إحدى الذكريات الباقية من عام 2018 هي أولى مظاهرات "حرّروا تومي،" التي خرجت في لندن في يونيو (حزيران) الماضي. رجالٌ أغلبهم في الأربعينيات والخمسينيات من العمر تسلّقوا البوّابات عند مدخل داونينغ ستريت، ورموا رجال الشرطة المسلّحين بعلب البيرة وهم يصرخون في وجههم "خائنون." وعلى مقربة من هناك، تمكّن 500 متظاهر على الأقل من طرد رجال الشرطة خارج ميدان ترافلغار.
في الظاهر كانوا يحتجّون على سجن ستيفن لينون ("تومي روبنسون")، ولكن التظاهرة في الحقيقة تخبرنا أكثر من ذلك فيما يتعلّق بتشدّد اليمين المتطرّف في المملكة المتحدة اليوم.
كانت هذه أكبر مظاهرة لليمين المتطرّف منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث سجّلت مشاركة أكثر من 10 آلاف شخص نزلوا إلى الشارع. كذلك حرّكت المظاهرة الشعور المتنامي المناهض للنُّخب في المجتمع، والذي عرضناه في تقريرنا الجديد "دولة الكراهية." ذلك الشعور من شأنه أن يترك صدىً أكبر من العقيدة الفاشية أو أشكال محدّدة أخرى من السياسات المتعصّبة. وقد جمعت المظاهرة بشعارها الزائف "حرية التعبير" طائفة واسعة من الأفراد، من داعمي ترمب والمتشدّدين النازيين مروراً بأعضاء حزب الاستقلال البريطاني المناهض لأوروبا ومثيري الشغب من مشجعي فرق كرة القدم.
لفهم قدرة اليمين المتطرّف اليوم على جذب الناس، على المرء أن يقدّر الشعور المتنامي بالقطيعة بين مجموعات كبيرة من الناس في المجتمع وبين بُنى السّلطة. فقد كشف استطلاع الرأي الذي أجرته مجموعة "أمل لا كراهية" خلال الأشهر القليلة الماضية عدم رضا الناس على نطاق واسع عن النظام السياسي وعن الأحزاب السياسية. الاستطلاع الذي أجرته "أمل لا كراهية" وشركة "يوغوف" في فترة أعياد الميلاد أظهر أن 68 بالمئة من الناس يشعرون أنّه لا وجود لحزب سياسي يمثّل مصالحهم. هذه النسبة تمثّل ارتفاعاً من نسبة 61 بالمئة السابقة التي سُجّلت عندما سُئل الناس السؤال نفسه في يوليو (تموز).
استطلاع رأي آخر أجرته "أمل لا كراهية" في بداية هذا الشّهر أظهر أن 55 بالمئة من الناس يعتقدون أن نظامنا السياسي مُعطّل، في حين أنّ 34 بالمئة فقط قالوا إنّه يؤدّي عمله، ولو لم يكن ذلك بشكل مثاليّ.
إن طريقةَ تعامل سياسيّينا (أو بالأحرى فشلهم في التعامل) مع بريكسيت عمّقت الغضب تجاه الطبقة السياسية في البلاد. هذه المواقف السلبية تجاه النظام السياسي والسياسيين قد تجعل استفادة اليمين المتطرّف من الفجوة بين الشعب والمؤسسة الحاكمة أمراً غير مُستغرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمّا سرديّة "الخيانة" و"الخونة" التي تهيمن بوتيرة متسارعة على خطاب اليمين المتطرف، فإنّها تصبّ تركيزها على أعضاء مجلس البرلمان – وتحديداً النساء منهم. فخلال العام الماضي، العديد من النساء من أعضاء مجلس البرلمان استُهدفن من نشطاء اليمين المتطرّف أو من رجال غاضبين بشكل عام.
شهد العام الماضي تصاعداً مستمرّاً للحركة المناهضة للحركة النسوية أيضاً. لطالما تسبّب تزايد المساواة بين الجنسين بردّة فعل ذكورية عنيفة في المجتمع، انعكست بدورها على آراءٍ وسياساتٍ لليمين المتطرف شديدة العدائيّة في مناهضتها للمرأة. وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدنا في السنوات الأخيرة انبثاق حركة حقوق الرجال ونمو شعبيتها.
واحد من عوامل التأثير على فهم اليمين المتطرف الحالي للسياسات المُتعلقة بالجنس، يتمثل في ما يُدعى الـ "مانوسفير،" أو الحيّز الذكوري، وهو مجموعة من المواقع الإلكترونية والمنتديات والمدوّنات الكتابية ومدونات الفيديو تهتم بالقضايا المتعلقة بقضايا الرجال والذكورية، وتتمحور حول معارضة الحركة النّسوية وتشتمل أجزاءٌ منها على خطاب كراهية النّساء المتطرّف.
في هذه الأثناء، كانت ترقية "جيرارد باتن" الذي أصبح زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة إيذاناً بانتقال الحزب ليصبح يمينيّاً متطرّفاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكذلك تبنّيه خطّة عمل مناهضة للمسلمين بقوّة.
هذا الانتقال نحو اليمين تزامن مع حركة انتقال إلى سياسة الشارع، إذ أصبح باتن الآن متحدثاً مستمراً في تظاهرات "تحالف الشباب الديموقراطيين لكرة القدم"، بالإضافة إلى تعيين ستيفن لينون مستشاراً له لشؤون متابعة العصابات.
