يتجادل الأوروبيون مع الروس والصينيين لكنّهم يتناوشون في ما بينهم كذلك حول طرق التعامل مع إيران. ويواصل الأميركيون من جهتهم إرهاب الجميع. بينما تقلق فرنسا وألمانيا من مخالفة لندن موقفهما وانضمامها إلى حملة "الضغط الأقصى" التي تفرضها واشنطن على إيران في خطوة من شأنها إجهاض المحاولات المتعثّرة لإنقاذ خطة العمل المشتركة الشاملة، أي الإتفاق النووي المبرم بعد سنوات من الجهود الدبلوماسية والذي تعمل واشنطن عملياً على تخريبه.
وفي هذه الأثناء، ينمو برنامج إيران النووي يوماً بعد يوم. وتخطّت طهران خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي عتبة 1.200 كيلوغرام من مخزون اليورانيوم المخصب الصالح للاستعمال في المفاعلات، وهي كمّية تكفي لإنتاج رأس نووي حربي واحد، إذا قرّرت المسارعة إلى صناعة الأسلحة.
وتباهى المسؤول في هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أصغر زارعان، خلال نهاية الأسبوع الماضي بأنّ "إيران تزيد قدرتها على تخزين اليورانيوم المخصّب بأقصى سرعة".
وعلى الرغم من تراجع احتمالات نشوب حرب شاملة بعد اغتيال القائد الإيراني، قاسم سليماني، وشن ضربات جوية إنتقامية على قاعدة جوية أميركية في العراق، يرى الخبراء والدبلوماسيون أنّ الأزمة بين واشنطن وطهران لن تنتهي عمّا قريب.
وما زال الوضع محفوفاً بالمخاطر والأزمة تتفاعل ببطء، وقد تنفجر وتغطّي على كل ما عداها.
ويقول دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى من خبراء السياسة الخارجية للاندبندنت "هناك توافق أننا نريد للأمور أن تهدأ قليلاً. ربّما نصل في النهاية إلى سيناريو كارثي لكننا لم نبلغ هذه المرحلة بعد. ونحاول تفاديها".
وبالفعل، على الرغم من سوء الأوضاع مع إيران، يمكن للأمور أن تتدهور أكثر بسرعة. فنقاط التصادم المحتملة بين واشنطن وطهران وحلفائهما كثيرة.
تجتاح القوات المدعومة إيرانياً وحلفاؤها في سوريا محافظة إدلب فتشنّ عليها هجوماً شديداً ومتواصلاً "روّع (واشنطن) وهالها" حسب تصريح جيمس جيفري مبعوث الولايات المتحدة الخاص لشؤون سوريا وإلى التحالف الدولي ضد داعش أمام الصحافيين يوم الخميس.
وفي اليمن، يتصدى المقاتلون الحوثيون، حلفاء إيران، لهجوم القوات السعودية المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها المحليين. وفي العراق ولبنان، يقمع حلفاء إيران التظاهرات التي تدعمها واشنطن ضمنياً.
وفيما يصرّون أنهم يُحاصرون، يحذّر المشرّعون والمسؤولون الإيرانيون مرة بعد مرة أنهم قادرون على الإنسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وهو الإتفاق الذي أبرم منذ خمسة عقود وتخلّت طهران بموجبه عن تطوير الأسلحة النووية مقابل السماح لها باستخدام التكنولوجيا النووية لأهداف سلمية. وهو تهديد لا يستخفّ به الدبلوماسيون الغربيون أبداً.
ويقول المسؤول الأوروبي "إذا تفاقم هذا الوضع، سيكون الإنسحاب من معاهدة عدم إنتشار الأسلحة النووية أحد الخيارات المتاحة أمامهم. وقد يسيرون على خطى كوريا الشمالية. لسنا متأكّدين من أنّهم سيقدمون على هذه الخطوة فربّما يحاولون تعزيز نفوذهم فقط. لكن لا أظننا نرغب في اكتشاف إن كانت الخطوة هذه على سبيل الخداع والحيلة أم لا".
وما أطلق شرارة الأزمة الحالية المتنامية هو انسحاب دونالد ترمب من خطة العمل المشتركة الشاملة، الاتفاق النووي، في العام 2018 وفرضه من جديد عقوبات على إيران. ورمت خطّة الإدارة الأميركية التي روّجت لها زمرة صغيرة من صقور واشنطن يصغي الرئيس إليها، إلى خنق الاقتصاد الإيراني وتقييد البرنامج النووي الإيراني، وتجفيف تمويل عمليات ميليشيات إيران الخارجية وبرامج صواريخها وإجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات للتوصّل إلى اتفاق أفضل وأشمل.
لكن يبدو أنّ هذه الخطة فشلت بكل المقاييس.
