية والدولية؟
ذلك أن الخروج من المأزق المالي الاقتصادي مهمة مستحيلة من دون تغيير سياسي حقيقي لتحقيق إصلاحات جذرية. والتغيير هو "انتحار سياسي" في نظر الأحزاب والتيارات والطوائف والمذاهب والمرجعيات التي لا حياة لها خارج المحاصصة والصفقات وقوانين الانتخابات التي تضمن لها إعادة إنتاج سلطتها في أي انتخابات نيابية. ولا خروج من المأزق من دون مساعدات عربية ودولية. ولا مساعدات من دون إجراء الإصلاحات المطلوبة كما قيل لنا تكراراً من كل العواصم، بما فيها باريس صاحبة العطف التاريخي على لبنان والتي نظمت مؤتمر "سيدر" ضمن سلسلة مؤتمرات "باريس". وما عاد ممكناً التوفيق بين متطلبات الإنقاذ الاقتصادي والوطني، وهي أقل بكثير من مطالب الثورة الشعبية السلمية المستمرة منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وبين متطلبات التأثر الكثير والتأثير القليل في الصراعات في المنطقة. فالإنقاذ الذي يصطدم بحسابات المصالح الفئوية لأمراء الطوائف في الداخل يصطدم أيضاً بحدة الصراعات في المنطقة ومخاطر الانخراط فيها. وما عاد أحد في الداخل والخارج يأخذ بجدية حديثنا عن "النأي بالنفس" والتزامه في البيانات الوزارية.
والمسألة ليست ما يقوله رئيس الحكومة والوزراء وكبار المسؤولين بل أين يقفون. والانطباع السائد هو أنهم يقفون على أرض ما يسمى "محور المقاومة" بقيادة إيران. فضلاً عن أن هذه الحكومة ليست الأداة الفعلية للتغيير السياسي، وإن كانت توحي أنها مرشحة لذلك. فما تحكّم بتأليفها هو حسابات المصالح السياسية التقليدية، كما لو أن الثورة الشعبية لم تحدث. وما يقوله المسؤولون عن التجاوب مع الثوار و"المحق من مطالبهم" هو مجرد إنشاء عربي. فالرغبات شيء والقدرات شيء آخر، بصرف النظر عن النيات. والظروف الاستثنائية التي يعترف الجميع أننا فيها أقوى من الرغبات والقدرات. لماذا؟ لأن ما صنع هذه الظروف الصعبة والخطيرة هو سلسلة من السياسات الخاطئة في الداخل، وخدمة السياسات الخارجية، ومصالح القوى الإقليمية والدولية التي كانت ولا تزال ترى لبنان مجرد "ساحة" لتصفية الحسابات بالحروب الساخنة والحروب الباردة. ولا شيء تغير في السلسلة.
في العالم شيء اسمه "قانون هيلي": حين تكون في حفرة، فإن أول ما عليك فعله هو التوقف عن الحفر". لكن السياسيين الذين أنزلوا لبنان إلى أعمق هاوية لا يزالون يواصلون الحفر.