ومن خلال تصويت أجريناه لإعداد تقريرنا، تبيّن أنّ لينون بقي يتصدّر قائمة نشطاء اليمين المتطرّف في المملكة المتّحدة، حيث أنّ 55 بالمئة من البريطانيين قالوا إنّهم سمعوا به، الأمر الذي يجعله شخصيّة معروفة أكثر من بعض السياسيين الوطنيين. ومن هؤلاء، 37 بالمئة شاهدوا أو سمعوا أحد فيديوهاته على وسائل التواصل الاجتماعي. هذه النّسب تزداد لتصل إلى 57 بالمئة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 – 24 سنة.
مع ذلك، فإن السّواد الأعظم من الناس يحملون انطباعات سلبيّة عن لينون، إذ إنّ 6 بالمئة فقط ينظرون إليه نظرة إيجابية.
في المقابل، في حين أن شركات التواصل الاجتماعي تواصل حذف حسابات شخصيّات اليمين المتطرّف من منصّاتها بشكل متزايد، إلّا أن هناك توجّهاً متصاعداً للكراهية على الإنترنت، والبريطانيون يقعون في منتصف هذه التوجّهات، ذلك أنّ 5 من بين كل 10 ناشطين من اليمين المتطرّف في العالم الذين تصل منشوراتهم إلى قاعدة أكبر من جمهور منصّات التواصل الاجتماعي هم بريطانيون.
وفي حين أن أغلب الاعتقالات المتعلّقة بالإرهاب العام الماضي كانت لإسلاميين مزعومين، إلا أنّ عدداً متزايداً من المُعتقَلين كانوا من اليمين المتطرف كذلك، بمن فيهم جماعة "العمل الوطني" المحظورة (التي حُكم على عدد من أعضائها بموجب قوانين مكافحة الإرهاب العام الماضي). وعلى الرغم من أن "العمل الوطني" لم تعد تشكّل تهديداً بصفتها منظّمة، إلّا أنّه قد حل مكانها مجموعات أخرى أصغر حجماً لكنّها أكثر تشدّداً.
أحدث هذه الجماعات هي الأكثر مدعاة للقلق بينها كلّها، وهي جماعة "سونينكريغ ديفيجين." تستند الجماعة في عقيدتها النازية المتشدّدة إلى أثر "أوردر أوف ناين آنجلز”، أخطر الجماعات النازية الشيطانيّة تطرّفاً في العالم.
جماعة "أوردر أوف ناين آنجلز،" التي كان زعيمها ديفيد مايت قائداً مُلهماً داخل عصابة النازيين الجدد "كومبات 18" قبل أن يصبح إسلاميّاً وداعية مهمّاً للقاعدة، كان لها أيضاً تأثيرها على جماعة "العمل الوطني."
إن التوجّه لتشكيل جماعات تضم نازيين يافعين أكثر تشدّداً يشكّل مصدر قلق حقيقي. لكن تقريرنا يُلقي الضوء كذلك على التهديدات التي يشكّلها المتطرّفون الإسلاميون الذين يُطلق سراحهم من السجن، بمن فيهم أنجم تشودري. إنّ مجرّد ظهور مثل هؤلاء الناس مجدّداً في الشوارع من شأنه أن يُلهم ويعيد جمع شتات الدّاعمين لهم.
الدراسة التي قمنا بها من أجل تقريرنا "دولة الكراهية،" التي شملت آلاف الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لأفرادٍ محسوبين على اليسار السياسي، تعطي لمحة عن المدى الذي وصله اليسار في عدائه للساميّة.
ففي حين أن المعاداة العلنية للساميّة وإنكار الهولوكوست هما أمران غير شائعين، إلّا أن مجموعة كبيرة من الناس منخرطون في المعاداة التآمرية للساميّة ويستعملون الاستعارات المعادية للسامية، خاصّة تلك المتعلّقة بالقوّة المزعومة لليهود، وهناك كذلك مجموعة أكبر من الذين ينكرون وجود مشكلة من الأصل ويعتبرون أنّ القضيّة ليست سوى تبادل اتّهامات بين اليمين وبين الصهيونية.
للمحافظين قضاياهم الخاصّة مع التّحامل ضد المسلمين، فنصف المصوّتين للحزب عام 2017 يعتقدون أن الإسلام لا يتّفق مع الأسلوب البريطاني للحياة، في حين يعتقد 47 بالمئة منهم أن هناك مناطق في بريطانيا تحكمها قوانين الشريعة الإسلامية ويُحظر على غير المسلمين دخولها.
ولكن، من بين كل ذلك، سيهيمن بريكسيت بكل وضوح على السياسة البريطانية في 2019، وبما أن احتمالية خروج صعب لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي "هارد بريكسيت" ضئيلة للغاية، فإن اليمين المتطرّف سوف يعتمد على سرديّة "خيانة بريكسيت" بشكل كبير.
ومن ناحية أخرى، يدّعي حزب استقلال المملكة المتّحدة أنّ ثلاثة آلاف مرشّح سيمثّلونه في انتخابات مايو (أيار)، إلا أن ذلك من المحتمل أن يطغى عليه إطلاق نايجل فاراج "حزب بريكسيت."
من المحتمل أن نرى مزيداً من التظاهرات في الشارع، والتي ستكون بلا شك متفاوتة في حجمها وحدّتها حسب الأحداث، وكذلك فإن صوت اليمين المتطرف القوي في انتخابات البرلمان الأوروبي سيعزز شعبية اليمين المتطرّف والشعبوية اليمينية في المملكة المتحدة.
© The Independent