وطالبت إيران بإزالة العقوبات الأميركية قبل العودة إلى المحادثات.
وبعد مدة من الهبوط السريع في أعقاب استئناف العقوبات، عادت العملة الإيرانية لتستقرّ وسجّلت ارتفاعاً بنسبة 138 في المئة في سوق الأسهم منذ بداية السنة حسب التقويم الإيراني في مارس (آذار) الماضي، وثمة مؤشرات إلى شراء الصين خلسةً كميات متزايدة من النفط الإيراني الذي يعدّ ركن اقتصاد البلاد وفقاً للخبراء.
وبعد تذرعها بأن الأوروبيين لا يتحركون بالسرعة الكافية لتقديم حوافز اقتصادية تحملها على مواصلة التزام الاتفاق، بدأت إيران بالانسحاب التدريجي من التزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة، فزادت عدد أجهزة الطرد المركزي التي تعمل بها وتجاوزت الحدود المفروضة على مخزونها من الوقود.
وجاء في مذكّرة أصدرتها منظمة صوفان، شركة الإستشارات الإستخباراتية المتخصصة بإدارة المخاطر، هذا الأسبوع "أصبحت "مدة الاختراق النووي"- أي المدّة التي تحتاجها إيران لتجميع ما يكفي من المواد الإنشطارية من أجل صناعة سلاح نووي بعد أن تقرّر المضي قدماً في هذا المسار- أقل من عام، أي الوقت الذي حرصت خطة العمل المشتركة الشاملة إلى الحفاظ عليه".
كما أشعل الإنسحاب الأميركي من الاتفاق النووي سلسلة من التهديدات والمواجهات المسلّحة المتزايدة بين إيران والولايات المتحدة.
وخلال فصل الصيف الماضي، أسقطت إيران طائرة أميركية مسيّرة باهظة الثمن بمحاذاة السواحل الشمالية للخليج ويزعم أنها هاجمت ناقلات النفط في مضيق هرمز بينما شنت هي أو حلفاؤها اليمنيون هجوماً مدمّراً ومعقدّاً على المنشآت النفطية السعودية بواسطة طائرات مسيّرة.
وهذا العام، إغتالت الولايات المتّحدة بدورها سليماني أثناء مغادرته مطار بغداد الدولي وردّت عليها إيران يوم 8 يناير (كانون الثاني) بشن ضربات جويّة على قاعدة عسكرية في العراق أسفرت عن إصابة 50 جندياً على الأقل عانى 19 منهم بإصابات بليغة لدرجة أنه حتى الأسبوع الماضي، لم يكونوا قد عادوا إلى الخدمة الفعلية بعد.
واعتمد المسؤولون الأوروبيون طوال أشهر على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كي يقنع ترمب والرئيس الإيراني حسن روحاني أن يتصرّفا بعقلانية. لكن هذه المقاربة فشلت. وهم يعقدون آمالهم الآن على نجاح بوريس جونسون الذي يشاركهما بعض الصفات الشعبوية. لكن قلّة يأملون أن يستطيع تحقيق أيّ إنجاز يُذكر.
والإحتمال الأكثر منطقية هو انتظار خسارة السيد ترمب للإنتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) وعودة جو بايدن أو إليزابيث وارن إلى الإتفاق النووي بحلول 20 يناير 2021.
وتقول إيللي جيرانمايه، الخبيرة في الشؤون الإيرانية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية "وصلنا اليوم إلى طريق مسدود. وتركّز المبادرات الدبلوماسية على الحدّ من الأضرار عوض أن تدفع نحو أي انفراج سياسي. وأفضل ما يمكننا أن نأمل بحدوثه من خلال المسارات الدبلوماسية المتعدّدة هو إطالة مدة التهدئة قبل اندلاع جولة جديدة من التصعيد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرجّح متابعو الشأن الإيراني وخبراء الأمن المختصون بالخليج حدوث مواجهة عسكرية جديدة بين إيران والولايات المتّحدة. فعلى الرغم من الوعد الذي قطعه السيد ترمب "بوضع حد للحروب المتناسلة إلى ما لا نهاية" عزّزت الولايات المتحدة وجودها العسكري في الشرق الأوسط فزادت عدد قواتها أكثر من 13 ألفاً.
ولا تبذل إيران أي جهد يُذكر في المقابل من أجل التخفيف من حدة التوتّر بل تقابل كلّ استفزاز أميركي بخطوة مثيلة.
بل أجرت مؤخراً أوّل تدريبات عسكرية مشتركة لها مع الصين وروسيا. كما يقال إنّها تعد لإطلاق المزيد من الأقمار الصناعية باستخدام الصواريخ وهو ما يعتبره خبراء عدم انتشار الأسلحة النووية تجارب على بلوغ الأسلحة العابرة للقارات أهدافها.
