لازمَ تكوين الدولة السودانية- على الرغم من تاريخها الطويل نسبياً مقارنة بالدول في المنطقة العربية والأفريقية- الفشل في أن يخرج بصيغة واضحة بعيداً من التوتر القومي. فقد كان الوعي بالمكونات الأفريقية طيلة ثلاثين عاماً باهتاً على الرغم من التأثير القوي لحركات التحرر الأفريقية في السودان والمنطقة. ليس هذا فحسب وإنِّما كانت وظيفة التيار السلطوي في عهد النظام المحلول، هي بناء شكل من أشكال الحكم يقوم بالزودِ عن الثقافة العربية والإسلامية نيابة عن العالم العربي والإسلامي وليس أصالةً عن نفسه. ولكن المشكلة الكبرى هي في أنَّ هذا المركز "السودان الشمالي" يُعدُّ بشكل آخر هامشاً له، أما التحدي أمام الحكومة الانتقالية فهو في إنعاش الهوية التي كُبحت عبر آليات الهيمنة والسيطرة.
إنّ تعقيد الهوية السودانية يكمن في إشكالية مدى إدراك السوداني هذه الهوية. وهذا الإدراك يختلف من مجموعة إلى أخرى بحسب التقسيم المناطقي. أما الأهم من هذا الإدراك فهو في مدى مقدرة هذه المجموعات على التعايش السلمي الذي يبرز كأحد مكونات الدولة الأساسية، ومدى احترامها لبعضها بعضاً. هذه المجموعة أو تلك لديها من الحقوق والواجبات مثلما لغيرها، فضرورة الاعتراف بهذه الحقيقة هو جزء من مفاهيم الدولة الرشيدة الذي يجب أن تزرعه في نفوس أفراد المجتمع.
بين الهامش والمركز
اقترنت على مدى تاريخ السودان الحديث، التفاصيل الثقافية التاريخية بالسياسة، فما من مسألة تتعلق بقضايا الهوية والوعي الاجتماعي بالمكون الذاتي والمكوّن المختلف إلا وارتبطت بشكلٍ مباشر بالسياسة. وإذا أخذنا قضية الوحدة التي تعتبر من أكثر القضايا ارتباطاً بالمكونات الاجتماعية والثقافية في السودان، نجد أنه قد تم إقصاؤها من مكونها الثقافي إلى عالم السياسة لتصبح مفردة سياسية بامتياز.
أما وقد صار السودان إلى ما صار إليه فإنَّه عندما حدث انفصال الجنوب عن الشمال وفقاً لاستفتاء عام تم في يناير (كانون الثاني) 2011، فقد ألهب حق تقرير المصير صدور جماعات الهامش في أقاليم عديدة من السودان. وقد كانت هذه الأقاليم ترى من قبل في ما يرى المنادون بالوحدة أنَّ مقوماتها الثقافية أقوى من مقومات الانفصال، ولكن استعلاء سلطة الإنقاذ السابقة التي استولت على الحكم إثر انقلاب عسكري عام 1989، ابتسرت قدَر السودان المتنوع في أن تكون وحدته في حوارٍ قائم ومساءلة تاريخية بين المركز والهامش.
وعلى الرغم من تغير أشكال الحكم في السودان منذ استقلاله عام 1956 من عهود ديمقراطية شهدت المناداة بقوانين العدالة الاجتماعية، إلى عهود ديكتاتورية شهدت سيطرة الفرد إلا أنها تقاربت وجهات نظرها في طرح مبادئ الاشتراكية. ففي تجربة الرئيس الأسبق جعفر محمد النميري الذي انقلب على النظام الديمقراطي عام 1969 وإلى أن تمت الإطاحة به في انتفاضة شعبية عام 1985، كانت العدالة الاجتماعية أقوى شعارات نظامه. فقد التف حول هذه الشعارات التي كانت ديدن اليساريين والبعثيين والقوميين العرب والناصريين، كثير من الأكاديميين والمثقفين لأنها وعدت بنقل البلاد إلى التنمية ابتداءً من الأرياف وهوامش الأقاليم البعيدة. ولا يمكن فهم أنَّ نظام الإنقاذ قد انقلب على هذه القاعدة إلا باستبيان أنه عندما كانت رموز النظام في صفوف المعارضة ككوادر للجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي قبل الإنقاذ، كانت من ضمن شعاراتهم العدالة الاجتماعية والاشتراكية بثوبها الإسلامي. وهذا لا يبرر خلق دائرة احتراب عقائدية وفقاً لإيمان الفئة الحاكمة من دون اعتبار بقية المجتمع. كما أنه لا يعطي الحق في أدلجة المجتمع وفقاً لمعتقدات النظام سواء كان يسارياً أو إسلامياً أو غير ذلك بقدر ما يعطي أوجهاً للتشابه في ركوب موجة الدين لحماية النظام. وقد فعلها الرئيس النميري في أواخر أيام حكمه، فقد قام بتطبيق الشريعة الإسلامية، مما اعتُبر تحولاً كبيراً في سياسة نظامه.