وبسبب بريكست والأزمات الدولية من ليبيا إلى أوكرانيا التي تثقل كاهلهم، لم يعد لدى الزعماء الأوروبيين وإدارات الخارجية في البلدان الأوروبية القدرة على التعامل مع الأزمة الناشئة بين طهران وواشنطن. لكنهم يعلمون أنّهم مضطرّون للتعامل معها.
وأصبحت المشاورات مع المسؤولين الإيرانيين بشأن برنامج بلادهم الصاروخي وانتشار قواتهم المسلّحة في المنطقة أكثر تباعداً ووصلت إلى حائط مسدود. لكن الحوار مع واشنطن بات هو الآخر عقيماً في عدد من الجوانب مع بدء تعقيدات الدورة الانتخابية للعام 2020.
وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على حكم إدارة ترمب، ما زالت تصرّفات وتصريحات معظم الزعماء الأوروبيين لا تنمّ عن فهمهم لدرجة الخطورة التي بلغتها السياسة الخارجية للولايات المتحدة من جهة تقلّبها وعدم ترابطها ولا سيّما في ما يعني الِشأن الإيراني.
ويعود هذا الأمر جزئياً إلى أنّهم لم يصادفوا سابقاً أي زعيم أميركي لا يلتزم بالمبادئ الأميركية التقليدية بشأن حماية المصالح الوطنية ولا يبدو مهتماً سوى بسلامته السياسية والمالية الشخصية.
ويوضح جيفري لويس، خبير عدم انتشار الأسلحة النووية والمسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية الذي يعلّم حالياً في معهد ميدلبوربي للدراسات الدولية في كاليفورنيا "لا تعلم إدارة ترمب ما هي فاعلة".
ويضيف لويس الذي يجاهر بدعمه لخطة العمل المشتركة الشاملة "أعتقد أنّ استراتيجيتهم داخلية تماماً. وقوامها إطلاق التصريحات القاسية كي يسمعها عامة الأميركيين. ويردّدون عبارة الضغط الأقصى كما لو كانت تعويذة".
ويعتقد لويس أنّ هذه الإستراتيجية من تصميم صقور واشنطن على ما يبدو وهدفها إطلاق حرب قد تؤدي إلى تغيير النظام في طهران.
ويضيف "لكن الرئيس لا يريد الحرب. بل القاعدة الأساسية الوحيدة في السياسة المتّبعة مع إيران هي أنّ ترمب لا يريد حرباً مع إيران فعلاً".
مدفوعة بقلقها من تطوير البرنامج النووي الإيراني، فعّلت دول الثلاثي الأوروبي أي المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا الشهر الماضي آلية فضّ النزاعات بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة التي يمكنها أن تفرض على إيران المثول أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وتدمّر الإتفاق النووي للأبد.
ومارست إدارة ترمب من جهتها ضغوطاً على المملكة المتحدة والدبلوماسيين الأوروبيين طوال أشهر كي يفعّلوا هذه الآلية وهددتهم بفرض رسم جمركي إضافي بنسبة 20 في المئة على صادراتهم من السيارات إلى الولايات المتّحدة في حال لم يتّخذوا هذه الخطوة. لكنّهم كانوا يميلون لاتخاذ هذا القرار في أيّ حال جزئياً من أجل الحفاظ على صدقيتهم في مواجهة تزايد العدوانية الإيرانية ولكن أيضاً بسبب نقص الخيارات والقنوات الدبلوماسية المتوفّرة بين أيديهم.
وما يزيد الموضوع تعقيداً هو انفراط عقد بقية الاطراف من مناصري خطة العمل المشتركة الشاملة. فموسكو وبكين تتبنيان الموقف الإيراني القائل بضرورة أن تتطرق آلية فضّ النزاعات أوّلاً إلى إعادة فرض العقوبات الأميركية. وتحيط التساؤلات بموقف المملكة المتحدة من خطة العمل بعد بريكست. فهل من ثلاثي أوروبي بعد 31 يناير (كانون الثاني)؟
يقول أحد المسؤولين الأوروبيين "يتألف الثلاثي الأوروبي من ثلاث دول أعضاء في الإتحاد الأوروبي لكنه مستقلّ رسمياً ومؤسسياً عن الإتحاد الأوروبي. لذا فالموضوع يعود في النهاية إلى نوايا الدول الأعضاء منفردة".
كما تلفّ بعض الحيرة طبيعة آلية فضّ النزاعات نفسها.
ويتابع المسؤول الأوروبي في هذا السياق فيقول "تختلف وجهات النظر عمّا نفعّله هنا. ويصبو الجميع إلى إرساء أرضية مشتركة. ولا يريد أحد التسرّع باتّجاه اتّخاذ خطوات إضافية".
© The Independent