ومواصلة لما تم فرضه من جعل الإسلام وشريعته نقطة من نقاط الجدل الواسع بين مكونات المجتمع السوداني المتباينة إثنياً ودينياً، فإنَّ السلطة الحاكمة في الشمال "المركز" تتعامل مع أهل الهامش على أنهم أقوام ناقصي أصل ودين. مع أنَّ المسلمين منهم أكثر حرصاً على تطبيق الشريعة التي تساوي بين الناس وتحارب مظاهر الفساد واستغلال المناصب. وبناءً على هذه الدعوة الفكرية والدينية لتصحيح مسار حياة الآخر المختلف فقد تم فرض اللغة العربية بدلاً من اللهجات المحلية، وبهذا يمكن التشكك في مقدرة الجماعات حال تسنمها زمام السلطة بخاصة تلك التي تعتد بعرقها ودينها في تحكيم ديمقراطية التعايش القومي بدلاً من الاستعلاء العرقي.
فشل إدارة التنوع
يستبين الفشل الذي أدى إلى فرض اللغة العربية والتباهي بها عوضاً عن تركها تنساب انسياباً سلسلاً باعتبارها موصّلاً ثقافياً، وذلك في الفشل الذريع بالإقرار بأنَّها كمكون رئيس لعلاقات الانتماء القومي للشخصية السودانية، هي لغة مشتركة بين الجماعات القبلية بصفتها الحضارية بغض النظر عن أصولها العرقية. فمثلاً يتحدث أهالي جنوب السودان لهجة عربية مبسطة من اللغة العربية تُسمى "عربي جوبا" كقاسم لغوي مشترك في ما بينهم من جهة، وبينهم وبين الشمال من جهة أخرى في حين أنهم يملكون عشرات اللغات واللهجات المحلية.
كما أن الفشل أيضاً يبدو في عدم فهم التيار السلطوي أنّ الدين الإسلامي هو عنصر موّحد. فعلى الرغم من أن قبائل مثل البجة في شرق السودان وقبائل إقليم دارفور وجبال النوبة تتحدث لهجاتها المحلية الأصلية إلا أنها تدين بالدين الإسلامي ولم يقترن ذلك بأن لغتها الأصلية هي العربية، بل وصل بها الحال إلى أن شقت رحلاتها غرب أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي داعية إليه بلغاتها الخاصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذن لا بد من النظر إلى الهوية العربية والأفريقانية ليس كهويتين متناقضتين ولكن كهوية واحدة تجمعهما علاقات تكاملية متنوعة تخضع للعوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية والاجتماعية والحضارية. إنَّ محاولة صوغ هوية سودانية ذات اتجاه أحادي، يعتدُّ بالهوية العربية أو الأفريقية وحدها، يعتبر محاولة أقل ما ستفعله أنها ستسهم لا محالة في إعادة إنتاج أزمة الهوية التي رافقت جميع الحكومات المتعاقبة على السودان وأخفقت في إدارتها.
إذا نظرنا في تجارب التعايش السلمي في دول العالم ذات التنوع الحضاري والثقافي، فإننا نرى أن هذا التعايش لا يتحقق إلا باحترام هذا التنوع وعدم الهجوم على ثقافة أو أمة أو دين أو معتقد. فالولايات المتحدة الأميركية كنموذج لذلك يلتقي في داخلها العديد من الأديان والأعراق والثقافات في غير ما تناقض أو انفصام، بل انصهرت كل هذه المكونات فخلقت تنوعاً نجح في أن يكون مصدراً للثراء الفكري والوئام المجتمعي. في ظل تنوع المجتمع الأميركي، أصبح النشاز هو الرأي المتعصب إلى فئة أو دين وبذا نجحت الولايات المتحدة الأميركية في أن توظف هذا التنوع لتحقيق الأهداف الوطنية والرفاهية لمجتمعها.
هناك مسؤولية عظيمة تقع على عاتق الحكومة الانتقالية في ظل التنوع الهائل، فليس المطلوب منها فرض صيغة تعايشية على الجميع وإنما تكمن مسؤوليتها في أن تترك العلاقات بين الناس تنساب بشكلها الطبيعي. ولكن مع ذلك يجب عليها تهيئة البيئة المناسبة لامتصاص كل التناقضات وصيغ التشدد حتى يتم التوصل إلى شكلٍ من التعايش تكون فيه الأعراف والعلاقات الاجتماعية السمحة هي القانون المتبع من دون فرض قانون فوقي. فعند التواضع على هذه الصيغة غير المفروضة بالقوة يتم تفادي الآراء المتشددة التي تعمل على تهميش وإقصاء الآخر.
إنّ الصراعات المستفحلة التي ينوء بها كاهل السودان، ما هي إلا نتيجة لاتباع نهج تهميش الآخر وإقصائه وكبته. إنّ الفرق بين المجتمع السوداني وحكومته هو أن المجتمع يعترف بالتعددية وله استعداد للتعايش السلمي في ظل تنوعه، أما الحكومات المتعاقبة على السودان فلم تسع للتأسيس للتعددية لرفضها هذا المبدأ. وللتحرر من هذا الفشل الذريع في إدارة التنوع الذي يذخر به السودان، فإنَّه لا بد من تأسيس نظام حكم ديمقراطي يضمن مشاركة ممثلين عن كل فئات المجتمع من دون تمييز. وقبل ذلك، لا بد من أن تتحرر الرموز الحاكمة من الضيق بالآخر ورفضه وذلك بإعطائه مساحة من القبول.